إذا كان الإيمان في بداية أمره هو ميل، ثم تعلّق، فلا ريب أن الأيديولوجيات لها كذلك استقطاب يتحول بالبروباغوندا إلى إيمان. لكن الإيمان الذي يقصد إليه “كولن”، نوعي، يتجاوز عاطفة المذهبيات؛ إذ أثبتت السيكولوجية الأيديولوجية أن المشاعر الجيّاشة في ظل الأنظمة الشمولية لا تكاد تتجدد، وأن الرهانات الأيديولوجية تتطلع حتمًا إلى الجزاء الملموس، فلذلك هي عرضة للإحباط، بل والانهيار عند مواجهة القصور أو الخيبة.

الإيمان الديني، الحق، هو الذي يتأهل للتجنيد الحضاري المستمر، وينتزع التهليل سواء في حالة الفوز أو الانكسار.

إنما الإيمان الديني، الحق، هو الذي يتأهل “للتجنيد الحضاري” والتجييش المستمر، وينتزع التهليل سواء في حالة الفوز أو الانكسار. فالبشر وإن تأهلوا سيكولوجيًّا لأن ينخرطوا بقلوبهم في رهانات دنيوية إلى أبعد حد، وأن يبذلوا التضحيات من أجل كسبها، إلا أن الدافعية لديهم تتغير حتمًا في مرحلة من المراحل، وتتراجع الصفوف، وتتناقص الحشود بتناقص فيض الحماسة أو افتقاد المُحرِّضات والجزاءات، وهذا ما يؤول بالأيديولوجيات عادة إلى الفشل والانهيار.

حافز الحضارة، تدين سامٍ

عكس ما يكون عليه الأمر حين يكون الحافز والدافع هو الدين السامي، فإن إرادة الاستمرار وراء الأهداف السامية تظل حية، وحتى إن عرض لها ما يعطلها أو يقلل من سرعتها. فالمقاصد العليا لا تموت في النفوس، ومن المؤكد أن كثيرًا من مُثُل الأيديولوجية وشعاراتها حين تُرَاجَع وتُقوَّم بالعقل السليم، يحملنا تَبَيُّنُ انحرافِها الموضوعي ومجافاتها للطبيعة الإنسانية، على الخجل، عكس الحال مع الدين القويم؛ إذ تظل مثاليته ورفعة مبادئه وسمو شعاراته، ثابتة متألقة بوهج قدسيتها في الأرواح، ولا تنتكس إلا النفوس الخسيسة أو المهينة عن إكبار الكمالات، وإن اعتزازنا بالشهداء مثلاً، آتٍ من هذه العلاقة التي تجعلنا نعظّم مَن ماتوا في سبيل المُثُل العظيمة، بغض النظر عن تحقق الأهداف أو بقائها في حالة انتظار، وبهذه الرابطة الإعلائية الثابتة التي تربط الإنسان بالمثل القدسية نرى روحية الدين تتجدد مع الأجيال، وذلك هو بالضبط ما يجعل منه المحرك الذي لا يتوقف عن توليد الطاقة، وضمان سيولتها.

الانبعاث الحضاري الإسلامي

من هنا تتخوف النظم الدنيوية المعاصرة من انبعاث الإسلام، بل وإنها لمتأكدة من حصول انبعاثه لا محالة؛ لإدراكها أن مكمن قوته قائم في ذاته، ومُتَأَتٍّ من سرّ هذه الصبغة الروحية العضوية التي يسري بها نوره في الأجيال، ومن هذه القدرة التي يمتلكها، والمهيأة على الدوام لتجديد الهمم حتى بعد تكرار الانتكاس؛ إذ يظل الدافع إليها حيًّا لا تختلف المشاعر نحوه من عهد إلى عهد، مهما عراها من البلاء أو الغفلة؛ لأن الروح الإنسانية جُبلت على الانحياز إلى الحق، فهي من جبِلَّتها تلك تسعى إلى تجسيد مظاهر الخير التي هي عنوان على الانصياع الفطري لوازع تعمير الأرض الذي فطرنا الله عليه، وعلى النهوض بمأمورية الشهود على العالمين: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾(آلِ عِمْرَان:110).

بالإيمان الديني الحق نبني الإنسان الصالح، الإنسان النوعي، القَدَري، الذي خرَّجه القرآن، وصبغ أعماقه بصبغته، هو إنسان الحضارة، هذا هو الإنسان الذي يراهن على وجوده “كولن”.

هذا النوع من الإيمان العلوي الذي يربط الإنسان بمُثُل السماء، هو كيمياء النجاحات التي تسعد بها الإنسانية. بالإيمان الديني الحق نبني الإنسان الصالح، المؤهل لأن يتجند في الصف، ويتطوع بما يملك. الإنسان النوعي، القَدَري، الذي خرَّجه القرآن، وصبغ أعماقه بصبغته، هو إنسان الحضارة، الإنسان الذي يراهن على وجوده كولن، وينيط به فتوحات المستقبل الكريم. إن تفعيل الدين، واغتراس روحه في النفوس والبيئات، هو السبيل إلى خلق القوى المؤهلة والمرشحة للعمل والبناء.

——————————————–

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 139-141 ، بتصرف

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.