من أهمّ سمات التجديد في حركة الخدمة التي أرسى دعائمها فتح الله كولن، التوازن بين الكثير من الدوائر الثنائية، كالتوازن بين الدنيا والآخرة، والتوازن بين المادة والروح، وكذلك بين المثالية والواقعية، وبين السببية والتوكل.

وفي هذه السمة التجديدية سنفرد الحديث عن التوازن بين الأزمنة الثلاثة في أفكار وأفعال هذه الحركة، فهي حركة سلَفية من حيث المناهج (الزمن الماضي)، وحركة عصرية (الحاضر) من حيث البرامج؛ سلَفية في الثوابت وعصرية في المتغيرات، تستظلّ تحت “راية” السلَف، وتستنير بـ”آراء” الخلَف، تعتزّ بالانتماء إلى الآباء وتنفتح على الغرباء لتستفيد وتفيد، لتأخذ وتعطي؛ تحسن قراءة الماضي، وتبني الحاضر، وتخطّط للمستقبل… وبالجملة فهي حركة سلَفية حداثية في آن واحد، استطاعت أن تمسك بأزِمّة الأزمنة الثلاثة في آن واحد، وبتوازن عجيب.

بفضل هذا التوازن بين الأزمنة الثلاثة، فإن تيّار الخدمة أجاد قراءة الماضي دون عودة إليه، وأجاد عمارة الحاضر دون غرقٍ فيه، وأجاد استشراف المستقبل دون أن يصاب بالرُّهاب.

يقول فتح الله كولن: “نعم، نحن نجلب عناصر حياة الغد من ماضينا، فإن استطعنا أن نَعْجِنها في معاجن ثقافتنا الذاتية بنور الدين وضوء العلم، نكون قد جهّزنا خميرة أبَديّتنا”. هذا المزج بين الأزمنة بمقادير دقيقة هو الذي نجّى هذه الحركة من الاغتراب التاريخي (التقليد) أو الاغتراب الجغرافي (التغريب)، وأعطاها خميرة الأبدية؛ لانغراسها في الحاضر واعتزازها بالماضي وسعْيها نحو المستقبل.

ويضيف كولن: “إن تماسك أجيال الغد وقوامها وسعادتها، حاصل من حواصل الأرواح والأنفس المضحّية هذا اليوم. وإن انتظار مستقبل متكامل ومنظّم من ركام البشَر الضجر الشريد السادر في الراحة والرخاوة، ليس إلا مَحْضَ وَهْمٍ وسلوان كاذب. المستقبل يتطوّر إلى براعم في رحم اليوم، ويربو برضاع اليوم، ليتماسك قوامُه. وكما يحمل وجودنا اليوم سمات أمسنا، بخيرها وشرّها، كذلك يكون الغد نسخة من اليوم بصورتها المطوّرة والموسعة، والمتحوّلة من الفردية إلى الاجتماعية”.

إن التخطيط يجعل الكائن فاعلاً لا منفعلاً، يتحرك بإرادته لا كردّ فعل على تحركات الآخرين.

ولهذا يبدو لنا أن هذه الحركة تسير وفق خطة حكيمة مدروسة، وقد وصف كولن “الأجيال المثالية” بأن أفرادها: “ينشغلون بحساب الغد، ويجدون في حناجرهم غصص نقل الأيام الحاضرة إلى الأيام القابلة.. يبتلعون حسابات هذا النقل غصة بعد غصة، لأن حل عقدة المعضلة مرتبط بتجاوز الزمن الحاضر، بل بالتحرر من قيود الزمان.. إلى درجة النظر إلى الماضي والحاضر والقابل، والقدرة على تحليله وتقويمه، بالصفاء والنقاء نفسه. هذا الفكر الرحيب الذي يعني احتضان الغد منذ الآن، وفهم محتوى المستقبل روحًا ومعنى، سَمِّهِ إن شئت “مثالية”.

المزج بين الأزمنة بمقادير دقيقة هو الذي نجّى هذه الحركة من الاغتراب التاريخي (التقليد) أو الاغتراب الجغرافي (التغريب)، وأعطاها خميرة الأبدية؛ لانغراسها في الحاضر واعتزازها بالماضي وسعْيها نحو المستقبل.

والمؤمن الحق، كما يرى كولن، لا يجوز أن يقع في التشاؤم، بسبب قلّة الإمكانيات لديه، وعليه أن يكون حكيمًا في استعمالها استعمالاً دقيقًا: “أي يقوم بـ”ضرب عصفورين بحجر واحد” كما يقال في المثل الدارج! أجل على المسلم أن يخطط على الدوام ويبرمج كيف يضرب بحجر واحد مئات العصافير، مثلما نرى في العديد من الإجراءات الربّانية”. فكما نحصل من بذرة واحدة نبذرها في الحقل على سبع، أو سبعين أو سبعمائة من البذور، علينا أن نخطط في كل خدمة نريد تحقيقها في سبيل الإيمان وفي سبيل الملّة للحصول على سبع، أو سبعين أو سبعمائة ضعف”. وإضافة إلى ذلك فإن التخطيط يجعل الكائن فاعلاً لا منفعلاً، يتحرك بإرادته لا كردّ فعل على تحركات الآخرين. وقد وصف كولن تدقيق أصحاب الخدمة -أو ما ينبغي أن يكون- بأنه الذي “يشطر الشعرة أربعين شطرا”.

وبفضل هذا التوازن بين الأزمنة الثلاثة، فإن تيّار الخدمة أجاد قراءة الماضي دون عودة إليه، وأجاد عمارة الحاضر دون غرقٍ فيه، وأجاد استشراف المستقبل دون أن يصاب بالرُّهاب، وهكذا بين استقراء الماضي واستشراف المستقبل تمتدّ جسور الحاضر التي أجاد كولن بناءها بعقله المستنير وقلبه الرحيم ودمعه الغزير وكلماته القوية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فؤاد البنا، عبقرية فتح الله كولن بين قوارب “الحكمة” وشواطئ “الخدمة”، دار النيل للطباعة للطباعة والنشر، القاهرة.

ملحوظة: عنوان المقال من تصرف محرر الموقع