مؤلف هذا الكتاب كعادته، يخلج موضوعه الذي وضعه نصب عينيه خلجا. لذا وللتعبير عن صنيعه في هذا الكتاب النوعي، فقد عجزت أن أجد أحسن من وصفه أنه مرافعة علمية لـ:

أطروحة أكاديمية حول موضوع: (البيان الخالد )  لسان الغيب في عالم الشهادة.

إنجاز: مجدد العصر محمد فتح الله كولن.

أقول هذا الكلام بصيغة الخبر لا الإنشاء، لأن الرجل من الأوسمة الحقيقية والفخرية ما لا مكان فيه لشهادتنا، لكنها الشهادة. وحسبي أن أذكر القارئ الكريم بكتاب المؤلف في السيرة النبوية العطرة: “النور الخالد”، وهو كتاب فريد في بابه عميق في رسالته؛ وقد درسته لطلابي لأكثر من موسمين. و إنه لكتاب احتفى به الخواص قبل العوام، والكبار قبل الصغار، والمتخصصون من الأكاديميين قبل طلبة العلم، حتى زينت به الجلسات وزاحم المجلدات في رفوف المكتبات…وهذا موضوع آخر قد نرجع للتفصيل فيه إن بقي في العمر بقية إن شاء الله.

نعم إن كتاب موضوع القراءة “البيان الخالد”، كتاب دسم بكل ما يحمله اللفظ من المعاني. فإن كان بحر إشكاليته حسب فهمي المتواضع: “الدعوة إلى إعادة النظر في منهج فهم القرآن”، فإن أمواج هذا البحر لا تكاد تحصى. أي إن الأسئلة الفرعية التي تطرحها إشكالية الكتاب، متشعبة دروبها، كثيرة أبوابها دقيقة مفاتيحها. ولكي أبين قيمة هذا المنهج أستسمحكم في إدراج بعض الشواهد والأقوال في تأكيد أهمية ذلك.

إن منهج فهم القرآن سؤال قديم جديد، تعامل معه سلف الأمة وخلفها، ولا زال الناس إلى اليوم يدلون بأدلائهم في الموضوع.

يقول الشيخ الشاهد البوشيخي رائد علم المصطلح، وهو يؤكد على أهمية تجديد منهج فهم القرآن الكريم “التجديد للأمة اليوم قلبا وقالبا فريضة شرعية، وضرورة حضارية، ذلك بأن البشرية على حافة الانهيار، يدعها عباد العجل دعا إلى النار، وتسوقها العولمة سوقا، بكيدها العتيد ومكرها الشديد، وأذرعها العالمية الجهنمية، بنوكا ومنظمات غلى النار: تستصرخ ولا من صريخ، وتتظلم إلى من فيه الخصام وهو الخصم والحكم، قد أحكم الدجال الأعور قبضته عليها، فخنق الأنفاس، ومص دماء الناس، ولا خلاص للناس، كل الناس، إلا بظهور دين رب الناس، ملك الناس، إله الناس، على يد خير أمة أخرجت للناس… وصار فرضا إحلال القرآن فيها ونفخ روحه من جديد، لتعود كما بدأت خير أمة أخرجت للناس…ولاسبيل إلى شيء من ذلك إلا بغير تجديد فهم الأمة للقرآن)[1].

وفي عبارة موجزة يمكن القول: إذا كان تجديد فهم الألفاظ والمصطلحات ونخلها مما شابها من تحريفات وتشوهات، باب النهوض الحضاري، فإن تجديد فهم القرآن مفتاحه.

ومن خلال سياحة عجلى في بعض تفاسير القرآن الكريم تأكد لي حقيقة دعوة بعض العلماء إلى ضرورة تجديد فهم القرآن الكريم، انسجاما مع ما ذكره الشيخ البوشيخي. وذلك وفق قواعد و منهج  السلف الصالح التي لم تشغل الناس عن مقاصده السامية وعلى رأسها هداية الناس؛ وما دون ذلك فلا يعدو أن يكون ترويجًا لبضاعة أصحابها. لذا حق لمن اشتغل بمقصد الهداية في القرآن الكريم، في كل عصر وحين أن يلحق بكوكبة المجددين. وبهذا الصنيع عد رجال مدرسة المنار في العصر الحديث على رأس المجددين، وما كان لهم ليحظوا بهذه المكانة لولى اهتمامهم بتجديد فهم القرآن وتفسيره.

وقد جاء في مقدمة تفسير المنار:(إِنَّمَا يَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَيَتَفَقَّهُ فِيهِ مَنْ كَانَ نُصْبَ عَيْنِهِ وَوِجْهَةَ قَلْبِهِ فِي تِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ مَوْضُوعِ تَنْزِيلِهِ، وَفَائِدَةِ تَرْتِيلِهِ، وَحِكْمَةِ تَدَبُّرِهِ، مِنْ عَلَمٍ وَنُورٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةٍ، وَمَوْعِظَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَخُشُوعٍ وَخَشْيَةٍ، وَسُنَنٍ فِي الْعَالَمِ مُطَّرِدَةٍ. فَتِلْكَ غَايَةُ إِنْذَارِهِ وَتَبْشِيرِهِ، وَيَلْزَمُهَا عَقْلًا وَفِطْرَةً تَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).

وقال في موضع آخر:( فَكَانَتِ الْحَاجَةُ شَدِيدَةً إِلَى تَفْسِيرٍ تَتَوَجَّهُ الْعِنَايَةُ الْأُولَى فِيهِ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِي وَصْفِهِ ، وَمَا أَنْزَلَ لِأَجْلِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ).

من أجل ذلك، أقدر أن العلماء والدارسين والنقاد الذين يصفون محمد فتح الله كولن بالمجدد، لم يزيدوا على وصفهم لأمر واقع، وعمل مشاهد في كثير من منجزات هذا الرجل. فمنذ زمن بعيد والأستاذ كولن لديه قناعة راسخة بضرورة تجديد فهم و تفسير كتاب الله تعالى من حين لآخر، بل بالنسبة لكل جيل[2]. فقد قال لي من لا أكذبه من تلاميذه أنه يقول: (على الناس أن يجتهدوا في تفسير القرآن كل خمس وعشرين سنة). ولكل من يطالع ما يكتبه هذا الرجل حول القرآن لكريم، وشبكته العلائقية بين الإنسان والكون، سيجد إشاراته العميقة في فهمه الواقعي، والمعاصر، والعلمي، والأصيل لكلام رب العالمين، إلى العالمين أجمعين. وكل ذلك جاء على خلاف ما نطالعه في كثير من المكتوبات عن القرآن و الإسلام اليوم.

واستنتاجي المتواضع من خلال قراءتي لهذا الكتاب؛ إن أطروحة محمد فتح الله في كتابه، تنسجم وتتناغم في منهجه العام، مع دعواته المتكررة لضرورة الفهم الجديد والواقعي للقرآن الكريم،[3] بصفته كلام رب العالمين إلى الناس أجمعين، وخطابه المتجدد في كل زمن ولكل جيل. وبذلك وجدت دعوى هذه الأطروحة تتمحور حول ضرورة تجديد فهم القرآن الكريم، وعمق دعوته إلى الهداية، وغير ذلك من القضايا والمسائل ليست سوى وسائل بيان وآيات تفسير لهذه الحقيقة. لكنها بتعبير الكاتب، كانت بيانا بارعا، وأسلوبا فريدا؛ وكل ذلك من خلال مشاهد توزعت بين سوره و آياته  في عالم الشهادة مصدقة لحقائقه بعالم الغيب، كما أخبر عن ذلك صاحب الأمر كله، له الأمر من قبل ومن بعد، الله جل جلاله. كما أكد المؤلف أن الإنسان لن يتسنى له معرفة الصلة بينه وبين الكون إلا بالقرآن. ومالم يفهم هذه الصلة سيبقى تائها حائرا في هذا العالم. فالقرآن إذا هو الباب وفهمه هو مفتاحه.

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] : أنظر كتابه القيم دراسات مصطلحية ص107.

[2] : لقد فصلت الكلام في هذه القضية في كتابي “فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم”.

[3] : من يقرآن كتب هذا الرجل سيجد دعوته هذه مبتوثة في كل كتبه في مختلف المجالات والحقول المعرفية التي كتب فيها.