إن اهتمام الكاتب بالمعجم والمعاني، للكشف عن دلالات الألفاظ، أمر حاضر بقوة في كل كتاباته، الشيء الذي أكسبه خصوصية الجدة والتأصيل التي لا يتمتع بها إلا الراسخون من الكتاب. فهو يحفر داخل وحول جذوع الكلمات ليذكرنا بمعان نُسيت أو تكاد، في قاموسنا المتداول. لكن المهتم حين يتقصى الأمور سيجد بأن ذلك موجود بلغتنا، بل يعد من تراث وأدوات الخطاب المتداول لدى سلفنا الصالح. وبناء عليه يحق لنا وصف هذا العمل بالتصحيح، بل التأصيل اللفظي قبل المعنوي، لكثير من المفاهيم في العصر الحديث.  وقد ذكرت سابقا كيف أن المؤلف وبعد تحديد معاني “الكتاب” خلص إلى القول أنه ليس هناك ما هو أجدر بهذه التسمية غير القرآن الكريم. تلكم إحدى مميزات منهج المؤلف في جميع كتاباته وهذا موضوع ينتظر من الباحثين من يحيطه بالدراسة والبيان، خدمة للعلم وإفادة للناس وعرفانا بجهود الرجل.

وإنصافا للكاتب، آثرت أن أفصل القول في عنوان الكتاب بعد ذكر لمعة عن المدخل؛ إذ به شواهد تُزكي ما أسستُ عليه كلامي في عنوان هذه الحلقة؛ وهو الإشارة إلى بعض منهجه في تحديد المفاهيم، لتظهر قوة وقيمة العنوان الذي اختاره لهذا الكتاب والذي وسمته بـ “العنوان نسغ الكتاب”. والنُّسغُ عند اللغويين، سائل يجري في الخلية والنباتات ليغذيها؛ وهو الماء الذي يخرج من الشجرة إذا قطعتها. والمقصود هنا أنني أعتبر العنوان الذي اختاره المؤلف بمثابة لُب الكتاب وعصارته. و عملية اختيار العناوين للدلالة على مضامين محتويات الكتب، أو البحوث، أو الرسائل والأطاريح، عمل فني لا يوفق فيه كل الناس. الشيء الذي جعل قضية العنوان بالنسبة للنص، كتابا كان أم شعرا أم قصة أم غير ذاك، بمثابة الرأس من الجسد، والمدخل من المدخول إليه، والعتبة من البيت. و كل هذه الأسماء في الدراسات الأدبية المعاصرة باتت مباحث مستقلة تحت عنوان العتبات. بل إن بعض الدارسين جعلوا هذه العتبات منافسة للنصوص وموازية لها، يخصونها بالدرس والتحليل كما النص أو المؤلف الذي تنتمي إليه.

إن اختيار لفظ “البيان” من طرف المؤلف ووصفه بـ “الخالد”، على العموم يبدو معتادا، وفق ما تعلمناه وقرأناه من أسماء وأوصاف القرآن الكريم؛ لكن الصيغة الكلية للعنوان، “لسان الغيب في عالم الشهادة” تشي بشيء مختلف، خاصة حين يجمع بين الحقيقة والمجاز، وذلك حين جعل للغيب لسانا، وللشهادة عالما. وكأنه يحاصرك في مشهد رهيب بين عالمين لا مفر لك عنهما، وأنت مذهول عاجز عن النطق، وهما عالم الغيب وعالم الشهادة؛ ثم لا تجد أمامك إلا لسان القرآن الكريم؛ وهو لسان لا يستغني عنه أي عاجزعن البيان في كل زمان أومكان. ونظرا لحاجة الناس إليه وصفه الكاتب كما جعله الحق سبحانه وتعالى خالدا.

إنها عبارات بالنسبة لأهل البيان تغني عن المزيد من التفصيل. لكن من طبيعة الإنسان الاستزادة من الفهم وطلب التفاصيل. ولمزيد من الفهم من حقنا التساؤل: لماذا اختار المؤلف لفظ البيان؟

وأنا أتأمل مضامين هذا الكتاب، خالجتني أسئلة كثيرة منها، لماذا اختار الأستاذ كولن لفظ “البيان” في هذا العنوان؟ هل هو اختيار لأحد وجوه بلاغة القرآن؟ أم لسبب آخر لاح للكاتب وبان؟

شمرت ورجعت أسأل بعض أهل العلم في معاجمهم، فكانت دهشتي أكبر مما توقعت حين وجدت لهذا اللفظ أزيد من عشرين معنى من المعاني المرادفة له دون مشتقاتها، أو صفاتها أو علاقاتها ولا ضمائمها؛ ومنها: الاِتِّضَاح، الاِسْتَبانة، الاِعلان، الاِنْجِلاء، الاِنْكِشَاف، البَلاَغ، البَلاَغَة، التَبَيُّنٌ، التَصْرِيح، الذَرَابَة، الذَلاَقَة، الظُهُور، الفَصَاحَة، المَنْشور، النَشْرَة، الوُضُوح، لاإِفْصَاح، كالَشْف، البَرَاح، المُغَادَرَة، الفَصَاحَة، الحُجّة، المَنْطِق الفَصِيح، البُعد، الوصل، التَجَلِّي.[1] وقد أجمل صاحب المفردات بعض ذلك بقوله: البيان الكشف عن الشيء، وهو أعم من النطق؛ لأن النطق مختص بالإنسان، ويسمى ما بُين به بيانا. وعلى غرار طبيعة كثير من المصطلحات، فقد عرف لفظ البيان تطور مذهلا حيث بات يشمل إضافة إلى معاني الظهور، كل ما يتم به الإظهار. هذا إضافة إلى توجيه دلالاته في عصرنا اليوم صوب مجال المعاني ومقاصد الكلام.[2]

خلاصة القول أن المؤلف أبدى عن علو كعبه حين جعل العنوان بالنسبة للكتاب بمثابة النسغ بالنسبة للشجرة. وهي مهمة صار يتقنها منذ زمان، تجلت من خلال ما ألفه في مجالات عدة كالتفسير والسيرة والفلسفة والفقه والدعوة وغيرها من صور البيان. فالرجل ينتخب الكلمات ثم يغزلها غزلا ويحلّيها بالمعاني التي يريد حتى تنتهي إلى الناس وفق مقاسات تناسب الجميع، نعم لقد سمعت من العرب والعجم من أكدوا أن تأثرهم بأسلوب الكاتب ومنهجه أكثر من أي شيء آخر.

وبالرجوع إلى المهتمين بالدراسات القرآنية لن يكون محمد فتح الله، وحيدا في هذا النهج البياني للحديث عن القرآن الكريم. إلا أنني قد أتجرأ لأقول بأنه من القلائل الذين نحو منحى خاصا في الكشف عن دور البيان في فهم رسالة القرآن، في العصر الحديث.

(يتبع)

[1] : انظر التعريفات واللسان، وكشاف الاصطلاحات.

[2] : لمزيد من التفصيل أنظر الجرجاني والتهانوي.