أما قبل

رفعت الأحداث الجسام وشدائد الواقع، التي يمر منها العالم كله وتمر منها الإنسانية، بعض المفاهيم إلى الواجهة بالقوة، كمفهوم “الحوار” والمفاهيم الأخرى المرتبطة به كمفهوم التسامح والتعايش، وغيرها من المفاهيم الأخرى المؤثثة لهذا الحقل الدلالي. ورغم ذلك كله فإن الكثير من الغموض يعتري هذا المفهوم بفعل التفسيرات المختلفة التي تؤَوّله وتفسره، وبسبب سيطرة الأيديولوجيات على هذه التفسيرات والتأويلات، حتى أصبح من الصعب لمس جوهره باعتباره قيمة أخلاقية سامية مساعدة على تجاوز أزمات الإنسان الوجودية ومختلف الصعوبات، التي تهدد كيانه في عالم اليوم.

وفي ظل تعدد التوصيفات الأيديولوجية للمفهوم صار من الصعب تأطيره معرفيا ووضع حد له. إن المفاهيم باعتبارها تصورات ذهنية تسبق التلفظ وتسبق الاصطلاح، وهي متأثرة بمجريات الواقع وتحولاته، الأمر الذي يبعدها عن جوهرها الأخلاقي، الذي يشكل الوقوف عليه مفتاحًا لحل أهم مشكلات الواقع الإنساني وأزماته، وخاصة في الوقت الراهن.

إن المأزق الذي تعيشه الإنسانية اليوم يفرض على كل فرد من أفراد المجتمع الإنساني استحضار جوهر مفهوم “الحوار”، وكل المفاهيم الأخرى التي تعززه وتضع دلالته الحركية أو العملية المتمثلة في التسامح والتعايش والمفاهيم الأخرى التي تصب في هذا الحقل الواسع.

أما بعد

في ظل هذه الصورة التي قد تبدو قاتمة، لا يخلو الواقع من علامات مضيئة تبدد العتمة السائدة، وتبدد شعور اليأس الذي قد يتسرب إلى كل مهتم، وغني عن البيان أن هذه العلامات المضيئة لا تشتغل بالشعارات ولا تبحث عن الصفوف الأمامية، ولا عن بطولة وهمية سريعة لا تلبث أن تتبدد عندما تنتهي الحاجة العابرة إليها، أي عندما تنتهي الحاجة إلى توظيف مفاهيم “الحوار” و”التسامح” و”التعايش”. ولا مجازفة كذلك إذا تقرر بأن هذه العلامات هي أمل الإنسانية في المستقبل المتوسط والبعيد، وهي الأمل الذي سيبحث عنه من يعنيه الأمر، ومن يتطلع إلى جوهر الأشياء، في ظل بقاء الجوهر واستمرار حقيقته، وشتان بين الجوهر والقشور.

إن أهم مؤشر ينبغي الانتباه إليه هو مؤشر تميز المواقف وثباتها وعدم انحرافها عن المبدأ/المبادئ المعلنة. هذا التميز يؤكد بدوره بأنه صادر من رؤية عميقة الجذور، الأمر الذي ينبغي أن يكون منبعه عمقًا رؤيويًا وفكريًا ومتانة الوعي الثقافي ورسوخه، مع وضوح الخلفية الفكرية وجلاء مصدرها المركزي، زيادة على قوة منهاج التفاعل والتفعيل، وزيادة كذلك على ما أنجز من تراكمات عملية، فرضت نفسها على مجال البحث المعرفي من خلال ما أنتج من بحوث فكرية واجتماعية وتاريخية وأدبية وإعلامية، وغيرها، والتي تناولت المنجز بالدرس والتحليل واهتمت بتلك الظاهرة الفكرية الحركية الاجتماعية، ويكاد الجميع يجمعون على تميزها بنضج مواقفها، وتفردها بطبيعة الحلول التي اقترحتها ووفقت في تنزيلها وإنجازها.

فهل تبرز رؤية المفكر التركي فتح الله كولن، وتجربة الخدمة باعتبارها الحركة التي ظلت لعقود تسترشد بتوجيهاته، علامة بارزة تستطيع اقتراح حلول لأزمة الإنسان في الوقت الراهن وفي المستقبل، وخاصة في باب الحوار والتسامح والتعايش، عندما تصفو السماء ويتبدد الضباب الكثيف. بعبارة أخرى هل يمكن اعتبار تجربة هذا المفكر الحركي نموذجًا جديرًا بالدراسة والتحليل في مجال الحوار والتسامح والتعايش؟ وهل يمكن لهذه التجربة ولخلفيتها الفكرية أن تكون مرشدًا لفك التوتر الذي يعرفه الواقع الإنساني في الوقت الواهن؟

لا يخلو الواقع من علامات مضيئة تبدد العتمة السائدة، وتبدد شعور اليأس الذي قد يتسرب إلى كل مهتم، هذه العلامات هي أمل الإنسانية في المستقبل المتوسط والبعيد.

إذا كان الجواب بالإيجاب فإن شروط المقاربة ستفرض تحليل هذه الظاهرة من خلال مدخلين المدخل الأول فكري والمدخل الثاني مدخل عملي، وسيتركز البحث في المدخل الأول على تحليل مكونات الرؤية الفكرة التي تنبني عليها رؤية فتح الله، مع التركيز على مصادر هذه الرؤية ومقوماتها وأسسها، وتبين منهج تبليغها، وأشكال التعبير عنها فكريًّا، وأما المدخل الثاني فسيعمل على النظر في الجانب العملي من خلال مجموعة من التجارب العملية التي تسجل حضورًا بارزًا في مجال تصحيح الرؤية وربط جسور رأب الصدع وفك التوتر.

عالم ومفكر حاضر التأثير

تنطلق الدراسة من اقتناع مبدئي بأن فتح الله كولن هو أحد أهم مفكري الإسلام المعاصر وعلمائه، ومن أكثرهم إيمانًا بقيم الحوار والتسامح سبيلاً لتجاوز الاختلافات، وسبيلاً من سبل حل مشكلات العالم المتسمة بالتركيب والتعقيد، ويكاد يكون المفكر الإسلامي الوحيد، الذي لم يظل حبيس رؤيته النظرية ورهين دعوة حالمة مفصولة عن الواقع وعاجزة عن إيجاد طريقها إلى التنزيل، فميزة تراثه المكتوب والمنطوق والمنجز هي عدم الفصل بين الرؤية والفعل، أو بين “الفكر والحركية” بحسب لغته الاصطلاحية الرائجة في تراثه المترجم إلى العربية إذا وظفنا المفهوم الرائج في هذا التراث.

وفي مجال الحوار لم تبق دعوته حبيسة رؤية نظرية، لقد حول اقتناعاته إلى مبادرات عملية، وحوَّل رؤيته تلك إلى فعل من خلال الأعمال التي قام بها هو شخصيًّا، أو المشاريع والتصرفات والأفعال التي أوحى بها لمحبيه وللمقتنعين بفكره نظرًا لأهمية تلك المشاريع، والتي قدم النصح والتوجيه والإشراف الشخصي على بعضها، وبعبارة أخرى لقد تمكن فتح الله كولن من تحويل رؤيته الفكرية إلى سلوك ممنهج قائم على المبادرة، وأفكاره في مجال الحوار والتعايش والتسامح مجال يؤكد هذا التوجه. ولا مجانبة للصواب إذا تقرر بأن الفكر والحركية هما وجهان لعملة واحدة، إلى درجة قد يتهيأ للمتأمل في أن منهج الرجل يقوم على المبادرة أولاً ثم التنظير وفلسفة المبادرة ثانيًا.

لا للتطرف، ونعم للاعتدال والحوار

لقد كانت التصريحات والمقابلات الصحفية، التي أدلى بها فتح الله كولن لمختلف وسائل الإعلام العالمية كافية لترسل رسائل قوية للعالم بأن الصراع الذي يراد جره وحركته إليه لا أثر له في اقتناعاته الفكرية ولا في منهاجه الحركي.

المواقف التي وقف عليها عدد من المفكرين والباحثين والشخصيات الفكرية من العالم كله والمتصلة بحقيقة مواقفه ورؤاه بخصوص العنف والإرهاب والحوار والتسامح والتعايش، قد تأكدت بمواقف فتح الله كولن في ظل الأزمة والحملة العنيفة التي تعرض لها.

إنني أعتبر فتح الله كولن رجل حوار وداعيًا إلى التسامح والتعايش منذ عقود، من خلال رؤيته الفكرية التي ظل ينادي سبيلاً لحل كل المشكلات وتجاوز كل الخلافات والاختلافات. 

إنني اعتبر فتح الله كولن رجل حوار وداعيًا إلى التسامح والتعايش منذ عقود، من خلال رؤيته الفكرية التي ظل ينادي بها سبيلاً لحل كل المشكلات ولتجاوز كل الخلافات والاختلافات، من خلال الإلحاح على ضرورة التركيز على المساحات المشتركة وتثمينها ابتغاء الصالح العام. ولعل هذا الأمر من بين أهم الأسباب التي رجحت اختياره أهم شخصية فكرية مؤثرة في وقت سالف، وهو أمر يرجع إلى اجتهاده العملي القوي في مجال الحوار ونشر قيم التسامح والتعايش، والدفاع عن ذلك في مختلف المحافل ومن خلال عدد كبير من المشاريع التي تخدم ذلك.

أصالة جذور الحوار والتسامح

قيم الحوار والتسامح بالنسبة لفتح الله كولن، ليست شعارات أيديولوجية يحتفل بها، وليست مجرد دعاية، بل هي جزء من رؤيته الفكرية، ونابعة من التزامه الديني، ومن استيعابه للمنظومة الأخلاقية المتكاملة المتمثلة في القرآن الكريم وفي سيرة النبي محمد وسيرة أصحابه ، ولذلك صارت جزءًا من شخصيته، التي بلورتها مصادره الأصيلة(1)، فلا غرو أن تكون ممارسة الحوار والدعوة إلى التسامح والتعايش من صلب المنهاج الحركي الذي صار عليه طيلة عقود عديدة وإلى اليوم.

وبعبارة أخرى إنه من اللازم عدم فصل عموم رؤيته الفكرية عن الجانب الداعي إلى الحوار والتسامح والتعايش باعتبار ذلك مؤشرًا من المؤشرات الدالة على عمق القيم الأخلاقية التي ظل حياته كلها متمثلاً ومبلغًا لها ومنبهًا الناس إلى أهميتها بالحكمة والموعظة الحسنة، في دائرة الإسلام الوسطي المعتدل، البعيد عن التطرف والتزمت والعنف، وقد كان منهجه منهجًا موفقًا في نقل حقيقة الإسلام إلى آفاق بعيدة جدًا، وموفقًا في تحقيق سعادة الإنسان على امتداد الجغرافية، التي تواصل معها ووصلت إليها أفكاره.

مساهمة أبطال الروح في رؤى التسامح

لقد وجد كولن في روحانية جلال الدين الرومي مجالاً خصبًا للاستمداد، ومعينًا لبلورة رؤية راقية تتسم بالإبداع والتجديد في مجال الحوار والتسامح، وكما استمد من الرومي استمد كذلك من بديع الزمان النورسي، وخاصة فيما يمكن اعتباره محاورة فكرية للحضارة الغربية، فقد كان النورسي مهتمًا جدًا بالغرب وثقافته، وجعل قضية الحوار مع الغرب المسيحي ضمن أولوياته المنهجية والإصلاحية، وكان الحوار الإسلامي المسيحي أحد أهم القضايا التي اهتم بها النورسي في أدبياته في الرسائل(2).

لقد وجد كولن في روحانية جلال الدين الرومي مجالاً خصبًا للاستمداد، ومعينًا لتبلور رؤية راقية تتسم بالإبداع والتجديد في مجال الحوار والتعايش.

يحتل جلال الدين الرومي مكانة خاصة في رؤية فتح الله كولن،  لأنه كان مُعِيناً له على صياغة رؤيته المتصلة بالنظرة الإيجابية للإنسان باعتباره مخلوقًا من مخلوقات الله تبارك وتعالى، لقد تشكلت عند فتح الله كولن بالاستفادة من هذه المصادر رؤية خاصة للحوار والتسامح والتعايش، على أساس الاتصال المباشر بالقرآن الكريم واستيعابه العميق لجل التراث المفسر له، بالإضافة إلى ما قدمته السنة النبوية، والسيرة النبوية وسيرة الصحابة الكرام، وعلى أساس الفهم العميق لهذه المصادر كلها وسداده في توظيف قيمها التوظيف المناسب، وبعبارة أخرى  لقد تعززت مصادر فتح الله كولن الأصلية بما قدمه مولانا جلال الدين الرومي للإنسانية كلها من تراث غني لا ينكره إلا جاحد.

حظيت روحانية جلال الدين الرومي باهتمام الغرب، ويرجع ذلك إلى منهجه الذي يقوم على التسامح وقبول كل من اتجه إليه طلبًا للسكينة الروحية، دون التركيز على الدين أو العقيدة، واعتبر جلال الدين الرومي بهذه الطريقة فاتحًا للقلوب وطبيبًا عارفًا بأسقام النفوس والأرواح، فنجح في إرشاد كل من أقبل عليه إلى الترياق المناسب لقلبه وروحه.

استفاد فتح الله كولن من هذا المتصوف الذي أدرك حقيقة عصره، وحافظ على قدمه الأولى ثابتة على محورها، وتجول بالأخرى في عوالم متعددة باعتبارها عوالم إلهية لا حصر لها ترشد إليه وتدل عليه. اعتبر فتح الله كولن جلال الدين الرومي شخصية فذة حملت الدواء لفترة عصيبة مر بها العالم الإسلامي، وتمكن بفضل علمه وإدراكه العميق للوثيات عصره من أن يجد الوصفة المناسبة لتجاوز الأزمة الوجودية، التي كانت تمر منها الإنسانية، يقول فتح الله كولن متحدثًا بروح مفعمة بالاحترام والتقدير لهذا العلم العظيم كما يطلق عليه:

“.. لقد كان جلال الدين الرومي واحدًا من هذه الشخصيات الشامخة في هذا الأفق. فقد نشرت هذه الشخصيات العظيمة النور على الإنسانية فأنارتها، وتأملت عصرها ودرسته وحللته، وحصرت همتها على القضايا التي كان الناس في حاجة ملحة إليها.

إن الفكرية والحركية لدى كولن هما وجهان لعملة واحدة، إلى درجة قد يتهيأ للمتأمل في أن منهج الرجل يقوم على المبادرة أولاً ثم التنظير وفلسفة المبادرة ثانيًا.

أجل، لقد أعرض هؤلاء العظام عن جمع المعلومات السابقة وتدوينها في كتب، وشرعوا بدلاً من ذلك في تدبر العلاقة بين (الإنسان ـ الكون ـ الله)، فأحسنوا تقييمها، وقدموا الخطب والمواعظ التي تتماشى مع ظروف عصرهم، وحرروا مؤلفات قيمة بلغ صداها ما وراء العصور.. ومن ثم فلا بد من تناول مولانا جلال الدين الرومي من حيث هذه الخصائص أولاً؛ الحلول التي أتى بها كانت بمثابة ترياق للسموم والآثار السلبية التي راجت في عصره، وإكسير يداوي حتى أعتى الأمراض المستعصية”(3).

وقد بلغ من اهتمام كولن بجلال الدين الرومي أن اعتبر احتضان جلال الدين الرومي للجميع بعمق وسماحة، وعظيم تساهله واجتهاده في جعل نفسه إكسيرًا للتخلص من آثار الواقع المفعم بالفوضى والفتنة والفرقة قد “هيأ أرضًا جديدة قابلة للنماء من أجل أمتنا التي فاق ممثلوها الجميع بفضل قيمهم الإسلامية وأفقهم الواسع ذي السماحة والتساهل”(4).

أهم ما يسترعي اهتمام كولن في شخصية الرومي هو تلك الشحنة التي شحن بها عصره، فكانت سببًا من أسباب نجاح المجتمع في بناء دولته على التسامح والتساهل والتعايش وعلى الرحمة والشفقة، وهو يعتبر هذه القيم أحد أهم العناصر التي أسهمت في استمرارها طيلة ستة قرون وزيادة، وطبعت فترتها بحضور حضاري مميز أساسه التسامح والتعايش مع الآخر والمخالف في الدين والعقيدة، ويرد كولن تلك الإسهامات التي قدمها رجالات التصوف والدراويش مثل جلال الدين الرومي، ولذلك نجده مدافعًا صادقًا عن صدق التزام الرومي بالمصادر الأصلية ومنوهًا بروحانية جلال الدين الرومي بالنظر إلى ما حملته هذه الروحانية من قيم إنسانية سامية احتضنت الجميع، بل لقد شكل الرومي ملاذًا واسعًا لكل باحث عن الاطمئنان الروحي، وتمكن فعلاً من احتضان الجميع، ولعل هذه الخاصية هي التي تثير اهتمام كولن في شخصية الرومي، أو بالأحرى إن ما يثيره فعلاً هو عمقه الروحي أو كما يطلق عليه “روح الرومي”(5).

يمكن القول بأن كولن كان في مسيس الحاجة إلى هذه الروح دعمًا لرؤيته الخاصة في باب التسامح والحوار والتعايش، ولأنه رأى الرومي شخصية تقف في عالمها الروحاني على أساس الشريعة وعلى أساس القرآن والسنة، والالتزام بالمصدرين يقول كولن:”..دارت حول هذه الشخصية العظيمة بعض القناعات الخاطئة التي ركز أصحابها على مفهوم الشفقة والسماحة الذي كان يتعامل به مع الناس، وغضوا الطرف عن عبادته العميقة وتمسكه بالكتاب والسنة”.

إن الانفتاح الذي أبداه جلال الدين الرومي تجاه كل من لجأ إليه واحتضانه لهم إنما هو منطلق من عمق التزام الرومي بمصادر الإسلام الرئيسة القرآن والسنة وعمق عبادته.

إن نظرة كولن للرومي تقوم على أساس كونها شخصية ذات عمق ديني وبأن التزامها بالكتاب والسنة وحرصها على الالتزام به، تؤكد بأن الانفتاح الذي أبداه جلال الدين الرومي تجاه كل من لجأ إليه من أتباع الديانات الأخرى واحتضانه لهم إنما هو منطلق من عمق التزام الرومي بمصادر الإسلام الرئيسة القرآن والسنة وعمق عبادته، ولذلك فإن تسامحه والشفقة والرحمة التي كان يبديها تجاه كل من لجأ إليه إنما هو نابع من عمق عبادته وعمق اتصاله بالقرآن والسنة.

التقط كولن عن الرومي فكرة “الحب” التي ينبغي الإقبال بها على جميع مخلوقات الله تبارك وتعالى، والإنسان مكون مركزي في دائرة المخلوقات، ومن هنا يؤكد كولن بأن شرط الحصول على صفة إنسان يقتضي إظهار المودة والمحبة للمخلوقات جميعًا، بل إن إظهار المحبة نحو كل المخلوقات من شأنه أن ينتج رقي الإنسان وسموه، وكلما ارتقى الإنسان في هذه المقامات، كان ذلك سبيلاً لتجاوز المعيقات، التي تعيق الحياة الآمنة المطمئنة.

وبكلام آخر فإن ما يثير الانتباه في رؤية الرومي عند فتح الله كولن هو كون جلال الدين الرومي تسامى عن استثمار المبادئ والعقائد الإسلامية في مراوغات سياسية، لأن حياة المؤمن “مليئة بالأسرار، والروح المستقيمة المتفانية هي وحدها التي تحل شيئًا من لغز الأسرار الخفية لهذه الحياة لنستفيد منها في السمو والرقي بالآخرين، ومحور فكر الرومي أن الحياة المادية لا قيمة لها في الرحلة الثقافية والروحية التي على المرء أن يجتازها في هذا العالم، فالأبعاد الروحية والثقافية للحياة الإنسانية لها أثر عميق على أي محيط اجتماعي، تعزز وتحميه المبادئ السياسية والنظريات الاقتصادية التي تغذيها آليات الدولة”(6).

فتح الله كولن والتحولات الكبرى في تركيا

إذا كانت الظروف التاريخية التي عاش فيها الرومي فترة مليئة بالأحداث الجسام كما يوضح كولن فإن هذه الظروف تكاد توحي بأن الأحداث نفسها التي عرفها واقع جلال الدين الرومي، يعرفها واقع فتح الله كولن الراهن، ولذلك فإن الدارس ملزم بعدم إهمال التحول الذي عرفه المجتمع التركي بكل مكوناته بعد إعلان الجمهورية، وخاصة التحول الكبير، الذي عاشت على إيقاعه المدن الكبرى، التي ستعرف هجرة أعداد كبيرة من سكان الأرياف والبوادي ومن الأناضول طلبًا للعمل وللعيش الكريم وطلبًا للتربية والتعليم.

اعتبر نزوح عدد كبير من سكان الأناضول قطيعة قطعت النازحين عن جذورهم الدينية والثقافية، السائدة في الأرياف، وهي جذور ثقافية إسلامية في المقام الأول بالنظر إلى الطابع المحافظ، الذي ظلت تتميز به منطقة الأناضول.

ما يثير الانتباه في رؤية الرومي عند فتح الله كولن هو كون جلال الدين الرومي تسامى عن استثمار المبادئ والعقائد الإسلامية في مراوغات سياسية. 

ساعدت هذه الوضعية الحركات المختلفة وضمنها الحركات ذات التوجه الإسلامي على استغلال هذا النزوح من أجل نشر أفكارها وتوسيع دائرة الأتباع والمناصرين، وقد يكون كولن من هؤلاء العلماء الذي حولوا هذا الوضع إلى فرصة إيجابية، بل وحولوا الطاقة الكامنة في هذه الشريحة الاجتماعية وغيرها إلى مصدر لجلب مصلحة عامة تعود بالفضل على المجتمع كله، وقد تميز كولن وسط عدد من العلماء والوعاظ بمقدرة كبيرة على فهم حاجات المجتمع التركي الحيوية والضرورية والماسة في راهاناته قبل أربعين سنة خلت، وكان عليه في ظل ذلك العمل ربط المجتمع كله وربط شريحة واسعة منه بقيم الجمهورية وتحويل طاقة المجتمع كله إلى مكون إيجابي يعود بالنفع على الجمهورية وقيمها،.

بعبارة أخرى لقد اتجه اهتمام فتح الله كولن إلى العمل على ربط الشرائح الاجتماعية المختلفة وخاصة تلك التي نزحت من الأرياف ومن الأناضول نحو المدن بالهوية الثقافية للأمة التركية في إطار يخدم نظام الجمهورية التركية، وفي إطار لا يتصادم ومبادئ الكمالية، ويعد المجتمع في الوقت نفسه للمستقبل وللتحولات الكبرى التي كانت تلوح في الأفق سياسيًّا واقتصاديًّا ودوليًّا، بصورة تضمن الأمن والاستقرار والديمقراطية والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية(7).

بل إن الشحنة التي ركز كولن على بثها في المجتمع هي شحنة خلق الرابط/الروابط بين التحول الذي كان يدفع تركيا إلى اقتصاد السوق وإلى الرأسمالية  والمساهمة في كل ذلك بل والمشاركة فيه بفعالية كبيرة، لكن مع تكييفه بحكمة وذكاء لكي لا تناقض تقاليد الإنسان الأناضولي، التي ترجع في العمق إلى قيم الإسلام الأصيل، الذي أسهم فيه البعد الروحي إسهامًا كبيرًا جدًّا، زيادة على ضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية التي كان يدعو إليها.

التشجيع في الاتجاه الذي حرص كولن على شحن شرائح المجتمع به وخاصة سكان المدن كان في حاجة ضرورية إلى أن يكيف، وأن يوجه توجيهًا يعود بالمنفعة على جميع أفراد المجتمع وخاصة الفئات التي لا تستطيع الإسهام في تراكم الثروة ولا في خلقها وإيجادها، لكنها تتوفر على قوة سواعدها وعلى همتها ورغبتها في إثبات وجودها، وعلى ثروة معنوية تستطيع خدمة مجتمعها ووطنها من خلال طاقتها الكامنة، إذا ما أتيحت لها الفرصة للقيام بما يلزم وللقيام بواجبها الثقافي والوطني.

لقد أعاد كولن إحياء ثقافة التطوع والوقف وجدد في أساليبها وأشكالها عمليًّا ومعنويًّا، وأعطاها أبعادًا أخرى تتلاءم والمجتمع العصريّ.

ولذلك نجد كولن يتوجه نحو إحياء نظام الوقف الذي كان سائدًا خلال الدولة العثمانية، لكن مع تعديله بصورة تتناسب والتحولات التي عرفتها الجمهورية التركية، لقد أعاد كولن إحياء ثقافة التطوع والوقف وجدد في أساليبها وأشكالها عمليًّا ومعنويًّا، وأعطاها أبعادًا أخرى تتلاءم والمجتمع العصري الذي تحولت إليه تركيا. وليس مبالغة إذا تقرر بأن الوقف هو أهم مجالات التجديد التي جدد كولن في أشكالها وأبعادها الفكرية والثقافية(8).

الدعوة إلى العقل والحكمة لإرساء التوافق

يعتبر كولن نبذ الخلاف ضرورة ملحة من أجل المصلحة العامة، لأنه يعتقد بأن الفرقة والتنازع حاجز يمنع الاستقرار، الذي هو ضرورة حيوية لكل حركية إيجابية، ولكل مشروع يتوخى الرقي بالمجتمع وكل ذلك لا يتأتى إلا في ظل الشعور بالاستقرار.

ولتجاوز الاختلاف والفرقة والتنازع يقترح كولن شرطًا محوريًّا وجوهريًّا وهو ضرورة الرجوع إلى العقل وتحكيمه، لأن صمام القيادة إذا أسند -كما يعتقد- إلى المشاعر والأحاسيس وإلى العاطفة أدي إلى تحكم الأنانية وتوطين التعصب، والتعصب يجر المجتمع كله إلى الصراع والخصومة، ولذلك وجب تحكيم المنطق، والرجوع إلى العقل لتجاوز  الاختلافات، فالموازنة العقلية والمحاكمة المنطقية للأحوال والأوضاع مؤداها التقاء كل مكونات المجتمع حول الحوار والعقل وصولاً إلى أرضية مشتركة من شأنه قطع داء التعصب والأنانية والتمركز حول الذات والتحكم في الناس والتسلط عليهم.

يؤكد الأستاذ فتح الله كولن أن بروز الاختلاف والتنازع واستحكام الفرقة يرجع في جذوره إلى فقر البنية العلمية والفكرية، وإلى فقر الحياة الروحية والقلبية إلى درجة الحرمان، ولذلك وجب رأب الصدع بالتفاهم “لأن التفاهم والتوافق مسألة عقلية ومنطقية، والوحدة التي تستطيع الاستمرار والبقاء هي الوحدة المبنية على العقل وعلى المنطق وعلى القلب بينما الإخاء والوحدة الموجودة حاليًا إخاء ووحدة قائمة على الأحاسيس والمشاعر في الأغلب. ومثل هذه الوحدة تكون ضعيفة وناقصة وغير كافية وقصيرة العمر. وهي عبارة عادة عن تجمعات ضد مجموعة معينة، أو اجتماع ولدته مشاعر الانتقام، أو اتفاق من أجل هجوم أو لصد هجوم… مثل هذه التجمعات القائمة على أساس من أحاسيس ومشاعر فوارة ليست إلاّ تموجات وحركات وقتية سرعان ما تزول، وهي بعيدة من أن تكون كافية لا من الناحية الكمية ولا من الناحية النوعية لبلد ولأمة محاطة بالأعداء من جميع الجهات، أما من زاوية مبادئنا المقدسة فبعيدة جدًا عن التصويب أو التجويز كما لا تعني شيئًا بالنسبة لمستقبل أمتنا”(9).

يمثل هذا التحليل قراءة دقيقة لواقع ملموس ومحدد، وتحليلاً دقيقًا لأسباب غياب الاستقرار وسيادة التنازع، وهذا التحليل وإن كان تشريحًا لوضعية مرضية مزمنة، يلمح ضمنًا إلى المنهجية الكفيلة بإخراج المجتمع إلى بر الأمان والاستقرار.

القضية في هذا المقام ليست فكرية فحسب، بل هي قضية منهجية، فالاحتكام إلى العقل وضوابطه من شأنه أخذ كل من يعنيهم مطلب الحق والحقيقة إلى نبذ التنازع وتجاوزه إلى نقط التقاء، والقفز على المواقف المرتكزة على العاطفة والأحاسيس والمشاعر، ولا ينبغي فهم هذه الدعوة على أنها نبذ مطلق للعاطفة وإقصاء لها، فهي جزء من تكوين الإنسان، لكن من الملح جدًا في نظر كولن أن يتم إخضاعها للعقل، لأن المشاعر إذا استحكمت قضت على التسامح وأقصت التعايش وضيقت مساحته، خاصة في واقع يسوده التنوع والاختلاف، هذا على فرض وجود واقع أو مجتمع خال من الاختلاف والتنوع. فالوحدة التي تقوم على العقل بالنسبة لكولن هي الوحدة التي يكتب لها الاستمرار والدوام، ويتاح لها رأب الصدع، ويمكن للمتمعن توسيع إطار هذه الصورة ليشمل العالم كله والإنسانية كلها.

ليس مبالغة إذا تقرر بأن الوقف هو أهم مجالات التجديد التي جدد كولن في أشكالها وأبعادها الفكرية والثقافية. 

يستخلص كولن منطق الاختلاف من تأمله في حقيقة الوجود والكون، فاعتقاده راسخ بأن الاختلاف سنة كونية بل هو رحمة، لأن الخالق طبع مكونات هذا الوجود بالتنوع ليكون دعوة للإنسان إلى التفكر، والتأمل في مكوناته دون استثناء أي مكون، بل إن التفكر فيه واجب ديني يدعو إليه القرآن الكريم، وأكدته سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إلحاح الأستاذ فتح الله كولن على العقل سبيلاً لتجاوز الفرقة والتعصب، يرجع إلى عينه الفاحصة في أسباب العلة والمرض، فإذا كان الطبيب لا يصف العلاج إلا بتحديد طبيعة المرض وتشخيص العلة وأسبابها وجذورها، فكذلك يفعل فتح الله كولن يحدد السقم ويصفه بدقة كما يفعل الطبيب المجرّب الحاذق، لأن إدراك ذلك يسهل منهجيًا اقتراح العلاج، فالوفاق الاجتماعي كما يطلق عليه يبدأ بتنازل القلوب عن أنانيتها، وامتلائها “بحب الإنسانية وبالشهامة والمروءة. وما لم يتم الابتعاد عن الأنانية وعن عبادة النفس وإرجاع كل شيء وكل الوسائل والأهداف إلى سلطان النفس الذي هو شرك خفي والقول: إن لم يكن هذا العمل بيدي فلا أريده حتى وإن كان خيرًا ما دام يتم بيد الآخرين وليس بيدي..

إن لم يتم التخلص من مثل هذه العقلية التي ترى أن الحق فقط معها وتابع لها، والتي تكفر وتضلل وتجرم كل من لم يتبعها، وإن لم يتم تخليص القلوب من مثل هذا التعصب الأعمى فلا يمكن الوصول -حسبما أرى- إلى أي تفاهم أو اتفاق”(10).

هذا التنبيه يقبل أن يكون دعوة إلى “عقد اجتماعي” على أساس تنازل الأطراف المعنية بالتنازع عن الأنانية ورغبة الانتصار للذات، والاعتقاد بامتلاك ناصية الحقيقة والمعرفة، وإرغام الغير على الإذعان وإتباع ما يملى عليه، لمصلحة نكران الذات ونبذ المركزية الذاتية والتواضع واحترام الغير فكريًّا ومنهجيًّا.

يعتبر كولن نبذ الخلاف ضرورة ملحة من أجل المصلحة العامة، لأنه يعتقد بأن الفرقة والتنازع حاجز يمنع الاستقرار، الذي هو ضرورة حيوية لكل حركية إيجابية.

على أساس هذا الموقف العقلاني يقوم رفض فتح الله كولن إقحام الإسلام باعتباره دينًا وباعتباره منظومة أخلاقية توجه السلوك العام للمجتمع في دائرة الأيديولوجيا، لأن الإسلام لا يقبل أن يكون مجالاً للتوظيف السياسي، ولكنه مصدر يستمد منه المجتمع طاقة الفعل الأخلاقي الضروري لكل فعاليات الفعل المجتمعي والفعل السلوكي، الذي يقع فوق كل التصرفات بما في ذلك التصرف السياسي. وإبعاد قيم الإسلام عن التوظيف الأيديولوجي يحقق فائدتين:

الفائدة الأولى: ترجع إلى طبيعة المنظومة الأخلاقية الإسلامية نفسها، التي هي الحد الأدنى الضامن لالتزام الذات أفرادًا وجماعات بما هو واجب لضمان الاستقرار والشعور بالأمن. وبعبارة أخرى إن هذا الحد الأدنى هو الذي يقي المجتمع من أن ينزلق إلى الفساد والإفساد وإلى التطرف والظلم والاستبداد.

والفائدة الثانية: فتكمن في جوهر الأخلاق الإسلامية الملحة على احترام المخالف واحترام التنوع، والاعتراف بحقه الإنساني بداية، قبل حقه الثقافي والسياسي. على أساس أن حماية المجتمع وضمان استقراره هي مسؤولية جماعية، وليس مسؤولية عقدية ولا طائفية ولا سياسية ولا قومية ولا عرقية.

ومن أجل الاتحاد والتوافق يوجه كولن نقده لكلِّ مَنْ وضع الدين تحت الوصاية وقرر التحدث باسمه وصيًّا على المجتمع، الأمر الذي نتج عنه تعدد مصادر هذه الوصاية، فعلى الرغم من تعدد سبل خدمة المجتمع على أساس ديني، فإن هذه الوضعية دفعت بعض الجماعات إلى اعتبار زعمائها مجددين على أساس ما قدموه للمجتمع من خدمات وما قاموا به من إنجازات، وهو ما نتج عنه أزمة اختلاف حاد بَلْقَنَ المجتمع ووزعه إلى جزر وقارات متباعدة.

الدعوة إلى التوافق سبيل من سبل التجديد

التجديد بالنسبة لفتح الله كولن سنة كونية وسيظل قائمًا إلى يوم القيامة كما يقول، وكل من يقدم خدمة صالحة للمجتمع ويعمل لمصلحة مجتمعه وكل من يبث في واقعه روح الحيوية ويرفع همته يعتبر في نظره مجددًا، وكل شخص يشتهر بعلمه وعمله في عصر يموج بالفتن والعداء للدين كما يقول يعتبر مجددًا، وهذه الطينة من المجددين ممكنة الوجود في كل زمان وفي كل مكان، لكن ما لا يقبله كولن هو أن يتحول فكر المجدد وتجديده إلى مصدر للصراع والاختلاف والتنازع ومصدر لمعارضة الآخر المخالف بسوء تصرف الأتباع السذج والجهلة منهم خاصة.

وحالة التشرذم التي يرصدها كولن ناشئة في نظره عن غياب خط منهجي ناضج يقي من الوقوع في النزاع، وكأنه يؤكد بأن منهج التجديد الفعلي هو منهج التسامح والحوار وقبول الآخر، والاعتراف بأن الاختلاف رحمة وبأن التنوع سنة كونية، ومصدر خصب يغني التفاعل الفكري داخل المجتمع، ويجدد مؤهلاته وإمكاناته(11) وعلى هذا الأساس يأتي تذكير كولن المستمر بخطر منزع الانتصار للجماعة والشيخ، وخاصة عند استغلال أعداء الخارج لهذه العلل وتوظيفها في بث روح الفرقة والتنازع بين مكونات المجتمع الواحد.

إن قضية التسامح وتجاوز أسباب الفرقة الداخلية، أي تجاوز أسباب الفرقة بين مختلف مكونات المجتمع الواحد، مسألة مصيرية بالنسبة لفتح الله كولن يتوقف على مدى استيعابها وتفعيلها في حاضر الأمة ومستقبلها وتنزيلها من مستوى النظر إلى مستوى الفعل والسلوك، ويتوقف عليه وجود الذات أو عدمه، بل هو مفترق الطرق الذي تحافظ به الذات على وجودها أو تزول(12).

أهمية الفرد في بناء الروح المتجددة

قَبْل كولن حاول الأستاذ النورسي إيجاد أرضية مشتركة بين الرؤية الدينية المتشبعة إلى حد بعيد بتقاليد الدولة العثمانية، ومستجدات الحياة العصرية التي فرضتها ظروف التحولات التي صاحبت مرحلة ما قبل سقوط الدولة العثمانية، ومرحلة قيام الجمهورية، ويكفي الإشارة إلى التفاعل الإيجابي الذي أبداه النورسي تجاه نظام المشروطية الذي ميز المراحل الأخيرة من حياة الدولة العثمانية لندرك طبيعة القضايا التي كانت تشغل الفكر والمجتمع آنئذ، وعلى خطى النورسي صار الأستاذ كولن لكن مع تعميق النظر في ذلك بطابع خاص أو بطابع “كولوني”. ثم تحويل ذلك إلى فرصة إيجابية.

يستخلص كولن منطق الاختلاف من تأمله في حقيقة الوجود والكون، فاعتقاده راسخ بأن الاختلاف سنة كونية وأنه رحمة، لأن الخالق طبع مكونات هذا الوجود بالتنوع ليكون دعو ة للإنسان للتفكر. 

ولقد قام النظام الجمهوري في تركيا على مرتكزات محددة وشُدّد على عدم الانحراف عنها، وجعلت سلطة القانون مظلة تظلل كافة أطياف المجتمع، وفي ضوء ذلك نحت كولن رؤيته المعتدلة والوسطية بالتركيز على الفرد، المدعو إلى وعي وجوده ووعي دوره عنصرًا فعالاً داخل هذا الوجود الصغير الذي هو تركيا الجمهورية لأن هذا الوجود الصغير جزء من مكونات الوجود الكبير الذي يجد هذا الفرد في ثقافته ما يدعوه إلى الحفاظ عليه وجعله صرحًا من صروح الارتقاء الروحي والأخلاقي، وهما أمران ركز عليها كولن في رؤيته حين اعتبر الانتماء إلى الوطن وإلى الجمهورية مسلكًا تعبديًّا.

من هنا حرص كولن في توجيهه للمجتمع وإرشاده له على ضرورة وعي الفرد دوره هذا والالتزام به، لأنه في صميم ما يحرص الدين عليه. وقد كان حرص كولن شديدًا على ضرورة التزام الفرد -باعتباره المكون الأساس في الجماعة- بكل القيم الأخلاقية التي يقوم عليها الإسلام.

من الأهمية بمكان التذكير بأن خطاب كولن الداعي إلى ضرورة التزام الفرد بقيمه الأخلاقية النابعة من دينه، خطاب يراعي كافة الشرائح الاجتماعية وكافة الإثنيات الثقافية والدينية، لافتًا انتباه كافة الجماعات إلى أهمية القيم الأخلاقية التي ترقى بالأفراد باعتبار ذلك مشتركًا تنخفض فيه نسب الاختلاف.

العولمة والبعد الكوني في رؤية كولن

إن طابع “العولمة” الأهم هو مقدرتها على التسرب إلى المجتمعات دون الخضوع لأدنى رقابة، وعلى هذا الأساس فإن “العولمة” في حاجة إلى الـتأمل العميق، وأن ينعم فيها النظر، والحاجة ملحة إلى فتح حوار ونقاش جاد وصادق بخصوصها بين مختلف الأطراف الفاعلة داخل المجتمع الدولي، حوارًا لا يستثني الدول ولا مكونات المجتمع المدني أفرادًا وجماعات. وبكلام آخر على كل من يهتم بالظواهر الثقافية والاجتماعية، والأفكار التي اهتمت بقضية العولمة وناقشتها واقترحت منهجًا للتعامل معها خدمة لمصلحة الإنسانية ومستقبلها.. على هؤلاء جميعا تقع مسؤولية الوقوف عند هذه التجارب من أجل مقاربتها وإبراز معطياتها.

إن قضية التسامح وتجاوز أسباب الفرقة بين مختلف مكونات المجتمع الواحد مسألة مصيرية بالنسبة لكولن، وهي مفترق الطرق الذي تحافظ به الذات على وجودها أو تزول.

تبرز في هذا الإطار تجربة فتح الله كولن ورؤيته ظاهرة جديرة بالدرس والتحليل، وقد حظيت باهتمام عدد من الدارسين والباحثين الغربيين، الراصدين لظاهرة العولمة والتحولات الاجتماعية والثقافية الفكرية، المرافقة لها. ويجري الاهتمام بتجربة فتح الله كولن بالنظر إلى الرؤى المتقدمة جدًا، التي اقترحها و إشرافه على المنجز الذي تم تحقيقه بتوجيه منه أو بإشرافه المباشر وغير المباشر في مناطق مختلفة من العالم.

هناك سؤال قد يطرحه النقاد والمتابعون لظاهرة الخدمة هو هل اهتمام كولن بالغرب واقتناعه بضرورة فتح حوار بناء مع هذا الغرب في إطار من التسامح والحوار البناء مصدره اقتناع مبدئي في الرؤية أم هو أمر ناشئ عن انتقاله للإقامة في الغرب وخاصة في أمريكا؟

إن شمولية التصور الذي يسترشد به كولن يتأسس على اقتناع مبدئي هو وجود فهم خاطئ للإسلام بالنسبة للغرب، وهو أمر يرجع في نظر كولن إلى الذات التي توقفت عن الإسهام كما كانت في القرون الماضية في الحضارة الإنسانية، وتوقفت عن تمثيل قيمها الأخلاقية التي يمثلها الإسلام باعتباره دينًا سماويًّا، وقصورها بل وعجزها في الوقت الراهن عن تبليغ حقيقة هذه القيم إلى العالم والعمل على بث روح الثقة في نفس الإنسان الغربي. ولتصحيح هذا الوضع نلاحظ بأن فتح الله كولن كان سبّاقًا إلى اقتراح رؤية واضحة من أجل مصالحة بين منظومة القيم الإسلامية والغرب، الذي يمثل التطور العلمي والديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان والتطور الحضاري، ومقام فتح الله كولن في الغرب(13) يجد مبرره المنهجي في حرصه الشديد على تصحيح تلك النظرة السلبية التي تختزنها ذهنية الإنسان الغربي، والتي تدفعه إلى نوع من المواقف العدائية تجاه الإسلام والمسلمين، والناشئة عما تسرب من أفكار تعتبر الإسلام دينًا غير متسامح وبكونه دين عنف وتطرف.

ولقد شكلت أحداث 11 سبتمبر المؤسفة ضربة موجعة بالنسبة لكولن لأنها كادت تقضي على كل الجهد الذي بذله باعتباره مفكرًا إسلاميًّا وعالم دين يحمل على عاتقه هم تصحيح صورة الإسلام باعتباره دين تسامح وحوار ودينًا يقبل التنوع. جاءت الأحداث لتهدم كل ما تم بناؤه في هذا المجال، ولترسخ صورة أخرى يرفضها فتح الله كولن كل الرفض لأنها لا تمت إلى حقيقة الإسلام بصلة، ولتعيد رسم صورة أخرى قاتمة هي كون الإسلام دينًا يدعو إلى الإرهاب وإلى العنف ودينًا أبعد ما يكون عن التسامح ودينًا لا يقبل التنوع، وبكونه كذلك دينًا يرفض العقل ويرفض العلم ويرتكز إلى رؤى رجعية غير منفتحة على العصر ومجرياته وغير منفتحة على الجوانب الإيجابية التي تطرحها العولمة.

إن خطاب كولن الداعي إلى ضرورة التزام الفرد بقيمه الأخلاقية النابعة من دينه، خطاب يراعي كافة الشرائح الاجتماعية وكافة الإثنيات الثقافية والدينية، باعتبار ذلك مشتركًا تنخفض فيه نسب الاختلاف.

وفي الوقت الذي كان فيه عدد من الشخصيات الدينية الإسلامية في العالم الإسلامي وبعض العلماء منتشين بما تم إنجازه من أثر عنيف بفعل التفجيرات دون الاهتمام بآلاف الأبرياء الذين قضوا في هذا الحدث الأليم، وفي الوقت الذي كان فيه بعض هذه الشخصيات يبحثون عن مبررات للعمل الإرهابي من خلال التصريحات في وسائل الإعلام، خرج فتح الله كولن منددًا بالأحداث ومؤكدًا بأن الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلمًا وبأن الإسلام ليس دين إرهاب، ومؤكدًا بأن استباحة دماء الأبرياء ليست من الدين في شيء وبأن الإسلام نفسه يلح على احترام مخلوقات الله تعالى وتوقيرها.

يذكر ريتشارد بينسكوفيك Richard Penaskovic بأن العالم الغربي بعد الأحداث الأليمة تملكه الخوف، ولم يعد هناك إعلامي يتحدث عن إسلام معتدل، على الرغم من أن عددًا واسعًا من المسلمين عبر العالم كانوا يعتبرون أنفسهم معتدلين ويؤكدون بأن الإسلام دين الاعتدال، وهنا يبرز في نظر ريتشارد بينسكوفيك Richard Penaskovic شخصية فتح الله كولن والدور الذي يمكنه القيام به باعتباره قنطرة بين هذا الإسلام المعتدل أو بين الإسلام والغرب، بالنظر إلى رؤيته للسلم والسلام والتسامح والحوار، وبالنظر كذلك إلى رؤيته المتفائلة للعلاقة المستقبلية بين الإسلام والغرب، ويستشهد لتأكيد هذه الملاحظة باقتناع فتح الله كولن بما آل إليه العالم في إطار العولمة، التي جعلته مجرد قرية عالمية، وأكدت الأحداث نفسها بأن العالم الذي أصبح قرية بالنظر إلى تطور وسائل التواصل قد سهل سرعة انتقال معلومة الاعتداء على الولايات المتحدة الأمريكية وتمكن الغالبية العظمى من سكان العالم من التعرف على هول المأساة، التي حصلت خلال الساعتين اللتين تلتا الحدث(14) وتتلخص رؤية كولن في هذا الإطار وحسب ريتشارد بينسكوفيك (Richard Penaskovic) في أن العالم في إطار العولمة قد أوجد عدة مشكلات ينبغي التفكير في حلول لها على المستوى العالمي، لأنها مشاكل عامة تعني الإنسانية كلها.

إذا كانت العولمة قدَر العالم المعاصر، فإن هذا القدر قد أنتج سلبيات كثيرة أهمها سرعة انتقال الأفكار السلبية والأفكار الهدامة، وانتقال أفكار التطرف والعنف بكل أنواعه، ولذلك فإن العالم كله وخاصة حكماءه مدعوون إلى الجلوس إلى حوار صريح وبناء، لإيجاد حلول شاملة تحد من سلبيات العولمة هذه، وكأن لسان حال فتح الله كولن يدعو إلى “ميثاق عالمي” لترشيد العولمة لكيلا تصير وبالاً على الإنسانية كلها.

إن قضية الحوار بالنسبة لكولن لا تقف عند حدود حوار الذات ذاتها، ولا عند حدود تأكيد البعد المتسامح المميز للمنظومة الأخلاقية الإسلامية بل يتجاوز إلى الفضاء الأرحب المتمثل في كوكب الأرض من خلال الدعوة إلى حوار عالمي.

قضية الحوار بالنسبة لكولن لا تقف عند حدود حوار الذات ذاتها، ولا تقف عند حدود تأكيد البعد المتسامح الذي يميز المنظومة الأخلاقية الإسلامية، بل تتجاوزه بمسافات، فدعوة كولن تتجاوز في ضوء هذا الاقتناع الحدود الضيقة إلى الفضاء الأرحب المتمثل في كوكب الأرض من خلال الدعوة إلى حوار عالمي، والذي يدفعه إلى هذه الدعوة وحرصه عليها، هو روح المسؤولية التي تطبع مواقفه وتطبع تصرفاته، فتمثله العميق لقيم الإسلام تشعره بالمسؤولية تجاه هذا العالم بكل مكوناته، وتجاه كل فرد من أفراد المجتمع الإنساني، وكولن من هذا المنظور ليس مجرد عالم مسلم يذود عن حمى القيم الدينية التي ينتمي إليها، بل مفكر واسع الرؤية يعتبر هموم العالم من همومه وينبغي البحث لها عن حلول متزنة.

التاريخ في بناء الإنسان

يتميز منهج كولن بخصوصية بناء نماذج بشرية واقعية، وليس مجرد صورة نظرية توجد في حدود اللغة الواصفة، نماذج بشرية جديدة تتجاوز الأنانية الذاتية التي يحركها الوطن القومي أو العرق وحتى الدين، بل ويحركها غايات أخرى أسمى تتجاوز الأفق السياسي إلى أفق أوسع هو الأفق الإنساني. وغني عن البيان أن هذا النموذج الإنساني لا يمكن أن يكون منسجمًا مع هذه الأفاق إلا إذا تربى في ظل فضاء يحرص على الحوار والتسامح ويدعو إلى التعايش، ويلح على تمثل قيمه الإيمانية والأخلاقية التي تطلب على الخصوص في التاريخ.

التاريخ مكون محوري وفعال في إيجاد الإطار البشري المنشود، يقول كولن(15):”الماضي مدرسة مليئة بالأمثال والعبر المأخوذة من الحياة. والذين يستطيعون معرفة كيفية الاستفادة من ثمرات هذه المدرسة وتقييمها تقييمًا جيدًا يستطيعون حكم المستقبل بكل نجاح. ذلك لأن اليوم يشبه الأمس، والأمس يشبه أمس الأمس.. الألوان هي المتغيرة فقط، فحكم القوة مؤقت وزائل، أما حكم الحق والعدل فباق. وإذا لم يتحقق هذا الآن فالحق آت عن قريب دون ريب لذا فأفضل سياسة هي أن تكون بجانب الحق والعدل”(16)، فعبارات هذا الكلام تؤكد استحكام العقل والتعقل في مقابل التعصب والعاطفة، ففي الوقت الذي تنفتح فيه المحاكمة العقلية على المستقبل مستحضرة مبدأ عدم دوام الأوضاع على ما تبدو عليه في الراهن، ومستحضرة ما قد يأتي به المستقبل من تحولات وتغيرات ومن مراجعات، في ضوء ذلك يلح كولن على أنه من الضروري أن تكون عند النموذج الإنساني الذي يستطيع إعادة توجيه دفة الأحداث والتاريخ في الاتجاه الإيجابي القدرة على وزن الأمور بمقياس التسامح والتجاوز وخفض الجناح للناس حتى وإن كانوا من أشد المتشددين من أجل ما يمكن تحصيله من منافع معنوية للمجتمع الخاص والمجتمع العام في المستقبل، وكما ينطبق هذا على الدائرة الضيقة التي تضم أشقاء الوطن والعرق والدين ينطبق كذلك على الدائرة الأوسع التي تضم كل فرد من أفراد الإنسانية كلها.

إن العالم في إطار العولمة قد أوجد عدة مشكلات ينبغي التفكير في حلول لها على المستوى العالمي، لأنها مشاكل عامة تعني الإنسانية كلها.

يلفت كولن في مقال بعنوان “حركة نماذجها من ذاتها” الانتباه إلى طبيعة النموذج الإنساني الذي يؤثث حركة العمل التطوعي المعروفة بـ”الخدمة”، والتي استطاعت أثناء شق طريقها أن توجد الإطار البشري المنفتح على العالم والمتصالح مع واقعه ومحيطه الضيق والواسع على أساس منظومة القيم التي تمثلها، والتي حرص فتح الله كولن كل الحرص على غرسها في هذا الجيل الذي تكون في رحم ولادة هي رحم القيم الأخلاقية السامية المتشبعة بالروحانيات، والمشدودة إلى التاريخ، والواعية بحاجات الواقع، والمتفتحة على المستقبل والمدركة للواقع ولمجريات الأحداث، لتستحق بذلك صفة “الإنسان الجديد”.

يلح كولن على ضرورة أن يتم الاهتمام بهذه الحركة وأن يهتم بها، بمعنى أن تكون محط اهتمام من يريد الخير لهذا العالم(17) يقول: “إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي، فقد قررت فئة قليلة ملك الحب قلبها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعًا في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتم بآلام الغربة وبفراق الأحبة، ملؤها العزم والثقة… طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة… قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريو الرسل “خضنا دروب الحب فنحن المجانين…” (الشاعر نيكاري)… ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقًا دنيوية تشتعل في قلب كل شاب، لها جاذبية لا تقاوَم فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب، ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهاباً وتوهجاً وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول”(18).

إن شمولية التصور الذي يسترشد به كولن يتأسس على اقتناع مبدئي؛ هو وجود فهم خاطئ للإسلام بالنسبة للغرب، وهو أمر يرجع في نظر كولن إلى الذات التي توقفت عن الإسهام في الحضارة الإنسانية.

عندما يتحدث كولن عن الإنسان الجديد باعتباره البشارة التي يقدمها للعالم أو لنقل يقترحها على العالم، وباعتباره إنسانًا جديدًا مسكونًا بالهم والهمة ومؤمنًا إيمانًا يسمو بروحه، ومتسلحًا بالعقل منهجًا للموازنة والمحاكمة العقلية، وبالعلم طريقًا للبناء، عندما يتحدث عنه يبدو وكأنه يلمح إلى نماذج أخرى وظفت سلبًا لأغراض شريرة وجرى استقطابها عن طريق إيديولوجيا العنف، وغرر بها بوسائط كثيرة منها التاريخ وبطولاته.

لقد وظفت حركات الإرهاب التي تنشط باسم الإسلام، والإسلام منها براء، تاريخ الصحابة وجانبًا من سيرة الرسول على أنها بطولات تمجد العنف والقتل وإرهاب الناس، لكن منهج فتح الله كولن يوظفها ببعد يقوم على التسامح وعلى المحبة وابتغاء الخير للإنسانية في كل مكان “هدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضـوان الله تعالى حظوظهم كحظوظ الربانيين والصحابة”(19). وفي الوقت الذي يقوم فيه منهج كولن على إرساء الثقة في القيم التي يحملها هذا الإنسان الجديد ويبشر بها، نجد خطاب الإرهاب يعمل على زرع الكراهية ويقوض كل المقومات الأخلاقية التي جاء بها الإسلام. فعمق التجديد الذي يحمله هذا النموذج البشري هو روحه المفعمة بالحب وإرادة الخير للإنسانية في كل مكان.

فضلاً عن ذلك يقول كولن يجب “ألا ننسى أننا لا يمكن أن نبلغ مشاعرنا وأفكارنا إلى أرواح الناس عن طريق الحدة والوجه العبوس، ولكن بالبسمة الحلوة التي تعلو وجوهنا من أجل ذلك يجب أن يقابل الناس صدرا رحبا حتى لا يخشى أحد ألا يجد مكانًا فيه عند إرادة دخوله، وهذا يدعونا إلى التزام المنهج والسبيل الذي كان يتبعه أبطال الإرشاد الذين جعلوا القرآن والسنة مرشدهم ودليلهم من أمثال مولانا جلال الدين الرومي والإمام الرباني، ومولانا خالد البغدادي، وبديع الزمان سعيد النورسي، فإن وجدنا اختلافات فرعية فيما بينهم نظرًا لظروف عصرهم فلا يغيب عنا أنهم كانوا يقومون، ويفتحون بالرحمة، ويبثون الشفقة فيمن حولهم، يفتحون صدورهم للجميع، وكانوا بلا يد لمن ضربهم وبلا لسان لمن سبهم، وبلا قلب لمن كسر خاطرهم.

ومن ثم فإن الوظيفة التي تقع على عاتقنا هنا هي أن نقتدي بهذه الشخصيات التاريخية، وأن نتضامن فيما بيننا، وأن نستخدم القوة الخفية للإنسانية في صالح الإنسانية”(20).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1)  ينظر في تفصيل هذه القضية: محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن،  دار النيل للطباعة والنشر،2013 .

(2)  The Gülen movement in turkey, the politics of Islam and modernity, CAROLINE TEE: I.B. TAURIS, LONDON. NEW YORK 2016: pp 119-122.

(3) جلال الدين الرومي: رجل العشق والحماس المتزن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، ط1/2017 القاهرة، ص 315 ـ 322: 315 ـ 316.

(4)  نفسه: ص 316.

(5) نفسه: ص 317.

(6) انظر فتح الله كولن، الرؤية والتأثير تجربة فاعلة في المجتمع المدني، مايمول أحسن خان، تر: أحمد سعيد عبد الوارث ومحمود علي جمعة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2015: ص30.

(7)  للتوسع ينظر: Louis-Marie Bureau, la pensée de Fethullah Gülen, Aux sources de l› «islamisme modéré: PP 111-115.

(8) نقاط الالتقاء والاتحاد، الموازين، أو أضواء على الطريق، تر: أورخان محمد علي، دار النيل، ط/8 القاهرة، 1435هـ ـ 2013م: ص62.

(9) نقاط الالتقاء والاتحاد، الموازين: ص 62 ـ 63.

(10) نقاط الالتقاء والاتحاد، الموازين: ص 63 ـ 64.

(11) نحو تنوير إسلامي: حركة فتح الله غولن، حاقان يفوز، تر: شكري مجاهد، منتدى العلاقات العربية والدولية، ط1/2015: ص 64-65.

(12) نفسه: ص 62.

(13)  بغض النظر عن الأسباب المباشرة التي دفعته إلى ترك وطنه تركيا

(14) Fethullah Gülen, un pont entre Islam et Occident, in Société civil, démocratie et islam: perspectives du mouvement Gülen, Sous la direction d’Erkan Toguslu, l’Harmattan, Paris 2012 pp155-167: P 155 -156.

(15) حرصنا في هذه الدراسة على التركيز على الاستشهاد بنصوص الأستاذ فتح الله كولن، وسيلاحظ القارئ كثرتها في بعض الأوقات وفي هذا حرص على تجسيد ما وصلنا إليه من استنتاجات حين البحث في رؤية الرجل.

(16) الموازين، دار النيل للطباعة والنشر، ط/8 القاهرة، جمهورية مصر العربية 1435هـ ـ 2014م: ص132 ـ 133.

(17)  الأحداث الأخيرة التي مرت بها الخدمة أكدت بأن هذه الشريحة الاجتماعية التي استنشقت هواء تركيا، لم يصدر عنها أي سلوك يتسم بالعنف والتطرف تجاه النظام الحاكم في تركيا رغم شتى أنواع التنكيل التي تعرضت له، مستحضرة ما سيحمله المستقبل من تحولات

(18) حركة نماذجها من ذاتها، مجلة حراء، عدد 13، ديسمبر ـ أكتوبر 2008.

(19)  نفسه.

(20) جهود فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، ط1/2017 القاهرة: 321 ـ 322