يؤمن “كولن” بمبدأ حق البشر في تداول المشتركات التجهيزية والإنجازات الإنسانية، وبكونها ثمرة ومكسباً لا ينبغي التقصير في الأخذ به والتمرس عليه، لاسيما في الحقل العلمي وفي المجالات التطبيقية، إذ بتوسع المعرفة الإنسانية يتحقق التطور. وحين يُبني التطور على مسطرة من أخلاق النزاهة والحيادية، ينعكس بثماره على الإنسانية جميعا، إذ إن أي اكتشاف علمي أو صناعي أو صحّي أو ما إلى ذلك، إنما تترجح فائدته المادية والأدبية -حتى بالنسبة لمكتشفيه ومُنْجزيه- على قدر ما يتسع تداوله ويروج استخدامه. ذلك أن الأخذ بأسباب التطور -عندما يسير في الاتّجاه الصحيح- لا يعني إلا أن الآخذين بتلك الأسباب إنما يسكنهم إلى جانب وازع الترقية التجهيزية، وازعٌ معرفي مُلِحٌّ هو الحرص على الوصول إلى المستوى الذي يتمكّنون فيه هم أيضًا من استكمال الاستعداد والتهيّؤ للإسهام بدورهم في حركة الكشوف والإبداع، فيغدون من ثمة متحكّمين في التقانة، مولّدين للعلم التجديدي، مصدّرين للخبرة، ومزوّدين للسوق العالمي بالمنتوج الذي صنَّعته أيديهم، وبالتقنية التي تفتّقت عنها عبقريتهم.
يؤمن “كولن” بمبدأ حق البشر في تداول المشتركات التجهيزية والإنجازات الإنسانية، وبكونها ثمرة ومكسباً لا ينبغي التقصير في الأخذ به والتمرس عليه، لاسيما في الحقل العلمي وفي المجالات التطبيقية.
رؤية ذات جذور
لا ينطلق كولن في هذا التصور من فراغ، إنما هو يستند إلى معطيات التاريخ، إذ إن العثمانية التي رادت الأمة في بناء حضارتها الإسلامية ردحا مديدا من الزمن، قد سجّلت على مدى القرون صفحات من السبق المعرفي والظهور الإنجازي، بحيث لبثت طيلة العصر الوسيط مَصْدَرا باثًّا للقيم الحضارية والمدنية، وموئلا مستقطبا للخبرة العالمية، ومثابة مستقبلة لأهل القرائح والإنجازات من كل صدد وصوب.
بهذا الوعي يرى كولن أن مرحلة الاقتراض المدَني لا تعني الاستنامة للعجز الإنتاجي، بل عليها أن تكون جسرا تعبر الأمة من فوقه إلى طور التصنيع الشامل، وتتجاوز وضع العقم الذي صير مجتمعاتنا المسلمة أسواقا تستجلب إليها البضائع، وجعل جموعنا البشرية مجرد كتل تستهلك ولا تكاد تنتج شيئًا. إن رصيدنا من الناجز الحضاري الإسلامي، مرجع حيوي لتغذية القريحة وشحذ الهمّة وتحريك مفاعيل العمل والبناء، والانطلاق من جديد في صناعة المستقبل وإقامة الصرح.
إن استمداد المدنية الراهنة وتلقّي نتاجاتها ومنجزاتها لا يكون مفيدًا وإيجابيًّا إلا إذا رافقه وعي يستصفي شوائب تلك المستوردات.
فالخلفيّة التي تستند إليها الانبعاثة النهضوية، مشحونة بالمآثر والصفحات البيض التي ستشكل أرضية الفتوح العلمية المنتظرة وأساس التنمية المنشودة. إن اقتحامنا للرهان التصنيعي والتثميري لا ينبغي أن يكون مجرد مغامرة تفتقد إلى شروط الأهلية والاستحقاق، بل عليه أن يكون يقظة يسوغها وضع الانسحاق الذي نعيشه منذ أمد. من هذه الاعتبارات يرى كولن أن النهضة هي في واقع الأمر توبة شرعية ومدنية تستدرك بها الأمة ما اقترفت من إثم التفريط والتقهقر والإخلال بموثق الائتمان.
انتفاع بمنتجات الحضارة بشرط التصفية من الشوائب
إن استمداد المدنية الراهنة وتلقّي نتاجاتها ومنجزاتها لا يكون مفيدًا وإيجابيًّا إلا إذا رافقه وعي يستصفي شوائب تلك المستوردات؛ إذ إن العقل الذي صاغها واستنجزها عقل لا يهتمّ بالبعد الشرعي في المصنوعات، لأن التأثيث المادي هو غايته فلا غرو أن نرى قطاع الألبسة مثلاً لا يفتأ يمعن في التهتك والسفورية وتخطي حواجز الاحتشام. ذلك لأن ضوابط حضارة “الموضة” ليست شرعية إنما ربحية. والأمر نفسه نجده في ميدان التغذية والتموين والتطبيب وما إلى ذلك، إذ يغيب البعد الشرعي في صناعة الأطعمة والمواد الدوائية، فلا تراعى المحظورات. إن حضارة الراهن الغربية حضارة لائكيّة، مادية، اختلاطية، فهي من ثم تقتضي من المتداولين لابتكاراتها، أن يصطنعوا نظام “فَلْتَرَة” وتصفية مانع للأذى، صونًا للقيم الأصلية من الأضرار.
——————————————–
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ108-110.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.