بسقوط جدار برلين دخلت الإنسانية في طور تاريخي وحضاري فارق؛ قلة هي الدول التي أدركت يومها ذلك التحول النوعي الحاسم. وفيما كانت بعض بلداننا العربية تستشعر أن الغطاء سقط من على رأسها فجأة بسقوط الاتحاد السوفيتي، كانت دول أخرى ترى أنها انتهت إلى المرحلة التي فقدت معها ما كان لها من قُرب عند المعسكر الغربي، المعسكر الغالب.

شق كولن بعصاه كومة المال نصفين، ثم بحركة عمودية شقّها ثانية فصارت أربعة أحواز، وحملت كل طائفة من الناس حوزة، وسارت تضرب في الأرض، وتُيَمِّمُ وجهَها شطْرَ قارة من قارات الأرض.

“كولن” واستثمار الحدث

يومها كان “كولن” يعلن في جموع المصلين من على المنبر، أن فجرًا جديدًا قد وُلد، وأن على العاملين الجادين أن ينطلقوا بلا تردد في الآفاق. فطريق العولمة الذي شرَّعتْهُ تلك الكَسْرةُ المذهلة لن يظل طويلاً مفتوحًا في وجه كل سالك. يومها تداعى الأبطال من كل حدب، وشرَع كلُّ واحدٍ يستخرج ما ادخر ويلقي به في الأرض، وجاء المهندس بشهادته وخبرته، والمقاول بمعاوله وشاحنته العتيقة، وصاحب الورشة بإسهامات عُماله، وتقدم رب المصنع بعقوده، والتحق الطبيب يحمل سماعةً وحُقَن بنسيلين يَصْحَبُها معه في حقيبته دائمًا للطوارئ، والمعلم المتقاعد والممرّض، والطالب، وخرّيج الجامعة.. كلهم وقفوا في ساحة المسجد يستمعون إلى كولن، وهو يهيب بالعاملين إلى العمل، وكل يكتتب بما في كسْبه.. كان هناك كهل فلاح يحل بيد خشنة حزامه على ما دسَّ فيه من مبلغ، وآخر يستخرج من كمّه حفنة من الليرات، وبعضهم ورقة دولار، وتتابعت أكثر من يد تلقي إلى الكومة بشيك من العملة.. أولئك كانوا عمالاً وأرباب مرافق ومؤسسات عادوا من مواطنهم بالمهجر، فصادف أن سمعوا الدعوة، فلبّوا بلا توانٍ. أولئك كانوا تلاميذ قدامى، أو أتباعًا عرفوا صوت كولن في الأشرطة المهربة، فوضعتهم كلماته على الطريق، والتحقوا بالركب بنية خالصة وتوبة عميقة.

كلهم وقفوا في ساحة المسجد يستمعون إلى “كولن”، وهو يهيب بالعاملين إلى العمل، وكل يكتتب بما في كسْبه.

وتقدم كولن فشق بعصاه كومة المال نصفين، ثم بحركة عمودية شقّها ثانية فصارت أربعة أحواز، وتقدم الناس، كل طائفة حملت حوزة، وسارت تضرب في الأرض، وتُيَمِّمُ وجهَها شطْرَ قارة من قارات الأرض.. كانت حركة الخدمة قد انطلقت، بتلك الخطوات البسيطة. كان مشروع بناء الحضارة قد بدأ.

“ونحن نبني حضارتنا”

حين نقرأ عنوان هذا الكتاب للأستاذ كولن، يلفتنا تصدُّر حرف الواو في العبارة، ويستطيع القارئ أن يتأول للواو محلاً نحويًّا ينسجم مع قصد الخطاب؛ إذ يمكن القول: إنها واو الاستئناف، أو الابتداء، ويمكن القول: إنها واو الحال، أو أنها للمعية، أو أداة نسق عاطفة.. إلى ما هنالك من إمكانات تحتملها القراءة التقديرية للجملة.. لكنَّ أَوْجَهَ التقديرات -بحسبنا- هو أن الواو في هذا العنوان واو الاستغراق؛ إذ إن النسق هنا يفيد -وبصورة أوضح- المباشرة والانخراط والاسترسال. فالحدث (حدث البناء) قد شُرع فيه، وهو مستمر، يستغرق الفاعلين ويشغلهم، فهم ملتبسون به التباسًا عضويًّا لا فكاك عنه؛ إذ اشتمال الفعل في الجملة على فاعل ظاهر (نحن)، وآخر مضمر في الفعل (نبني)، له إفادة التأكيد والاستغراق والمناجزة.. وربما شاكل هذا الخطابُ آية ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾(الْمُؤْمِنُون:4) من حيث الأداء والإبانة عن معنى الملازمة والاستغراق.

انطلقت فيالق ” الخدمة” انطلاقة تعمير، تستهدف وضع الأسس الروحية والأدبية لنهضة تسترد بها الأمة ما سُلب منها بالأمس من سبق وعز.

لا شك أن لصيغة العنوان مرامي جلية، فقد استوعب قيمة العرض والخطبة، حتى لكأن الدلالة الضمنية فيه تقول: ها نحن باشرنا البناء، وإن الجهود لتستغرقنا في إنجاز صرح الحضارة، وها نحن نسير بنفس الاجتهاد والتفوق الذي أنجزناها به من قبل. والقارئ لكتابات كولن، يتداعى بسهولة إلى ذهنه عنوان كتاب آخر، صِنْوٌ لهذا، هو (ونحن نبني صرح الروح)؛ إذ الكتابان يلحّان على أن هناك انطلاقة تشييد ميمونة قد بدأت، ينهض بها فيالق الخدمة، حاديهم في ذلك الإيمان والاستماتةُ.

——————————————–

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ123-125.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.