إذا كان منهج المؤلف، يتسم بالعمق والاستقراء الذي ينتهي به إلى التقرير أو النقد أوالإبداع، بخصوص علوم الكون والطبيعة، والذي يعد مطلبا ملحا لتجديد التدين وفهم الدين وفق متطلبات العصر، وتحقيق مبدأ صلاحية الدين الإسلامي لكل زمان ومكان؛ فإلى أي حد استطاع المؤلف اتباع المنهج نفسه، بخصوص علوم الشريعة؟
وبصيغة أخرى: إلى أي حد استطاع المؤلف أن يجمع بين عنصري التجديد والتأصيل؟
أزعم أنه ومن خلال اطلاعي المتواضع على جل ما ترجم إلى اللغة العربية للأستاذ فتح الله كولن، والتي فاقت السبعين كتابا، أنه لايكاد يخل أحدها، من عبارة أو إشارة تدعو للاجتهاد والتجديد ونبذ التقليد؛ بل قد أتجرأ في القول بوجود اجتهادات عملية وتطبيقات ميدانية في تلكم الكتب، لكل ما يقوله أويُنشئه هذا الرجل الظاهرة. كما نلاحظ أنه يعتبر نفسه مسؤولا عن رفع الهمم وحفز النفوس من أجل رجوع الأمة إلى مكانتها التي تليق بها بين الأمم. ومن أقواله في هذا الصدد بهذا الكتاب محل الدراسة: ( وأرى لزامًا عليَّ أن أبادر بالقول بأن عصرنا قد صار مسرحًا لتطورات علمية كثيرة، وذلك يحفِّز فينا الأمل في المستقبل، ولكن الحقيقة هي أنه كلما بلغت التقنيات والحضارة الذروة فسيعني ذلك أن هناك في الوقت ذاته أنواعًا من التهديدات والمَخاطر، ولا يمكن تخطيها والحدُّ من أخطارها إلا بالأسس التي جاء بها القرآن، ….، ومن هذا المنطلق يجب على المفكرين والباحثين المسلمين القيام بمهام ووظائف كبيرة في هذا المجال.)[1]
إن الاجتهاد والتجديد والدعوة إلى ذلك، أصبح همّا يسكن السيد فتح الله كولن؛ وأرى أن دعوته إلى فهم جديد للقرآن منذ مطلع الكتاب، هي ضمنيا دعوة إلى الاجتهاد؛ بل هي أحد مداخله، كما سبق القول بخصوص أهمية المداخل عموما ومدخل هذا الكتاب بوجه خاص. فتأمل قول:(…إذًا فلنجتهد في فهم القرآن على هُدَى أفق سلطان الأنبياءﷺ، فالتلاوة وحدها لن تبلغ بالإنسان المستوى المنشود من التعمق والشعور، وإن الذين يسبرون أغوار القرآن سيتمتعون بالعمق الروحي ويُوفَّقون لتأسيس رابطة بينهم وبين القرآن، ولن يتسنى إدراك الصلة بين الله والكون والإنسان إلا بالقرآن..)[2]
صحيح أن المؤلف خصص للعلوم الطبيعية والإنسانية حيزا مهما في هذا الكتاب، وقد بينا كيف كان دوما يعتبر ذلك وسيلة لفهم القرآن، لا غاية من أجل تفهيم أو استعراض تلك العلوم؛ لأن المؤلف يعتقد أن الرؤية النافذة إلى البيان القرآني تُجلي أمامنا كثيرا من النصوص التي يذهب البعض إلى تأويلها. كما قال في هذا الكتاب بمناسبة حديثه عن المنظومة الشمسية ونشوء الكرة الأرضية: ” أما القرآن المعجز البيانِ فهو يستخدم في هذا الباب أسلوبًا مختلفًا، فلا يدخل في التفاصيل ولا يتطرّق للقضايا الجزئية، بل يربط كل شيء بالمشيئة والإرادة الإلهية، ويُغلق الأبواب أمام إسناد الأمور إلى الطبيعة أو الأسباب أو الصدفة فيقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾[3] فالآية الكريمة تصرّح بأن جميع الأنظمة كانت “رَتْقًا” أي متصلة ثم انفصلت عن بعضها البعض، ففي هذه السورة عبّر عن هذا الوضع بـ”الرتق”، وفي سورة الدخان بـ”الدخان” أي شيء يشبه الدخان-السحاب، وكلا المعنيين يعني أنها كتلة واحدة، وليس لأحد أن يعترض على هذا الإجمال الرائع).[4] إن صور تجديد الفهم عبر طرق التحليل والنظر في هذا الكتاب كثيرة. ففي معرض حديثه عن الغلاف الجوي يقول: “…وأرى من المفيد أن أشير هنا إلى مسألة مختلفة: وهي أن قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ينطوي في مضمونه على سعةٍ وشمول، فلكل شيء نصيب من هذه الربوبية الشاملة، بدءًا من وضعه سبحانه لقوانين الفيزياء والفلك، وانتهاءً بتنظيمه للعلاقات بين خلايا جسم الإنسان. أجل، إن الله تعالى بنفس القانون الذي ينظم به العلاقات بين الخلايا أو بين ما في الخلايا من جزيئاتِ (DNA) و(RNA)، ينظم العلاقات بين الأنظمة السماوية والمجرات”.[5]
وهذا المنهج يؤكد التزام المؤلف بهدفه الأسمى ورسالته الكبرى، الهادفة إلى أن فهم القرآن مفتاح نجاح الإنسان في رسالته للوجود، وأن هذا النجاح لابد أن يمر عبر التوجه إلى الله تعالى من خلال محراب القرآن ومحراب الكون معا.
ها قد رأينا عبر النصوص الكثيرة، كيف استطاع المؤلف في هذا الكتاب، وهو صنيعه في غيره، أن يقوم بصولات وجولات في مختلف المجالات المعرفية، مزاحما حينا ومتفوقا أحيانا كثيرة، على أهلها والمتخصصين من أعلامها. وبذلك فإني لست في حاجة إلى مزيد من الحجاج لأسطر ما قاله كثير من الباحثين غيري في مختلف المجالات والمستويات الأكاديمية، وهو أن صاحبنا محمد فتح الله كولن مجدد من مجددي العصر بدون منازع.
وبهذه المناسبة من الجذير تسجيله، أنه في الوقت الذي يكرر عدد كبير من علمائنا اليوم، أقوال السلف وآرائهم في عدد من القضايا، أو يصوغونها قولا عاما، نجد الأستاذ فتح الله كولن يتوقف عند المضامين وكأنه بمجالها خبير. وأمثلة ذلك في هذا الكتاب كثيرة جدا أذكر بواحد منها هنا. وذلك أن الاستاذ كولن وهو يتحدث عن أقوال المتخصصين من علماء العصر بخصوص توسع السماء، اعتبر أن نتائج جهود كثير منهم تُوافق في مُجملها ما جاء في القرآن الكريم. وذلك من خلال توقفه عند قول الله تعالى في سورة الذاريات: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون}، وأشار بأن قضية توسيع السماء اصبحت من القضايا الرائجة في عصرنا؛ وبعد أن ذكّر بأعمال الخبير الأمريكي ((hubble بخصوص نظية “الانفجار الكبير”(big bang) وبعده البلجيكي (lemaitre)، يقول الأستاذ كولن، “وبتقرير بسيط للواقع إذا بالقرآن يقول (إننا نوسع السماء)؛ فهذا أمر يستحق الوقوف عنده بجدية”. ولمزيد من الإيضاح، قارنت تفسير الأستاذ كولن للأية وما قاله المفسرون الكبار، حيث رجعت إلى أقوال بعضهم ومنها: قول الإمام الطبري: وَقَوْله:{ وَإِنَّا لَمُوسِعُون {يَقُول: لَذُو سَعَة بِخَلْقِهَا وَخَلْق مَا شِئْنَا أَنْ نَخْلُقَهُ وَقُدْرَة عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْله: }عَلَى الْمُوسِع قَدَره وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَره}.[6] يُرَاد بِهِ الْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن زَيْد[7] فِي ذَلِكَ مَا : حَدَّثَنِي يُونُس, قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب, قَالَ :قَالَ ابْن زَيْد, فِي قَوْله :{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ {قَالَ:أَوْسَعَهَا جَلَّ جَلَالُهُ.). وقال ابن كثير:( {وإنا لموسعون}، أي: قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد، حتى استقلت كما هي(. و قال طنطاوي جوهري في تفسيره، وهو من التفاسير المصنفة في الاتجاه العلمي:( {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أى وإنا لقادرون على توسعتها بتلك الصورة العجيبة من الوسع بمعنى القدرة الطاقة، يقال أوسع لرجل، أى صار ذا سعة، والمفعول محذوف، أى: وإنا لموسعون السماء، أو الأرزاق). وقال السعدي:(} وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ {لأرجائها وأنحائها، وإنا لموسعون –أيضا- على عبادنا، بالرزق الذي ما ترك الله دابة في مهامه القفار. و قال الشيخ الشعراوي: { وإنا لموسعون} أي قد وسعنا أرجاءها، ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي.)
بعد كل ذلك نرجع لقول الأستاذ كولن لنتأمل قوله البسيط ، العميق الذي يبين أن الرجل على دراية كبيرة بما يقول، وعلى اطلاع واسع بما قيل، إذ يقول:(فإذا تنبه الإنسان فسيلاحظ أن الآية بَـيَّـنت هذه الظاهرةَ بطريقة موافقة لمستوى فهم عصرنا وللمستوى الذي وصلت إليه العلوم من دون حاجة إلى تأويل أو تفسير، وإذ بيَّنتْها استخدمتْ تعبير “لَمُوسِعُونَ” باللام للتأكيد على أن توسيع السماء من الأمور المحققة التي لا ينبغي لأحد أن يَشك فيها، وأيضًا فالجملة هنا اسمية، فلو استُخدمت “نوسع” لأفادت التجدد والتكرار، لكن الجملة الاسمية تفيد الدوام والثبات..)[8]، لو كان المكان ههنا مناسبا لطالت وقفتنا مع المؤلف في هذا النص، الذي جمع فيه من بديع القول، وبليغ البيان، خاصة اللغوي؛ ما يشهد بكفائة الرجل في التجديد وأهليته في التأصيل.
فالتجديد إذن، لم يعد بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن مطمح وأمل، بل صار واقعا لا يفكر إلا من خلاله، ولا يتكلم إلا وتجد نفسك معه في صلبه. ومن ذلك للتمثيل لا الحصر قوله: (وتعبير “ظلالهم” في قوله تعالى: ﴿وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾[9]، يشير إلى أن هذه الكائنات لها “ظلال” ومعلوم أن الظل من خصائص ذوي الأجسام. فبدلًا من الحسم في الموضوع وإغلاق الباب وسده تمامًا أمام التفكير يبدو أنه من المفيد إبقاء الباب مفتوحًا أمام الإمكان العقلي في مثل هذه المواضيع، بشرط أن تكون التفسيراتُ غيرَ متعارضة مع محْكمات القرآن.. فالمهم في مثل هذه المواضيع الحفاظ على الإطار القرآني، وإلا فكما أنه ليس من الصحيح حصر الموضوع في جانب واحد بتطبيقه على المستوى العلمي المعاصر كما يفعله المفسرون الحَداثيون، فليس من الصحيح أيضًا التغاضي عن الاحتمالات المختلفة في المجالات التي ليس فيها محذور شرعي؛ لذلك نعتقد أن فتح الباب أمام الاحتمالات المختلفة سيكون نوعًا من العلاوة للباحثين تشوِّقهم وتحفِّزهم لإجراء البحوث، كما أن هذه الاحتمالات ستكون منطلقاتٍ لهم في باب البحث والتقدم العلمي، ونظن أن هذا لن يكون متناقضًا مع التفكير القرآني في الأساس).[10]
إن القارئ وهو يتابع كلام وكتابات الاستاذ فتح الله كولن، يجد نفسه معه، في عالم جديد، بكل ما تحمله العبارة من معاني. من ذلك قوله: (فقد أثبتت الأزمات الاجتماعية والروحية والثقافية التي يعيشها الإنسان في الأعوام الأخيرة أن العالم البَشَري بحاجة إلى نظام معنوي جديد يسد الفراغ المادي الذي تردى فيه، وسيوجههم هذا الإحساس بالنقصِ إلى الإسلام عاجلًا أو آجلًا)[11]
وعودا على بدء، فإن الإطلاع الواسع على التراث التفسيري للسلف، إضافة إلى سياحاته المتعددة بين دروب وساحات الإنتاجات العلمية في علوم العصر وبين علمائها، يؤكد أننا أمام مفكر”ظاهر” في هذا العصر؛ الذي بات الناس فيه يبحثون عن “مخلص” أو “مهدي” ينقذ الناس من غلواء العولمة المتوحشة في كل مجالات الحياة. وذلك في ظل تعدد فراعنته، وتراجع مكانة الأمة وأبنائها الذين بات يصدق فيهم حديث رسول الله ﷺ حول تداعي الأكلة إلى “القصعة”[12].
(يتبع)
[1] : ص377 من البيان الخالد.
[2] : مدخل الكتاب بص38.
[3] : (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/30). و أرجع إلى التفاصيل بص370 من الكتاب.
[4] : التفاصيل بص370 من الكتاب.
[5] : أنظر ص 426 من الكتاب.
[6] : آل عمران 236.
[7] : يقصد التاربعي الكبير المفسر عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت182هـ).، وهو أحد كبار مدرسة المدينة في التفسير.
[8] :أنظر ص361.
[9] : سورة الرعد الآية 15.
[10] : أنظر ص454.
[11] : ص378.
[12] : وهو قول نبينا مع ﷺ ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها )، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن) ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)؛ هذا حديث ثابت عنه عليه الصلاة والسلام؛ رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والبغوي في شرح السنة وغيرهم.