ملخص
إن كتاب التلال الزمردية يُشكِّل تصدِّيًا للانحرافات الصوفية والفكرية والقلبية، وهو في ذات الوقت يُعدُّ نوعًا من الدفيئة والحصن ضد النزعات المادية والعقلانية التي تهدد النفس الإسلامية، ونتاج جهود تسعى إلى أن تجذب من جديد العمليات الفكرية والعقلية والقلبية المشتتة إلى قلب التقاليد ومركزها.
أما الدراسة التي بين أيدينا فهي بحث مهم لفهم الفكر الصوفي الإسلامي ومنطلقاته وموضعه داخل المنظومة الدينية بلا إفراط أو تفريط وبالاستناد على النصوص الشرعية الأصلية. وفي هذه الدراسة يجول الكاتب جولة عميقة بين مختلف الأزمنة والشخصيات، ويحلق بنا في أفق الجزء الثاني من كتاب التلال الزمردية للأستاذ فتح الله كولن، حيث يلتقط لنا بعضًا من ثمرات ذلك الكتاب الذي يعد -وبحق- رؤية جديدة تسهم في إثراء الفكر الصوفي.
المقال
لقد اضطلع التصوُّفُ بدور بارزٍ في تشكيل المجتمعات الإسلامية على مر العصور، فلم يبتعد المسلمون عن الواردات الصوفية في أية حقبة، وصار التصوُّفُ وسيلة شوق واشتياق للبقاء في دائرة الإسلام، وطريقة جذابة للوعي الإسلامي، خاصة بالنسبة للجموع الغفيرة من الناس، لذلك فإن الحضارة الإسلامية حضارة “تصوف، ومعنى وعرفان” بقدر ما هي حضارة “فقه ومنهجية”.
وبهذا التأثير الواسع للتصوّف الإسلامي، تظهر لنا الحدود الميتافيزيقية التي تمتد إليها النظرة الإسلامية العالمية، فيما وراء الحقائق الذهنية والفكرية والاجتماعية لعقيدة التوحيد الإسلامي ومفهومه، ومن زاوية أخرى يمثل التصوُّف إشارة واضحة إلى مدى حساسية المسلمين تجاه مُثُلهم المعنوية والأخلاقية، لذلك صار التصوف روحًا للتقاليد الإسلامية التي تبعث الحياة في كل عصر، ودون معرفة المبادئ والدعائم الأساسية للتصوف الإسلامي لا يمكن فهم وكشف منطق الدور الخاص الذي لعبه التصوّف قرونًا طويلة في الفكر والمجتمعات الإسلامية.
التوحيد هو حقيقة التصوف
إن التصوف الإسلامي وفلسفته يقومان على “التوحيد” (أي: حقيقة وحدانية الله تعالى) في كل المجالات، وذلك على النقيض من الفلسفة التعددية الغربية (المفهوم التعددي بأشكاله). وإن إرادةَ الله وعلمه وقدرته المحيطة تشمل كلًّا من التسلسل الهرمي للمعرفة (الأبستيمولوجيا) وكل أنواع الفعل الإنساني أيضًا.. وبعبارة أخرى: التوحيد هو المبدأ الأساس الذي يفسر وجود الإنسان على الأرض ورسالته فيها، ومفهوم التوحيد يمثل حقيقة حية ونابضة في كل لحظة من حياة المسلمين، ويدور المحور الرئيس للتصوف الإسلامي حول هذا التوحيد..
ونظرًا لأن العديد من الباحثين الغربيين عجزوا عن أن يدركوا مفهوم التوحيد المتأصل في الفكر الإسلامي إدراكًا صحيحًا زعموا عدم وجود صورة موحدة متفق عليها في التصوف الإسلامي.. والحقيقة أنه يكمن في أساس هذه الادعاءات تأثير عميق لحقيقة أن الفهم الغربي للمعرفة ذو طابع تعددي؛ لأن المفكر الغربي العادي ينظر إلى الإنسان والتاريخ والمجتمع والثقافة من منظور الجدلية التعددية، فـ”التعددية” تهيمن على طريقة التفكير في الغرب في كل المجالات، وتاريخ الغرب في جدلية الأفكار والمدارس والصراعات والاختلافات “تاريخ صراع” كامل، وهم يتعاملون مع قضايا الفكر والإيمان في العالم الإسلامي من هذه النقطة الجدلية.
أجل، إذا نظرنا إلى لغة الصوفية المؤسّسين وتعاريفهم لمفهوم التصوف والحياة الصوفية يتضح أن هناك تنوّعًا ملحوظًا.. والواقع أنه بقدر ما يعتمد هذا التمايز على ملاحظات مختلفة؛ فإنه يشير إلى مستويات مختلفة أيضًا من الذكاء والكفاءة والعناية الإلهية، ولكن عند النظر إلى الأمر من منظور أوسع، يتضح أن التصوف الإسلامي تشكَّل بالكامل في فلك “التوحيد” وضمن التقاليد الإسلامية…
والسمة الأبرز للمتصوفين المسلمين هي محاولتهم وسعيهم الدائم للوصول إلى التوحيد رغم اختلاف ملاحظاتهم التي يستندون إليها، فمفهوم التوحيد يشمل التجارب الصوفية جميعها بكل أعماقها وتفاصيلها، وعليه فليس هناك أيُّ تباين في أساس التوحيد.
نعم، لقد أنتجت التجارب الروحية والعرفانية المتنوعة مدارس صوفية مختلفة، وقد اكتسبت كل مدرسة على مرّ التاريخ نمط الطرق الصوفية، حيث شكلت أساليبها وآدابها وأركانها ومراسمها الخاصة بها تدريجيًّا، ومع ذلك، فإن التصوف والعرفان الإسلامي لم يضرا أبدًا بالروح التوحيدية وبنية التقاليد الإسلامية؛ بل إنه شَكَّل واحدةً من أكثر التجارب عمقًا وحماسةً في البنية التوحيدية للحضارة الإسلامية، وتجاهلًا لهذه الحقيقة، اعتبر بعض الباحثين الغربيين التصوف الإسلامي بعيد كل البعد عن الدين الإسلامي.
اتجاهات نقدية غير موضوعية
ولا ريب أن الفهم السلفي والحداثي في العالم الإسلامي قد ساهما في تكوّن مثل هذا الرأي، ففي مثل هذه المقاربات، أمكن عزل التصوف الإسلامي عن المظهر العام للحضارة الإسلامية، لدرجة أنه أصبح يُختزل في مجموعة من التجارب الروحانية الفردية أو اليوغا أو الجلسات التأملية! وهذا بطبيعة الحال غيرُ مقبول من حيث الحقائق التاريخية ومن حيث قدرة الإسلام على إنتاج تجربة روحية واسعة، وكما يعلم كل باحث حكيم ومنصف، أنه على الرغم من استخدام المصطلح الصوفي بأشكال وأنماط تعبيرية مختلفة في الظاهر، إلا أنه ظل دائمًا ضمن الإطار والحدود العامة للأصول والنصوص الإسلامية، وعلى الرغم من وقوع بعض الظواهر التي تخل بحدود التشريع الإسلامي بين الحين والآخر.
إلا أن التصوف الإسلامي –ككلّ- لم يتجه أبدًا إلى تجاوز الإسلام من الداخل، ولم يتسبب في أي انحراف وانحلال في الشخصية الثقافية الإسلامية، يقال إن بعض الاتجاهات التي تتعارض مع المظهر والتقاليد الصوفية المركزية في التاريخ الإسلامي تحاول أن تلقي بظلال انتقادها على التقاليد الصوفية بشكل عام، وبغض النظر عن مستوى التأثير الذي أحدثته تلك الاتجاهات، إلا أنها لم تستطع أن تُبعد التصوف الإسلامي عن المبادئ والقيم المركزية للتشريع، كما حاولنا التعبير عنه؛ حيث لم تجد هذه العناصر أية قاعدة جماهيرية واسعة أبدًا، وظلت دائمًا مجرد ظاهرة استثنائية.
أبعاد الفكر في الحضارة الإسلامية
ومما لا شك فيه أن النفوذ بشكل أفضل إلى جزئيات التصوف الإسلامي يتطلّب عزمًا على القيام برحلة طويلة وعميقة صوب أعماق العرفان، ولا شك أن سباقًا طويلًا كهذا يستدعي مطالعة جميع مظاهر التاريخ الصوفي الإسلامي الحافل.
سأتطرق إلى ملامح العمل الذي قام به الأستاذ المحترم محمد فتح الله كولن، وسأركّز على ثلاثة مظاهر وأبعاد مختلفة للدين والثقافة والحضارة والتقاليد الإسلامية؛ لأنه ما لم تُفهم هذه الأبعاد الإسلامية الثلاثة فهمًا جيدًا، بمعنى ما، فلن يُفهم أيضًا كيف يطبق المسلمون دينهم، وكيف يعبرون عن معتقداتهم وعن مفهومهم للأشياء، وكيف يُفصحون عن جهودهم للتقرب إلى الله، ومع هذا فإننا، وبدون الدخول في تكهنات طويلة يُسعى إلى إنتاجها وتسويقها فيما يتعلق بأصل التصوف الإسلامي وهيكله ونظامه العرفاني؛ سنكون قد ذكرنا مكانته بين التقاليد الأساسية، وباختصار إنني سأحاول الكشف عن ثلاثة أنظمة مختلفة من المعرفة والحكمة تمنح الثقافة الإسلامية هويتها الأساسية لعدة قرون، وذلك من خلال تناول حديث اشتهر في علم الحديث باسم “حديث جبريل”:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي عنه قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: “الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا”، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ”، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: “أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ”.
وفي بقية الحديث يسأل ذلك السائلُ النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فيجيبه: “مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ”… قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: “يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟”، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ”.
تحتوي هذه العبارات بيانًا بسيطًا وواضحًا للغاية، ولكنها تبرز لاحقًا ثلاثة أبعاد ومظاهر مختلفة للفكر والحضارة الإسلامية، وعليه فإن الفكر الإسلامي عرف الحياة الدينية في ثلاثة فروع مختلفة؛ الإيمان والإسلام والإحسان، ومع أن هذا التعريف لا يرد في القرآن صراحة، إلا أن مضمون العديد من الآيات ومدلولها يعبر عن هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد ركّز على مر القرون كلٌّ من العلماء التقليديين والمفكرين الإسلاميين المعاصرين على هذه الأبعاد الثلاثة المختلفة للإسلام.
البعدُ الأول هو الإيمان: ويشكل ركيزةَ أسس المعتقدات الإسلامية، أي إنه يشمل “الإيمان والعقيدة”، وسرعان ما أنتجت صياغة هذه المبادئ نظامًا ومظهرًا مهمًّا تجسّد في علم العقيدة وعلم الكلام الإسلامي، ولقد خدم علم العقيدة والكلام الإسلامي مسيرة وضْع وترسيخ الأسس الإسلامية للتفكير والاعتقاد الصحيح على مر العصور، فالإسلام يقدم نظامًا عقديًّا تفصيليًّا فيما يتعلق بكيفية الإيمان، إنه يرسم لوحة واسعة وشاملة للإيمان في مسألة كيفية فهم النفس والبيئة والعالم.
وكيفية تحديد صفات الله وأسمائه وإرادته ومشيئته وقدرته، ووجود الله ووحدانيته، والملائكة والكتب والأنبياء.. إنه يقدم خريطة واسعة تتضمن مختلف مجالات الحياة البشرية مثل أفعال الإنسان وإرادته الجزئية ومسؤوليته والحساب والقدر والآخرة والمعاد.. كل هذا مجال يتمتع فيه الإيمان بتعبير قوي ومعرفة سليمة لغة وفكرًا، والمسلمون مُلزَمون بالكشف والتعبير عن إيمانهم في كل هذه المجالات. أجل، فالإيمان يشكل بُعدَ الكلام والعقيدة في الحضارة الإسلامية.
البعد الثاني هو الإسلام: وهو في الثقافة الإسلامية، يحتوي على الأركان الأساسية الخمسة، وقد أفرز تفصيل القول في هذه الأسس “منهجية التشريع والفقه الإسلامي” بعد قرون طويلة، وكان فقهاء ومجتهدو الإسلام ينطلقون من هذا الأساس في إصدار الأحكام المنظمة لحياة المسلمين الدينية والاجتماعية على مدار تاريخ طويل، ويمكن القول إن أصول التشريع الإسلامي وفروعه هي البعد الأكثر تميزًا في الحضارة الإسلامية، هذا البعد هو مجال الإسلام والاستسلام، وهو يكشف لنا عن المظهر الخارجي للمنهج الإسلامي بشكل عام، وهو عبارة عن الأوامر والنواهي، والممارسات القرآنية والنبوية، ومعه تراث الشريعة الإسلامية الذي تم تدوينه، والنوازل والمدونات الفقهية الخاصة بالأصول والفروع التي أنتجها ونقّحها المشرعون المسلمون من الأصول الإسلامية على مر العصو، وقد أنتج هذا فكرًا ومنهجية نظاميةً هكذا لدرجة أنه لم يتسنَّ لأي دين أو حضارة إنتاج مثل هذا الفكر النظامي والانضباط التشريعي، ومن هذه الزاوية يمكن القول: إن التراثَ الحقوقي الإسلامي معجزةٌ إسلامية مذهلة.
البعد الثالث هو الإحسان: والذي ورد ذكره أيضًا في الحديث، ويمكننا أن نحمل هذا البعد على التصوف في الثقافة الإسلامية، ومما لا شك فيه أن مبدأ الإحسان هو مبدأ أساس لجأ إليه الفقهاء وعلماء الكلام والأصوليون على حد سواء من وقت لآخر، إلا أن الصوفية تبحَّروا في هذا المبدأ بشكل أعمق وبمزيد من التفصيل والتدقيق؛ فقد تناولوه كمجال من مجالات القلب، وبينما يركز الفقهاء على السلوكيات أو الأفعال الصحيحة؛ ويركز علماء الكلام على نقطتي التفكير والإيمان الصحيحتين؛ ركز الصوفية على الرؤية الصحيحة والمشاهدة الحقيقية عبر حصرهما في مجال القلب.. ويمكننا أن نعرف هذه الأبعاد الثلاثة بأنها تخصّ الجسد واللسان والقلب، الأول يعبر عن ساحة الفقهاء، والثاني عن ساحة علماء الكلام، والثالث عن ساحة الصوفية، وقد وسّع الصوفية مجال الإحسان والقلب إلى الحدود التي تزيد عن دائرة الفقهاء والكلاميّين، وأنشؤوا نظامًا صوفيًّا خاصًّا في هذا المجال، وهم بهذا العمق أبرزوا التجربة المعنوية والقلبية للحضارة الإسلامية.
نشر الصوفية تجاربهم ومشاهداتهم الروحية على ساحة واسعة بحيث إنهم يرون الحياة الإسلامية الحقيقية عبارة عن ذلك الإحساس والفهم المحيط به، بالإضافة إلى ذلك، لم يتركوا مبدأ “الإحسان” عند حد الكمال في الإيمان والاستسلام، لكنهم أنشؤوا بمصطلحاتهم الصوفية الخاصة تصوّرًا أصليًّا تمامًا لـ”الإنسان-الوجود-الكون”، والتصوف من هذه الناحية رحلةُ عرفان، إنه نظام المعرفة والحكمة الأعمق والأكثر تميزًا فيما يتعلق بـ”الله-الكون-الإنسان”، ويمكن للإنسان تحصيله نتيجة لتحول روحي ونفسي؛ لذلك فهو تجربة خاصة للغاية تحقّق التطور والتحول الروحي والقلبي والمعنوي.
وعلى حين طور الفقه والكلام أسسًا أكثر منطقية وعقلانية تحافظ على المسافة ما بين العبد وربّه، أراد الصوفية جعل هذه العلاقة أكثر حيوية وإحساسًا وقربًا، وبينما شدَّد الفقه والكلام على أن الله منزهٌ عن الأشياء والمخلوقات مراعاة لمبدأ التشبيه والتنزيه؛ أكّد التصوّف على قربه تعالى منها بشكل أكبر.. وبينما ركز علماء الكلام عملهم حول قداسة الله وتنزيهه دائمًا كثّفَ الصوفيون حديثهم عن قرب الله إلينا أكثر من كل شيء.. وكما فصّل الفقهاء والمتكلمون القول في مبدأ الإيمان والإسلام، وشكلوا أصول الحضارة الإسلامية وفروعها، فقد فصل الصوفية أيضًا القول في مبدأ الإحسان ووضعوا الأسس المعنوية للحضارة الإسلامية.
لقد كانت هذه الأبعاد الثلاثة حاضرة في قلب التشريع الإسلامي، وبالتأكيد لم تؤدِّ إلى أية تجزئة في عقائد المسلمين وشخصياتهم، بل أفرزت المظهر الديني والاجتماعي للوحدة الإسلامية ومفهومَ التوحيد لعدة قرون، فهذه الأبعاد الثلاثة جزءٌ لا يتجزأ من الإسلام.. وعلى حد تعبير الأستاذ فتح الله كولن: هذه الأبعاد ثلاثة أوجه لشيء واحد، وكما أن الإسلام لم يكن بلا فقه وبلا كلام فإنه لا يمكن أن يبقى بلا تصوف، بالطبع ظهرت مفاهيم ومظاهر مختلفة في المجالات الثلاثة، لكن المنهج المعروف باسم أهل السنة -والذي يشكّل الجسم الرئيس للتشريع الإسلامي- يمثل هذه الصورة والخط الإسلامي ذا الأبعاد الثلاثة الذي طُبّق في حياة الرسول والأجيال الثلاثة التي جاءت من بعده بشأن فهم الإسلام وتفسيره وانتقاله إلى الحياة الاجتماعية، ولذلك فإننا نشترط ضرورة أن يتوافق أي اجتهاد وأي مظهر صوفي أو كلامي أو فقهي مع الأصول الإسلامية، وبمقارنته مع تلك الأصول نفهم ما إذا كان يتوافق أو لا يتوافق مع معايير أهل السنة هذه.
اجتهادات علمية عبر العصور المختلفة
ولما كان التصوف الإسلامي يشير إلى مجال وتجربة أكثر ذاتية وشخصية مقارنة بأنظمة الفقه والكلام؛ كانت تجربته واختباره أيضًا مرهونان بظروف وجهود أكثر خصوصية، وبالنظر إلى تجارب هذا المجال القائمة على الذاتية، يمكننا بسهولة أن نخمن أن كثيرًا من الجدالات الفكرية والعقدية قد وقعت في هذا المجال عبر التاريخ الإسلامي، وخلال قرون عديدة أفرزت المناهج الإسلامية شخصيات مؤهَّلة ومحقِّقة ومدقِّقة في هذه المجالات الثلاثة، ولقد أوصل هؤلاء تجاربهم وخبراتهم واجتهاداتهم التي يمكن اعتبارها ذاتية في المجالات الثلاثة كلها إلى تفسير وأساس قوي عبر تمريرها من خلال معايير أهل السنة، ومن هؤلاء الحارث المحاسبي، وأبو طالب المكي، والكلاباذي، والإمام الغزالي، والقشيري، والهجويري، والإمام الرباني، والأستاذ بديع الزمان، وغيرهم…
لقد تدثر الإسلام بالتفسيرات والاجتهادات المتنوعة المشروطة بالالتزام بحدود النصوص العامة، ومن هذا المنطلق فإنه بقدر ما سمح بتكون المذاهب الفقهية السنِّية والكلامية المتنوعة؛ سمح كذلك بتكون تعاليم صوفية ومؤسسات اجتماعية متنوعة.. وعلى حين ظل كلٌّ من الفقه والكلام مرتبطًا بقواعد منهجية حازمة للغاية.
ظلّ التصوف خصوصية داخلية في الإسلام لا يمكن المساس بها، وقد تبوأ التصوف مكانة مهمة في قلب كل مؤمن على المستوى الفردي أيضًا، وربما أن سمو التصوف وحماسَه الذي لا يقف عند أية حدود للعاطفة الإنسانية كان له أثرٌ في أن يظل خصوصية داخلية ويتجاوز الحدود المركزية والشكلية بين الحين والآخر، ذلك لأن التصوف وَضَعَ -عند تطبيق المثل الدينية وتجسيدها على واقع الحياة- نظامًا مؤثّرًا ومحمّسًا لمفهوم العبودية من خلال مخاطبته “الأحاسيس والمشاعر” القلبية والعاطفية السامية لدى الإنسان، وهدفه أن يربط بشكل دائم المؤمنين أو السالكين بالجوهر الحي للإسلام، في حين اضطر كل من الفقه والكلام إلى البقاء في دائرة النصوص الصريحة للقرآن الكريم والسنة النبوية، وإذا ما انتهكنا هذه الحدود الصريحة نكون قد تجاهلنا الحدود الشرعية والعقلية والاجتماعية على حد سواء.
معاني لا تقف عند حدود المصطلح
ورغمَ ما اتخذه التصوف من شكل مؤسّسيٍّ في بعض جوانبه على يد الطرق الصوفية الكبيرة المؤسِّسة، إلا أنه يتضمن تعاليم إسلامية معنوية أوسع من ذلك، وبالتالي لا ينبغي النظر إلى الحياة المعنوية في الإسلام في حيِّز وإطار المصطلحات الصوفية المعروفة فحسب؛ لأن الشكل الأول للمصطلحات الصوفية والصبغة المؤسسية المتشكلة في الطرق الصوفية لم تظهر إلا بعد القرن الثالث الهجري، ومع ذلك، فقد عاش قبل هذه الفترة صوفيون عظام، ولم توجد الحياة المعنوية الإسلامية في هذه المؤسسات فحسب، لا قبل ذلك ولا بعده..
فعلى الرغم من أنه كانت هناك حياة معنوية كبيرة ومتسقة في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام -والتي نسميها عصر النبي والسلف الصالح- إلا أنه لم تتم مطالعة هذا النمط من الحياة ضمن أي من المصطلحات الصوفية.. وقد قال أبو الحسن البوشنجي عن التصوف الذي كان بدأ لتوه في أن يتشكل ويأخذ الطابع المؤسسي في عصره: “التصوف اليوم اسم بلا حقيقة، وقد كان من قبل حقيقة بلا اسم”، ربما أن البوشنجي بقوله هذا أشار إشارة لطيفة إلى الاسم والمصطلحات والشكلية الصوفية، والتي كانت بدأت تنتشر في ذلك الوقت (القرن العاشر الميلادي).. ولكن هناك شيء آخر واضح أراد التعبير عنه؛ ألا وهو أن التصوف كان في عصر السلف حيويًّا نشطًا بكل عمقه وبساطته وحماسه المعنوي، فإن يستنتج من هذا معنى من قبيل أن الاسم والمصطلحات ليست ذات أهمية كبيرة، فما الفائدة إذًا من قراءة أيِّ دراسة تتناول المصطلحات والموروث الصوفي؟ قد يعلق سؤال هكذا ببعض العقول، وبطبيعة الحال فإن قراءة المصطلحات فقط لن تعطي ذلك الحماس المعنوي القديم والخبرة العميقة، إلا أنَّ معرفة هذه المصطلحات ضرورية ومفيدة لنا من عدة زوايا.
إن لكل مجتمع ديني نظامًا معنويًّا روحيًّا وميتافيزيقيًّا أنتجه خلال تاريخه الطويل، والمسلمون يدخلون في علاقات اجتماعية ثقافية مع أتباع تلك الأديان في كل مكان، ويتعرضون إلى حد ما لهذه التأثيرات الثقافية، والوضع بالنسبة للأجيال المسلمة التي ولدت ونشأت في تلك المناطق بصفة خاصة يبدو أكثر تعقيدًا، لذلك فإن معرفة المسلمين العوامل المعنوية للثقافة الإسلامية ضرورةٌ لا بد منها، من ناحية أخرى، فإن علاقة المسلمين المعاصرين بالتصوّف ليست أفضل منها في الفترة التي عاش فيها البوشنجي.
ليست الحياة القلبية فقط هي ما ضاع في عصرنا، ولكن اختفى أيضًا التمكن من المصطلحات الصوفية والإلمام بها، فكم من الناس يعرفون اليوم عصر القشيري والهجويري والغزالي والعالم الصوفي الثقافي الواسع في ذلك العصر؟
لا شك أننا لا نقصد من السؤال هنا مجرد التأكيد على عدم الحاجة لمناقشة منهج منضبط لم يبق منه سوى اسمه فحسب؛ لأن المسلمين لم يكتفوا فقط بقبول القيم الإسلامية وتبنيها في كل عصر، فقد كانوا يرغبون في الإحساس بها ومعايشتها بعمق في ضمائرهم وقلوبهم كنظام أخلاقي وروحي ومعنوي، ولا تزال رغبتهم وطلبهم هذا حيًّا بقدر ما كان في الماضي، ومستمرًّا اليوم وسيظل مستمرًّا في المستقبل، لهذا السبب كان من المهم الوقوف على المصطلحات الصوفية بعضَ الشيء، ومعرفة أساسيات تعاليم التصوف الإسلامي السُّني، وإطاره وحدوده؛ لأن التحولات الفكرية والروحية اليوم ليست بأقل مما كانت عليه في الماضي.
مراحل تطور التصوف الإسلامي
وإذا أشرنا ههنا بإيجاز إلى عملية تشكل نقاط التحوّل المهمة في تاريخ التصوف الإسلامي عبر إعادة تفسير الحياة والمصطلحات الصوفية في إطار المعايير الإسلامية السُّنية، فإنني أعتقد أن أهمية كتاب أستاذنا محمد فتح الله كولن هذا ستُفهم بشكل أفضل.. صحيحٌ أن التصوف كافح وناضل بشكل واضح لقرون طويلة من أجل التواجد في التسلسل الهرمي للفكر الإسلامي، وهذا لم ينشأ فقط من خلال مواقف التيارات السلفية التي تجلت في العصر الحديث تجاه المنهج الصوفي، ذلك أن مسألة قبول الصوفية ظهر كحقيقة أكثر وضوحًا، لا سيما في مرحلة أو اثنتين من التاريخ الإسلامي، والآن دعونا نتناول هذا بإيجاز:
إن التصوف الإسلامي قبل إضفاء الطابع المؤسسي عليه في صورة الطرق الصوفية، ظهر أولًا في صورة الزهد والرقائق، والتوكل والقناعة والعزلة، ثم دخل في مرحلة المحبة والعشق والرضا، أي إنَّ هذه المفاهيم قد شكّلَت المفهوم الصوفي لتلك الفترة، ثم تجسدت حول مفاهيم الجذب والانجذاب والسكْر المعنوي والفناء، وذلك قبل مجيء أبي طالب المكي، والقشيري، والهجويري..
ومما لا شك فيه أنه ظهرت خلال تلك الفترة شخصيات بارزة مؤثرة جعلت بعض جوانب التصوف مثيرة للجدل، مع هؤلاء أفرز التصوف الإسلامي منهج سكر وجذب محفوف بالمخاطر، يستدعي في الأذهان نقاطًا محظورة ظاهريًّا من حيث روح التوحيد، وتوصف بـ”الشطحات”.
من هذه الشخصيات ذو النون المصري (ت: 246هـ/861م)، والبسطامي (ت: 261ه/875م)، والحسين بن منصور الحلاج (ت: 309هـ/921م)، وآراء هؤلاء وأحوالهم التي يمكننا وصفها بأنها صوفية السكر والفناء كان لها تأثير عميق بالفعل على الصوفية في وقتهم، ومع ذلك ظهرت هناك أيضًا شخصيات زودت مظاهر التصوف لهذه الفترة في التقاليد السّنّيّة الوسطية وجمعت المبادئ الصحيحة للتصوف الإسلامي.
ومن هؤلاء الحارث المحاسبي (ت: 243هـ/857م)، وأبو نصر السراج (ت: 378هـ/988م)، والكلاباذي (ت: 380هـ/990م) وأبو طالب المكي (ت: 386هـ/996م)، وقد كان كتاب المكي المسمى “قوت القلوب” واحدًا من أولى الدراسات التي برزت في هذا السبيل رغم ما سبقه من دراسات مستقلّة عن التصوف… وكانت الرسالة القشيرية (ت: 465هـ/1072م)، التي اشتهَرت في الغرب أيضًا مثلما اشتهرت في العالم الإسلامي، تمثل مرجعية مهمّة تخدم هذا الغرض، ويمكننا أن نذكر هنا أيضًا كتاب “كشف المحجوب” للهجويري (ت: 470هـ/1077م).
إحياء علوم الدين وأثره في الحياة الصوفية
ولكن لا هذا ولا أيًّا من المؤلفات التي كُتبت قبله وبعده في العالم الإسلامي أثّر تأثيرًا عميقًا في التصوف الإسلامي بقدر ما أثَّرَ “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي؛ إذ إن كتابه لاقى قبولًا لدى الجميع بدءًا من أكثر الدوائر تطرفًا وصولًا إلى جموع عريضة من الشعب، بل ووصولًا إلى الأوساط العلمية باعتباره مرجعية بلا منازع، كان كتاب الغزالي “إحياء علوم الدين” أول دراسة منهجية موحدة تناولت وتقصت مختلف المظاهر الصوفية من ناحية دمجه في النظرة السنية الوسطية، وكذلك من ناحية المعايير العامة للإسلام السني.
ولا ريب أن مكانة الغزالي العِلمية وشخصيته المؤثرة من كل النواحي أسهمت بشكل كبير في تحقق هذا، فليست هناك أية محاولة في التاريخ الإسلامي قرَّبت التصوف إلى الكيان السني الوسطي، وحببت فيه جماهير كبيرة من الناس بقدر ما فعل هو، لقد وجَّهَ الغزالي ما يكفي من الانتقادات للفلسفة اليونانية التي كانت ثمة محاولات لدمجها في الفكر الإسلامي إبان عصره، وعلى الرغم من أنه كان يصارع تلك الاعتبارات الفلسفية المنتشرة، إلا أنه لا يمكن أبدًا وصف كتابه “الإحياء” بأنه عمل فلسفي، فالغزالي في كتابه هذا وضع برنامجًا ثقافيًّا إسلاميًّا كاملًا بدءًا من تربية اللطائف القلبية والروحية والنفسية، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، وصولًا إلى المجال الأخلاقي والاجتماعي والثقافي؛ فالإحياء نظام كامل يمنح الإنسان رؤيةً كاملة للعالم، وباختصار يُعتبر الغزالي نقطة تحوُّلٍ عند مفترق طرق شكلته المظاهر الفكرية والفلسفية والصوفية في العالم الإسلامي بداية القرن الثاني عشر.
وقد كان كلٌ من محي الدين بن عربي (ت: 638هـ/1240م) ومولانا جلال الدين الرومي (ت: 672هـ/1273م) أكثر الشخصيات جاذبية في التصوف الإسلامي بعد الغزالي وحتى الإمام الرباني، وعلى الرغم من أن مولانا أثار اهتمامًا أوسع في الغرب أيضًا كنظام فكر وطريقة، إلا أن تأثير ابن عربي في التصوف الإسلامي كان أكثر شمولاً وكثافة بعد الغزالي.
ابن عربي الصوفي الأكثر جدلاً
وكما هو معروفٌ، فابن عربي -الذي يعد واحدًا من أكثر الشخصيات الصوفية تأثيرًا وإثارة للجدل وبروزًا في تاريخ التصوف الإسلامي- نظّمَ مفهوم “الوجود” أو “وحدة الوجود” الذي ظهر في قلب التصوف الإسلامي، وفي الغرب كثيرًا ما تمت مقارنة تعبيراته وتفسيراته بالتفسيرات الحلولية والواحدية، وصار بسبب تفسيراته هذه الصوفي الأكثر جدلًا حتى الآن.. ومع ذلك، أنشأ نظامًا عرفانيًّا أثر على جميع الاتجاهات الصوفية اللاحقة، ولم يستطع أي صوفي جاء من بعده أن يبقى بعيدًا عن دائرة تأثيره، آراؤه لم تؤثر فقط على الصوفية المسلمين، بل عبرت حدود الإسلام وأثرت حتى على التصوف المسيحي -إن جاز التعبير- في العصور الوسطى، لقد طور ابن عربي فهمًا خاصًّا به فيما يتعلق بـ”الوجود والولاية”، إلا أن الجانب الأكثر إثارة للجدل فيه كان مفهوم “وحدة الوجود” الذي طوّره.
وقد صار هذا المفهوم العرفاني الداعي إلى وحدة الوجود واحدًا من أكثر القضايا نقاشًا وجدلًا وخطورة في تاريخ التصوف الإسلامي، ولقد انتقلت المفاهيم الصوفية -التي تشير إلى الفكر الكوني في التصوف الإسلامي مثل الولاية ووحدة الوجود والإنسان الكامل والأعيان الثابتة- من خلاله تقريبًا، وتحوّلت إلى التعاليم الصوفية اللاحقة وصارت نظامًا، لهذا السبب، يعتبر ابن عربي والنظام العرفاني الذي أسسه نقطة تحول في تاريخ التصوف الإسلامي بالفعل.
الإمام الرباني الغزالي الثاني
من ناحية أخرى، ثمة فائدة في الإشارة بإيجاز إلى الإمام الرباني وعصره، الذي نشأ في شبه القارة الهندية، وكان أحد المحققين الأصفياء باعتباره أيضًا نقطةَ تحوّلٍ بارزة، فالإمام الرباني هو من أرباب الصف الأول ضمن ترتيب الشخصيات البارزة والمؤثرة التي عاشت في العالم الإسلامي في أواخر القرن السادس عشر والربع الأول من القرن السابع عشر الميلاديين، فمن ناحية كان يناضل داخليًّا مع الآراء الصوفية التي أثرت بشكل أو بآخر في جميع المدارس الصوفية تقريبًا منذ ابن عربي وحتى اليوم.
ومن ناحية أخرى مع تأثيرات تعاليم الهند الشرقية والبوذية الشرقية كتهديدات خارجية.. وعلى الرغم من أن كفاحه لم يكن معروفًا كثيرًا في الغرب، لكنه كان بمثابة فترة غزالية ثانية في التجربة الصوفية الإسلامية، هذا لأن إعادة جذب التجارب الصوفية -التي كانت ابتعدت عن القيم المركزية للإسلام السُّنِّي- إلى المركز من جديدٍ بوعي وتأثير كبيرين قد جاء بانتقادات مهمة لوجهات النظر الوجودية والصوفية، ولكنه رغم أن الإمام الرباني يجد تلقي مبدأ وحدة الوجود خطيرًا وغير كامل، فقد وصف محي الدين بن عربي بأنه ولي من أهل القبول والتحقيق.
أجل، من المعروف أن التصوف الإسلامي زاخرٌ بالعديد من الشخصيات المهمّة والمؤثرة، إلا أننا أشرنا هنا إشارة موجزة إلى الملامح العامة والشخصيات التي كان لها تأثير طويل ومنتظم على التصوف والعرفانية الإسلامية.
النورسي وكليات رسائل النور
وربما يكون من الضروري أن نتطرق هنا إلى الأستاذ بديع الزمان، وهو أحد صناع العقول العظام في عصرنا وله دور مهم في حياة الفكر التركي الإسلامي، فعلى الرغم من أنه بدأ يُعرف حديثًا في الجغرافية الإسلامية الواسعة إلا أنه كان شخصية مهمة ومرجعية في كل مجالات العلوم الإسلامية، إن عمله الفريد “كليات رسائل النور” مع كونه العمل الوحيد الذي يتناول بشكل منهجي ويفصل القول للمرة الأول في تاريخ الإسلام بشأن “الإيمان” -الذي يعد القيمة الأساسية والمركزية للإسلام بصفة عامة- فإنه يضفي فهمًا عميقًا في المعرفة والعرفان على مواضيع مثل الأسماء والصفات والذات والتجلي والمعرفة والمشاهدة التي هي مبادئ مركزية في التصوف… ومما لا شك فيه أن كتابه ليس عملًا يهدف في المقام الأول إلى الكشف عن مبادئ التصوف الإسلامي وتحديدها، ربما أكثر من ذلك، إنه يتناول المبادئ العامة للأصول الإسلامية للدين، ونظام الإيمان والفكر، ويحللها ويشرحها، بل وما هو أكثر من ذلك، إنه يؤكد أيضًا على المعايير الرئيسة لوجهة نظر إسلامية شاملة.
إن بديع الزمان سعيد النورسي إنسانٌ جامع، لذلك فإن أعماله تنفذ وتمتد إلى كل مجال من مجالات التشريع والفكر والتقاليد الإسلامية، وله تأثيرٌ كبير على الفكر الإسلامي الحديث؛ من حيث أنه يقدم كلًّا من العقيدة وعلم الإلهيات الحقيقي، والتفكير السليم، وطريقة العمل الصحيحة والإيجابية على حد سواء.. ولكن عند النظر بعناية أكبر ومن خلال نافذة المنهج الصوفي، يُرى أن كليات رسائل النور تقدم في كل مبحث من مباحثها تقريبًا الأسس الرئيسية التي تقوم عليها الحالة المعنوية الإسلامية، وفي كل موضع من عمله، يشعر المرء بأنه أمام عقلٍ كفءٍ وجذّاب للتقاليد الإسلامية السنية، يتمتع بمرجعية كبيرة في جميع مجالات التقاليد الإسلامية تقريبًا؛ فبفضل قوّته في التفسير وقدرته على التعبير والمعرفة يتناول مفهوم “الوجود” لابن عربي ومفهوم “الشهود” للإمام الرباني، ويلفت الانتباه إلى جوانبهما الخاطئة والناقصة.
ويذكر بديع الزمان كلًّا من الإمام الغزالي وابن عربي والإمام الرباني من وقت لآخر، ويعتبر كلًّا من الإمام الغزالي والإمام الرباني بصفة خاصة محقّقين ومدقّقين في العلوم الصوفية والعرفانية، وعلى الرغم من أنه يلفت الانتباه إلى الجوانب الخطيرة في مفهوم “الوجود”، إلا أنه يصف ابن عربي بالمحقق في مواضيع المعرفة، إلى جانب ذلك فقد كان -على حد علمي- أحد العلماء الذين حللوا مفهوم “الوجود” للإمام الرباني، بل وربما كان الأول، ومع ذلك، فإنه لا يؤسس مدرسة معرفة وتصوف بشكل تقليدي، ووفقًا له، فإن أهم مشكلة في العصر الحديث تتمثل في أن الكفر والإلحاد صارا منتشرَين على نطاق واسع كتيار سياسي واجتماعي وثقافي.. لذلك فإنه بدايةً يعرّف طريقته ومنهجه بأنه “مسلك الصحابة”.. ومن الواضح أن مهمته تحمل محتوًى أوسع وأكثر اجتماعية مقارنة بالمدرسة الصوفية.
فتح الله كولن والتلال الزمردية
بعد هذه الملاحظات دعونا نذكر أن التصوف الإسلامي أيضًا شهد عبر تاريخه الطويل مظاهر تنتهك حدود التشريع الإسلامي بين الحين والآخر، إلا أنّ شخصيات مهمة نشأت وظهرت في كل فترة أعادت تلك الآراء إلى داخل المعايير الإسلامية السُّنّية وضوابطها.
إننا لا نعتزم هنا مناقشةَ المجالات الخطيرة في التصوف الإسلامي بتفاصيلها، ولكن المقصد الرئيس وراء كل هذا الغوص المرهق الذي نضطلع به هو لفت الانتباه إلى أهمية عمل الأستاذ محمد فتح الله كولن، وإلى مكانته الخاصة في التراث الصوفي الإسلامي، ولقد حاولنا أن نطالع سلسلة “التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح”، ونتابعها مبحثًا تلو الآخر مع محيط الأصدقاء المقربين، وأستطيع القول إننا في أثناء تلك المطالعات دائمًا ما كنا نشعر بالأمان، وعلى الرغم من أن الكتاب كان يحتوي كثيرًا من المواضيع والمباحث الصوفية المرهقة، التي تتطلب دقّةً وحَيطةً، إلا أننا تنفّسنا باستمرار هذه الثقة والطمأنينة ونحن نتجول في حماية هذه المرجعية والأسلوب الحقيقيين الجادين، فلا ريب أن الأستاذ واحد من الحلقات الأخيرة في تقليد العلماء القدامى، ومرجعية من بينهم، إنني أعتبر قول شيء عن حياته وشخصيته العلمية هنا من نافلة القول؛ فعندما تتجولون بين سطور كتابه هذا ستشاهدون تضلُّعَهُ من العلوم الإسلامية.
ولكن دعونا نؤكد ثانية على أن عمله هذا سوف يأخذ مكانه كأحد المراجع الرئيسة للتصوف الإسلامي السني على غرار الإمام الغزالي والإمام الرباني والأستاذ بديع الزمان؛ إذ إنه يضع -وعلى نطاق أوسع- المصطلحات الصوفية على أساس صحيح من خلال ترسيخه مبادئ “الحذر واليقظة” للمعنويات الإسلامية السُّنية، ثم إن حساسيتَه واهتمامه وحذره الشديد حول المشاهدات الصوفية لا يشكل جانبه الذي ينعكس منه على المقالات الواردة في الكتاب فحسب، فكل قارئٍ، أيًّا كان حجم درايته بعالم التعبير والأسلوب والفكرة؛ يعرف هذا الاهتمام والحذر والعمق من خلال عالمه الروحي والفكري والاجتماعي كله.
ولقد لاحظت عدة مرات في سلسلة “التلال الزمردية” أن بعض المفاهيم والتعبيرات والتفسيرات، التي عبر عنها بين الحين والآخر فيما يتصل بالحياة والتجربة الصوفية، قد تطابق تمامًا مع أسلوب التعبير والتفسير والرأي الذي استخدمه في مجالس العلم والذكر قبل عشرين عامًا، وهذا يدل على معرفته العميقة بالمصطلحات الصوفية والتجربة والمشاهدة ووقوفه عليها.
أجل، بالفعل توجد في التصوف الإسلامي قضايا لا يملك حتى أصحاب الكلمة والقول في هذا المجال القدرة على تقديمها بطريقة سهلة، بل وحتى كتابتها وصياغتها بالألفاظ، وقد شاهدنا عدة مرات أن الأستاذ يتحدث في هذه المجالات كلها بوعي وراحة حقيقيين، يبدو الأمر كما لو أنكم أمام عقل وأسلوب حلَّ هذا النوع من القضايا والمواضيع وفصل القول فيها وهو لا يزال بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر، ربما هناك الكثير يمكن قوله في هذه المسألة، ولكن دعونا نختتم هذا الإسهاب المرهق بقول بضع كلمات حول التعبير والأسلوب والمحتوى والغرض من الكتاب دون الدخول في مجال المختصين أكثر من ذلك.
كولن وتحليل مفاهيم التجربة الصوفية
بدايةً يجب القول إن هذه الدراسة ليست دراسة عامة لتاريخ التصوف الذي يجري فيه تناول التحولات الروحية والمعنوية التي عاشها الصوفية المسلمون عبر التاريخ الإسلامي، إنه بصفة عامة، يعبر عن المبادئ التي تقوم عليها المعنويات الإسلامية؛ وعن تحليل راشد تمخَّضَ عن عقلٍ كفءٍ ومرجعيٍّ في العلوم الإسلامية بشأن عالم مفاهيم التجربة الصوفية الإسلامية ومصطلحاتها.
هنا ينفذ الأستاذ إلى البنية الداخلية والقلب من المعنويات والتصوّف الإسلامي من خلال تحليل المفاهيم الأساسية الرئيسة للفكر الصوفي.. وبينما يحلّل المفاهيم واحدًا تلو الآخر، يحافظ بعناية وحساسية على البنية التكاملية للتصوف الإسلامي، وهذا واحدٌ من أهم جوانب هذا الكتاب أصلًا، ويمكن لأي شخص ينظر إلى تاريخ التصوف الإسلامي نظرة عامة أن يتعرف بسهولة على البنية الجزئية وغير المنظمة لمختلف التجارب والمشاهدات عبر القرون الطويلة، وعلى الرغم من هذا المظهر المشتت، فقد أفرز التصوف الإسلامي تكاملًا رائعًا في المعرفة وفهمًا كبيرًا للتوحيد، ولكن البراعة تكمن في العين التي تستطيع رؤية هذا البناء التوحيدي كتلةً واحدة..
إن “التلال الزمردية” عبارةٌ عن تحليل تلك العيون للتصوف الإسلامي تحليلًا منهجيًّا، يتم من خلال التقاطه وتصفيته عبر معايير حساسة، إن عمله هذا ليس ساحةً تلاقت فيها التجارب الصوفية على منوال باقي الأعمال الغابرة، على العكس من ذلك، إنه يحرص بشدة على إبقاء مختلف الخبرات والأحوال المعنوية والروحية، داخل دائرة التشريع الإسلامي السنِّي بحساسية ومسؤولية كبيرين.. وبعبارة أخرى، إنه من خلال تفسيراته حول المصطلحات الصوفية، يكشف الأسس الشرعية للفكر الصوفي السنّي، ومن ناحية أخرى، فإنه إزاء حتى أكثر التعبيرات تجاوزًا وغرابة للمرجعيّات الصوفية، كان يحاول أن يتناولها من جانبها الذي يحافظ على بقائها داخل حدود الشريعة، ويتبع منهجًا توفيقيًّا وتأليفيًّا قدر المستطاع.
وكما هو معروف، كانت هناك عاصفة مستعرة حول بعض المفاهيم الصوفية في التاريخ.. ومع ذلك فإن الأستاذ محمد فتح الله كولن يتعامل مع مثل هذه المفاهيم والتفسيرات بحساسية كبيرة وشعور واعٍ بالمسؤولية، إن ما يُعرف في التصوف الإسلامي باسم “الشطحات” ويضغط على الحدود الظاهرية للشريعة وينتهكها، يشكل أحد” المناطق الخطرة” في التصوف الإسلامي، وقد تحقق تفسيرها وإبقاؤها ضمن حدود الشريعة فقط على يد أشخاص يتصفون بالمرجعية والحصافة في تاريخ التصوف الإسلامي؛ لأن هذا العمل بينما يتطلب إحاطةً وشمولًا من جهة، يتطلب إحساسًا حقيقيًّا بالمسؤولية من جهة أخرى، وإلا فلا مفر من ارتكاب الخطأ الذي وقعت فيه بعض المقاربات السلفية المعاصرة، إنهم ومن أجل الحفاظ على ما يسمى بالحدود الظاهرية للشريعة الإسلامية، اتجهوا إلى إنكار هذه التجربة الإسلامية الواسعة إنكارًا تامًّا؛ فتسببوا في حدوث ضحالةٍ مذهلةٍ في المعنويات والحكمة الإسلامية والحكمة في مثل هذه المفاهيم.
ولو جاز التعبيرُ فالتلال الزمردية تعيد صياغة التصوف وتحلله وتنظمه ضمن مبادئ الإسلام السني لإبقائه في قلب التقاليد الإسلامية، ويمكن القول إن المصطلحات الصوفية تخضع لتفسير جديد لأول مرة بهذا القدر، ومثل هذه العملية المجهِدة تتطلب بالطبعِ وعيًا ووقوفًا عميقًا على جميع العلوم الإسلامية تقريبًا، ومن خلال استخدام هذه المرجعية وتفعيل هذه الحساسية؛ قرَّبَ الأستاذ المحترم المصطلحاتِ الصوفيةَ إلى عالم العقل والسلوك لدى المسلم المعاصر.
شرح معرفي عرفاني
التلال الزمردية، وإن لم يتناول المدارس الصوفية الإسلامية بالدراسة من حيث وجهات نظرها واصطلاحاتها وطرق تفكيرها، إلا أنه ركز بعناية وحساسية فائقة على المفاهيم المركزية للتصوف..
هنا تُقدم وجهات نظر الصوفية بشأن الوجود، ووجهات نظرهم بشأن علم الكلام، ونظريات المعرفة، ولكن في إطار ثقافة وفلسفة صوفية منظمة ومنهجية إلى حد كبير، وبالطبع لا يتم التعبير عن كل هذا تحت هذه العناوين مباشرة، بل من خلال المفاهيم الأساسية للتصوف..
هنا يقدم الأستاذ محمد فتح الله كولن تفسيرًا قويًّا للمفاهيم الصوفية مثل حكيم حاذق متخصص بالمعاني، وينادي نداء بصير، ليس فقط على مفاهيم العلم والحكمة التي تشكلت في التجارب الخاصة للصوفية فحسب، بل وعلى مفاهيم العصر الجافة التي صارت غريبة على ذاتها وأكثر مادية.
التلال الزمردية لا تصنع فلسفة صوفية جافة بحتة، فلا تقتصر أي من مباحثها على نشاط عقلي وفلسفي مكثف؛ فكلُّ مبحث فيها طُوِّر بحذر وتيقظ عقلي وفكري حقيقي ينتهي بترسيخها على أساس عملي في الحياة الفردية والاجتماعية بالنسبة لمن نذروا أنفسهم لخدمة الحق في هذا العصر، وهذه الحساسية تستند، في الوقت نفسه، إلى مبدأ أساسٍ لتجربة التصوف الإسلامي السني أيضًا.
ويتمسك الأستاذ بمبدأ آخر، ألا وهو “حقيقة ضرورة أن تكون الولاية وريثة لمهمة النبوة”.. وهذا يعني أنه ينبغي للتصوف الإسلامي، على الرغم من كل عمقه، أن يخاطب سلوكيات الأفراد الاجتماعية، والحماسَ والإثارةَ التي يشعرون بها عند تبليغ الإسلام، وكذلك مشاعر الإحسان والتضحية وكل أنواع الخير التي سيفعلونها لصالح الإنسانية، بقدر ما يميل إلى تحسين جوانبهم الأخلاقية والروحية والعرفانية، بحيث تكون على الوجه الأكمل، فإن لم يتحول إلى مشروع اجتماعي، ولم يعمل على رفعة الناحية الأخلاقية والروحية العامة للمجتمع، مثلما يُربي نفوس الأفراد واحدًا واحدًا، فقد اعتبر ذلك غير مقبول.
ويمكن القول: إن هذه الدراسة -بسبب جوانبها هذه- هي المثال الأول والوحيد.. ومما لا شك فيه أن التصوف تهيئة وإعداد معنوي وفردي، ولكن كلَّ مبلغ ومرشد وخادم يخدم المجتمع والإنسانية العامة ينبغي أن يكون لديه هذا التجهيز والعُدَّة، وقد تحملت سلسلة التلال الزمردية هذه المهمة.
التلال الزمردية لا تكتفي فحسب بالنقل من تاريخ التصوف الحافل فيما يتعلق بالعالم والنفس الإنسانية، كما أنها تضع نتائج وتصوغ توليفات جديدة بوعي كبير، وتفصل العديد من الأفكار والمفاهيم الصوفية المجملة المبهمة وتوضحها؛ فكما هو معروف، تتسم لغة التصوف ومصطلحاته بالغموض والإبهام أحيانًا نظرًا لأنها تعتمد على تجارب ومشاهدات خاصة وشخصية، حتى إن الصوفية يريدون أحيانًا تخصيص ملاحظاتهم بشكل أكبر عن طريق صنع تلبيسات وإبهامات واعية مقصودة، وفي مثل هذه الحالات، يكاد يكون من المستحيل فهم الجمل والعبارات، ومن يدري! فربما أراد الصوفية بفعلهم هذا إظهار أنهم لا يرضون بأن تصير مشاعرهم ومشاهداتهم العالية عادية مبتذلة، فتصرفوا بحذر كي لا ينحرف بأي شكل مَن هم أقل منهم مستوًى من السالكين؛ فيسيؤوا تفسير هذه المشاهدات والعواطف العالية.. فيوضح الأستاذ بأسلوبه الخاص العديدَ من التعاليم والمبادئ الصوفية التي ظلت مخفية ومبهمة لسبب أو لآخر، فهذه الامتيازات العالية، التي تتطلب معرفة عميقة، ترضي وتُشبعُ المرء عقلًا وقلبًا وروحًا.
تستند التلال الزمردية في تفسير المفاهيم والمشاهدات الصوفية على “الصحو والتمكين”، لأن الصحو والتمكين لا غنى عنه، مثله مثل أصل من أصول الدين؛ فجميع التكاليف الشرعية تخاطب العقل والفطرة السليمة والنفس الواعية، وإنها لَحقيقة أن العمق المعنوي في الإسلام يتضمن منطقةً تتجاوز معايير العقل ومقاييسه بشكل مباشر.
وبمعنى آخر: هناك مجالات للعمق الصوفي؛ بحيث إن الأحاسيس العالية والتجارب والاكتشافات والمشاهدات لا تكون غالبًا مجرد أنماط من التعبير اللغوي، وليست حقائق يمكن التعبير عنها وفهمها بقوة العقل وحده في الإدراك والفهم.. والصوفية في مثل هذه الأماكن إما أن يُفسحوا مكانًا للعبارات التي تستند إلى الحذر واليقظة بصفة عامة، أو يسكتوا عنها، أو يلجؤوا إلى العبارات التي تتجاوز الحدود العقلية والشرعية وتُسمى بـ”الشطحات” في التراث الصوفي..
كيف رأى كولن شطحات الصوفية؟
إن “الشطحات” واحدة من أكثر مناطق التصوف الإسلامي خطورة، إنها تشير إلى انهزام الصوفية لمشاهداتهم وتعرضهم لأحوال الجذب والسُّكْرِ المعنوي، وبمعرفة وحساسية ومسؤولية إيمانية وحكمة كبيرة يقترب الأستاذ كولن من العبارات التي تنبئ عن شطحات، وعبر كشفه عن الجوانب التي ما زالت ضمن حدود التشريع الإسلامي في مثل هذه التعبيرات؛ فإنه يجذبها إلى المبادئ السنية المركزية ويفسرها.
ووفقًا للمبدأ المقبول الذي يحظى بقبول عام في التصوف الإسلامي السني، فقد التُمس العذر لأصحاب مثل هذه الأحوال والعبارات على اعتبار أنهم يعيشون حالة من السكر المعنوي والجذب، أما في حالة الصحوة واليقظة، فلا تُقبل مثل هذه العبارات، ولقد حافظَ الأستاذ محمد فتح الله كولن بتفسيراته هنا، على الاحترام والأدب الرفيع للسلف عاشقي هذه المعرفة، وقدم تفسيرًا حكيمًا لمثل هذه الأحوال والسلوكيات، فوضع بذلك مبادئ المنهج في مقاربة هذه الأمور، في حين حدثت عبر التاريخ الإسلامي مواقف محزنة بسبب الاقترابات الضحلة التي مُورست تجاه المنتسبين إلى أهل السُّكْر المعنوي والجذب.
الحكمة والمعرفة
التلال الزمردية لم تظهر باعتبارها سلسلة تم التفكير فيها والتخطيط لها مسبقًا؛ فقد بدأت تتشكل تدريجيًّا نتيجة للحاجة، وكما هو معروفٌ فما جلس الأستاذ ولا بدأ في الكتابة أو الحديث عن أي فكر لم يمر بألم المخاض، لم يكتب لمجرد الرغبة في الكتابة، فالفِكرُ عنده متداخل مع الحركة والعمل.. فكما أنَّ كلَّ عمل يتغذَّى بفكرة معينة، فإن كل خطوة وحركة تمهد الطريق لأفكار ومشاريع جديدة.
وعندما بدأت التلال الزمردية تعطي أولى علامات تكوّنها جاءت اجتماعية المحتوى والأسلوب بشكل أكثر.. كانت علاماتها الأولى في الوقت نفسه تتزامن مع فترة عقمٍ تكونت حول المعنويات الإسلامية.. وبينما كانت تناشد الإحساس المادي والعقلاني المفرط للعصر من ناحية؛ كانت من الناحية الأخرى تحاول أن تقدم للميول الصوفية التي بدأت تظهر حديثًا المبادئَ الأساسية والأسس السنية للحياة الصوفية الصحيحة.. واضحٌ أن الأستاذ قد استقبل واستشعر مبكرًا إشارات حقبة جديدة في المعنويات الإسلامية، ذلك أنه قال في إحدى جلساته “إنني أقدم المفاهيم أولًا، ثم سأتحدث بشأن هذه المفاهيم”.
وإنني كشأنِ كثيرٍ من الناس، لم أستطع إدراك ماهية تلك الكلمات آنذاك.. ومع ذلك، وكلما مر الوقت وبدأت التلال الزمردية تتجسّد، بدأتُ أُلاحظ في يومنا نشوءَ اهتمامٍ وميلٍ متزايد نحو المعنويات الإسلامية في كل من العالم الإسلامي والغرب، ومن الواضح أن مثل هذه الاتجاهات، عقليًّا وفكريًّا وسيرًا وسلوكًا، ستصير أكثر أهمية في المستقبل القريب، فالحركات المتشددة والأساليب الفكرية الكثيفة ليست مطلوبة اليوم كثيرًا سواء في الشرق أو الغرب، فالبشرية في كل مكان في حاجة ماسة إلى تركيبة معنوية وروح الوحدة، ولا يمكن أن يتشكل التسامح والمصالحة والحوار والإخاء إلا على أكتاف الأشخاص الذين يتمتعون بهذا العمق الروحي والمعنوي.
أدرك الأستاذ هذه الحاجة مقدمًا، وتصديًا منه للانحرافات الصوفية والفكرية والقلبية المحتملة تناول مبادئ ومفاهيم التصوف والمعنويات الإسلامية في إطار مبادئ الإسلام السُّني؛ مفسّرًا إياها بأسلوب جديد وغني، ومن ناحية أخرى، فإن اليوم يشهد حالة من الاستغراب تجاه المعنويات الإسلامية تُشعر بوجودها بالفعل، فالمسلمون يواجهون تحديًا من كل من القيم الغربية وحياة الرفاهية الناتجة عن التكنولوجيا المادية الحديثة، وهذه المرحلة تجبر الهوية الإسلامية والشخصية الإسلامية على تحول روحي ومعنوي في العديد من المجالات..
إن التلال الزمردية لتشكّل نوعًا من الدفيئة والحصن ضد مثل هذه النزعات المادية والعقلانية التي تهدد النفس الإسلامية، إنها نتاج جهود تسعى إلى أن تجذب من جديد العمليات الفكرية والعقلية والقلبية المشتتة إلى قلب التقاليد ومركزها.
التلال الزمردية جهدٌ يرتكز على “الحكمة والمعرفة” ويدعو إلى فهم أعمق وأكثر إدراكًا للإسلام تصدّيًا لفهمه فهمًا جافًا وفظًا وشكليًا.. إنها تلفت الانتباه إلى التجربة المعنوية والمعرفية العميقة للتقاليد الإسلامية، في مقابل تعاليم العصر المادية والوضعية، التي تُرجع كل شيء إلى عقلانية جافة سعيًا إلى تحقيق النجاح والكفاءة فقط على الأسطح الخارجية، إنها التلال تدل على أن الفضيلة والسمو ومصدر الإنسان الكامل ليس موجودًا في تلك العقلانية والشكلية الجافة، ولكن في التقليد المديد للإسلام نفسه، وبدون استكمال هذه التحولات الروحية والمعنوية، فلن تستطيع المجتمعات أبدًا تربية أناس فاضلين وسامين، ومن هذه الناحية فإن التلال الزمردية تمنح الداخل والخارج على حد سواء -أي الإنسانية جمعاء- أفقًا وهدفًا معينًا.
الشعر الصوفي ودوره في الحياة المعنوية
التلال الزمردية مع أنها جاءت بأسلوب النثر بشكل عام، إلا أنها من خلال تقديمها نماذج من الشعر الصوفي تجعل مباحثها أكثر إثارة وتشويقًا، فكما هو معروف، لم يكن التصوف الإسلامي في صورة النثر فقط، بل ضمّ شعرًا وأدبًا أيضًا، فكثيرًا ما تتجاوز التجارب والحواس المعنوية حدود التعبير والأسلوب العادي، حيث تخاطب ميول العاطفة الأعلى عند الإنسان، إن الشعر الصوفي مهم من حيث إظهاره الحدود العاطفية والحسية التي تصل إليها الأحاسيس المعنوية، بل يمكن القول إن العديد من الصوفية فضلوا التعبير شعرًا عن تجاربهم ومشاهداتهم الخاصة؛ لأن لغة الشعر العالية وقوته التعبيرية أكثر إثارة وحماسة، وأقوى بكثير مقارنة بغيرها من وسائل التعبير العادية، علاوة على ذلك، فإن تجاوز الحدود الإنسانية والعاطفية يبدو أسهل عبر الشعر.. وبطريقة ما، لجأ الشعراء الصوفية إلى الشِّعر للتغلب على الإطار الضيق لحدود العاطفة والتعبير الإنساني للعقل، إنها منطقة تتجول فيها الأحاسيس والعطاءات العالية بحرّية أكثر.
إن الشعر لديه قوة تعبيرية هائلة؛ بحيث يمكن للمرء أن يعبر في مصراعٍ شعريٍّ، أو في بيت واحد من الشعر عن حقيقة لا يمكن الحديث عنها إلا من خلال صفحات من النثر.. وبقدر ما ربط الصوفي التقليدي الأدب بأسس معينة بواسطة النثر؛ ربط التجارب المعنوية بمبادئ معينة من خلال الشعر، والأستاذ كولن كذلك عالم يكتب النثر ويقرض الشعر، وبمعنى أصح إنه يعبر عن أفكاره وحكمته بالشعر أيضًا بقدر ما يعرب عنها بالنثر، بالإضافة إلى ذلك، فإن أسلوبه في الكلام والخطابة، وكذلك أسلوبه في الكتابة والنثر جميل وأخّاذٌ مثل الشعر، ومن الممكن رؤية هذا الجو الشعري في العبارات الأخيرة من كتاباته، ويحتوي كل مبحث تقريبًا في التلال الزمردية على بيت واحد أو أكثر يضم أسرارًا دقيقة وأحاسيس عالية من الشعر الصوفي، إنه يقدم للقارئ مختارات غنية من الشعر الصوفي تتشكل من أشعار الصوفية العرب والفرس والترك..
ولكن ثمة شيء واحد أود التعبير عنه هنا؛ ألا وهو أنني أجد أنه من المهم، ليس فقط من قبيل التقدير، ولكن من حيث الحقيقة التي يحتوي عليها؛ القول إن الأستاذ بكل أحواله هو رمز حي لهذا الفهم المتواضع الفريد لتقاليد العلماء والتكية، إنه يجلب إلى التلال الزمردية عديدًا من المتع الشعرية المختلفة بدءًا من مولانا إلى جامي وشبستري؛ ومن يونس أمره ونيازي المصري وإبراهيم حقي إلى الشيخ محمد لطفي أفندي، ويجعل المباحث الصوفية تتنفس بها، ومع ذلك، لم يقتبس من عملِه الشعري المسمّى “المضرب المكسورة” أكثر من قطعةٍ أو اثنتين، في حين أن هناك أشعارًا في “المضرب المكسورة” تحتوي على أبيات صيغت بذوق وإحساس لغوي عالٍ للغاية خاص بالبعد الروحي والمعنوي للإسلام، حتى إننا بينما كنا نطالع التلال الزمردية مع الأصدقاء، تكونت لدينا قناعة في معظم الوقت بضرورة قراءة هذه القضايا إلى جانب العديد من القصائد الواردة في “المضرب المكسورة”، ذلك أننا شاهدنا أن العديد من عبارات المباحث الصوفية الطويلة التي تُرهق العقل والإدراك قد عُبِّر عنها هناك في بيت واحد وبأسلوب أدبي مليءٍ بالحكمة.
والحاصل أن الشعر الصوفي يشكل جزءًا لا يتجزأ من المعنويات الإسلامية والتقاليد الصوفية، وكما يزعم بعض المستشرقين فإن الشعر؛ ليس طريقة وسبيلًا للهروب من الحدود العقلية والإنسانية والشرعية، وإنما هو وسيلة وطريقة للبحث في الداخل عن الحل والتعبير. نعم، في الواقع يستخدم الشعر في الأدب العالمي كله لغة مجازية تفوق حدود التعبير والعقل الطبيعيين، ولكن هذا هو السمة العامة للشعر، والسبب الرئيس وراء كونه وسيلةَ تعبيرِ عالية وبديعة.. ومع ذلك فإنه مهما عبر عن الحقائق والأحاسيس العالية والبديعة في التصوف الإسلامي، فهو مضطر للبقاء ضمن حدود التشريع الإسلامي، وقد حدث ذلك بالفعل.
البيان والبرهان والعرفان
إن من السمات الأساسية لفهم الأستاذ كولن للحكمة والمعرفة هو سيره في نظامه الفكري على مستوى “البيان والبرهان والعرفان”؛ فهذه الأبعاد الثلاثة تشكل الخصائص الرئيسة للفكر والحضارة الإسلامية، ومن الممكن أيضًا ملاحظة ذلك في التلال الزمردية، وعلى حين يحلل المشاهدات والتفسيرات التي تشكل شدًّا معنويّا عاليًا في التصوّف الإسلامي مثل أحلك المفاهيم المعنوية، وأحوال الجذب والانجذاب، والسكر المعنوي والجمع والفرق والوجود والتوحيد والفناء بالله والبقاء بالله؛ لم يتجاهل قطُّ مبادئ العقل والمنطق الإسلامي السليم، ونظام المعرفة الإسلامية العامة، والمعايير الرئيسة لمبادئ الحكمة السنية؛ وبحساسية واهتمام وحذر كبير تعامل مع هذه القضايا بطريقة تُقدّم فهمًا إسلاميًّا كلّيًّا، وهذه المسألة لن تغيب عن عيون ذوي البصيرة ألبتة…
التلال الزمردية عبارة عن واحة من مجالس الله تجذبنا إلى هدفنا المتمثل في الوجود من جديد في زمن يمكن فيه للمشاغل الدنيوية والمادية أن تستحوذ على اهتماماتنا الفكرية والعقلية والقلبية، كما أنها تربط كل اهتماماتنا البشرية وتوصلها بما وراء الغيب، إنه رباط يهم المؤمنين من جميع المستويات، ولكنه قد يكون لازما وضروريًا، بقدر الماء والهواء، لا سيما بالنسبة لأبطال الخدمة الذين يكرسون كل جهودهم وهممهم لصالح الإنسانية،
ولا أعرف إذا كانت هناك حالة من شأنها أن تعبر عن هذه الحقيقة بشكل أفضل من ذلك، وكملاحظة اعتقدت أنه لا بد من تقييد حادثة مهمّة مضت؛ ألا وهي أنني تذكرت صديقًا طلب من الأستاذ أن يستمر في شرح الأسماء الحسنى الأخرى كما شرح قبل ذلك الذات والصفات والأسماء الإلهية، وأن يستمر أيضًا على نفس المنوال من الدقة والعمق والتمكين والمعرفة؛ فإنني رأيتُ الأستاذ انحنت قامته فجأة أمام هذه العبارات، واغرورقت عيناه وقال:
“أستطيع أن أقول إن حياتي كلها كانت قد انقضت بالاشتغال بالخدمة. ولكن عند النظر إليها من زاوية الكلام عن الحبيب وتعريف الناس بالله فدائمًا ما كنت أتحسّر متسائلًا عما إذا كنت قد ضيعت حياتي أم لا!”. أجل، لقد شرح أستاذنا الجليل في الكتاب، بعض الأسماء مثل الأول والآخر والظاهر والباطن، ونأمل ونتوقع ألا يفتأ يُذيقنا هذه المتعة المعرفية الروحية والمعنوية عبر شرح كل الأسماء الأخرى، لقد رأينا أن الكثير من الآمال والتوقعات قد صارت على مر التاريخ ورادات تملأ مجلدات عديدة، آمل ألا تظل آمالنا وتوقعاتنا هذه دون إجابة.