من تمام الإخلاص أن يكون قلبك مشرعًا لعشق فريد لا يساهمك فيه مساهم، إن عزوبة الصالحين تندرج ضمن منهج التخلية الذي ينتهجونه قاعدة للتعبئة والانطلاق. ومن بركات هذه التخلية أنها تتيح للسالك أن يوسّع من أفق تأمله الروحي، فيشمل الحياة وأحوال الناس؛ إذ الخلوة توطّنهم على تعزيز روح القدوة، والسير على منهاج الأنبياء وفي طليعتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فيكون من جملة ما يستحصلونه من ذلك السبيل، الرحمة والشفقة والحدب على عباد الله وعلى مخلوقاته طرًّا، الأمر الذي يجعل السعي الصريح، والاعتراك الفعلي لفائدة الإنسانية ولرفعتها الروحية والمادية، من مرتكزات العمل الاحتسابي الذي يتقربون به إلى الله، وبذلك تغدو الخلوة لا تعني العزلة والتحصن في معتكف يبعدنا عن الناس والحوادث، بل تضحى الخلوة حالاً رهانية لا يفتأ فيها القلب يُشتَحَنُ بأذكار وأوراد وتسبيحات تتنزل في عين الواقع في صورة منجزات تثقيفية، ومكتسبات تعليمية وتجهيزية؛ تنهض بمستوى روحية المجتمع، وتغيّر من أوضاعهم العقدية والنفسية والاجتماعية، وتجعل منهم عبادًا يتمازج في سلوكهم أداء الواجب مع محبة الله، فتنسجم من ثمة رؤيتهم إلى الدنيا والآخرة، فتشملهم سكينة السلام، ويطيب لهم أن يستغرقهم الحمد والشكر في سائر ما يتعاطون من عمل وكدح.
إن عزوبة الصالحين تندرج ضمن منهج التخلية الذي ينتهجونه قاعدة للتعبئة والانطلاق. ومن بركات هذه التخلية أنها تتيح للسالك أن يوسّع من أفق تأمله الروحي.
التخلية والعزوبة.. تبتل:
إن العزوبة هي اعتكاف وتبتل مستمر في الزمان والمكان؛ إذ حيثما كان العبد المعتكف، سواء لبث في مصلاه في ركن البيت، أم سار في الأسواق يسعى وراء هدف يصلح به أحوال الناس، فإنه في الحالين يعيش على صلة بربه. فهو في حضرته باستمرار، قد تدرب على أن يعيش بشطرٍ من وعيه الحياتي مع الناس، وأن يخصَّ ربه بالشطر الأكبر من شعوره ومن وارداته.
وحتى حين يعروه أحيانًا السهو، فإنه يستنكر من نفسه تلك الانفكاكة، ويعمل على استدراك تلك الخسارة. فعدَّاد الرقابة الذاتية يعمل دائمًا، وبذلك ينعم الصالحون بمِنَّة البركة في كل ما يطلبون، ولأنهم يطمحون إلى ما طمح إليه معلموهم ومن يتخذونهم منائر الاسترشاد والقدوة، نقصد الأنبياء والرسل عليهم السلام، فإنهم لذلك يستشعرون أن الوقت يمر بهم مر السحاب، فلذا تجدهم متوترين، يتمنون لو أنهم ملكوا الأمر لجنَّحوا في الآفاق، وسابقوا المواقيت، واستنجزوا كل ما يحلمون باستنجازه.
—————————————-
المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:221-222.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.