تتمة للحلقة السابقة حول مقاربة المقال  القيم للأكاديمية الأمريكية”جيل كارول” (بين كهف أفلاطون وحكمة كولن) نستأنف الكلام من حديثها عن الإنسان المثالي حين قالت :(وبعد أفلاطون وكونفوشيوس، يأتي كولن ليحدد خصائص البشر المثاليين التي تميزهم عن القطاع العريض من الناس العاديين. … وبدون هؤلاء الناس، سيستمر المجتمع في التخبّط وسط بحر من الشهوات والأيديولوجيات الانتهازية، ولن يَسْمُوَ الناس في مجتمع كهذا إلى مستوى يجعلهم يستحقون صفة “الإنسانية”.

وأقول إن الأستاذ كولن كثيرا ما يسائل التاريخ عن الرجال المثاليين من الذين ساهموا في عمليات انبعاث حضاري مهمة لفائدة الإنسانية من خلال تحملهم أعباء وتبعات التكهف والتمرد على المجتمع من أجل دفعه إلى التحضر؛ لكن بمواصفات أقل من أصحاب الكهف الذين يعنيهم. يقول الأستاذ: (…وقد وَجَدَ سارتر وكامو وماركوس مكاناً لهم في الأدب العالمي بأدب التمرد المعبّر عن الفلسفة الوجودية التي اعتنقوها. تمردوا على جميع عادات وأعراف المجتمع وجميع القيم الدينية والأسرية واصفين إياها بالعبث. ولكن تمرد أصحاب الكهف لم يكن تمردهم عملية هدم وقطع للجذور كما فعل الوجوديون. بل عملية إنشاء وتعمير …أي كانوا رواد حملة تجديدية بديلة.)

ثم أنوه في هذا الصدد أنه لا يمكن اعتبار كل تمرد أو تكهف عمل محمود، يقول الأديب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد:(إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة: فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص، وكل ما ينعى عليه من وخامة…فليس كل التمرد إذن خيراً من كل الموافقة؛ وليس كل التمرد ابتكاراً وخلقاً واستقلالاً بالرأي والفطرة.)

وبالتأمل في عملية “التكهف” عند كولن لابد من التنبيه إلى أنها عملية معقدة ومصاحبة ل”ترسانة”من البرامج في التربية والتعليم والتكوين والمهارات العالية، تنقل الإنسان من عالم الجهل، العدو اللذوذ لكل فضيلة، إلى عالم الحكمة منشأ ومأوى كل فضيلة. فلا غرو إذن أن تعتبر السيدة”كارول” كل كلام منفر من كل أنواع الجهل وصوره، أو الذي يشرع أبوابه لكل أنواع الفضائل ومقدماتها، يمكن نسبته إلى كولن أو أفلاطون أو كونفوشيوس…ذلك لأن الأستاذ كولن دائم الهيام في  مشكاة حبلى بالقيم والفضائل الإنسانية، ومنها يمتاح دوما، إنها مشكاة النبوة المحمدية.

تقول السيدة “كارول” ( يقول كولن: بعض الناس يعيشون دون تفكير، بينما البعض الآخر يفكرون ولكنهم لا يستطيعون وضع أفكارهم حيز التنفيذ. ومن ‏يعيشون دون تفكير يكونون مادة لفلسفات الآخرين، وهم يتنقلون دائمًا من نمط إلى نمط ولا يفتأوون يبدلون قوالبهم وصورهم، ‏ويقضون حياتهم في سباق محموم من الانحرافات في الأفكار والمشاعر، والاضطرابات في الشخصية، وهم ممسوخون بصورهم أو أرواحهم، وليس بمقدورهم أن يرجعوا إلى ذواتهم. هؤلاء يُشْبهون دائمًا بِركة ماء راكد آسن منتن، فبدلا من يبعثوا الحياة فيما حولهم يصبحون أشبه بمستعمرة للفيروسات أو مأوى للجراثيم”. ثم تقول: هذه هي كلمات كولن، ولكنها يمكن بسهولة أن تكون كلمات أفلاطون أو كونفوشيوس أيضًا؛ فكولن هنا يفعل ما سبقه إليه زميلاه في المحاورة من تحديد نوعين من الناس في هذا العالم، وهم المثاليون -أو من يدركون ما هو مثالي ويسْعون إليه- والدنيويون. وما يشترك فيه الدنيويون هو أنهم -عند مستوى معين- ينسون أنهم أناس لهم قيمة.

والخلاصة أن الأستاذ كولن يعد مهندس مختبرات الشحن الكهفية في عصر العولمة. فإن كانت بعض الكهوف تأوي الجهال أو تخرج الضعفاء، فإن الكهف بالنسبة للأستاذ كولن مختبر للشحن فريد. فيه تمرس كبار مهندسي الحضارة الإنسانية من أنبياء وعباقرة ومصلحين وعبر كل الجيال. يقول الأستاذ كولن:( إن الكهف هو مكان لإتمام عملية الشحن، وموضع لاكتشاف الإنسان لنفسه).

وختاما نحن ممتنين للسيدة(جيل كارول) على مساهماتها النوعية وننتظر منها المزيد.