الدافع المادي دافع آني، مُناط بالهدف المنشود والغاية المتوخاة، أي بالكسب والجزاء، فقدرته على التحريك والتجييش ظرفية، عرضة للانطفاء والخمود، لذا كان من مقتضياته التجديد والتحريض والإشراط، إنه من طبيعة تحفيزية، عينية، ملموسة. أما الجزاء المعنوي رهين بالكسب الأدبي، وبالنجاح القيمي، فتحقيق المَثَل الأعلى والمبدأ الأكرم هو القصد والمطلب الذي ترابط من أجله النفوس الأبية. إن العينية الكسبية غائبة في المجاهدات المعنوية، أو إن هي وجدت، ففي درجة ثانوية لا غيرُ.. من هنا كانت المراهنات المعنوية هي الممحص الحقيقي الذي تتمايز به الإرادات وتتراجح العزائم.

 الجزاء المعنوي رهين بالكسب الأدبي، وبالنجاح القيمي، فتحقيق المَثَل الأعلى والمبدأ الأكرم هو القصد والمطلب الذي ترابط من أجله النفوس الأبية.

 المحرك المادي:

إن الفرد الذي تحرّكه الدوافع المادية وحدها، يظل مهيأً للفشل والخور، ما إن يعترض طريقه إلى المكسب المادي عارض قهري، أو أن يستغني ويجد البديل، عكس مَنْ تحرّكه الدوافع الروحية، فهذا لا يتردد في مهْر غايته الأسنى بروحه، وافتدائها بمهجته؛ ذلك لأن حياته تستمد قيمتها من قيمة المُثُل التي يعظّمها، فلما كان تعظيمه لمُثُلٍ أسمى من المادة وأغلى من المتاع، كانت حياته -الأثمن ما يملك- هي الرصيد الذي لا يتردد في بذله لأجل صيانة تلك المُثُل.

بحياة المبادئ تحيا الروح، وإن استشهاد الفرد في سبيل مبادئه يُعد حياة له وخلودًا، أما الذي يعترك لأجل أن يستحصل الغنائم المادية مجردة من بُعدها المثالي، فهذا قيمته من قيمة تلك الغنائم، لا دوام لها ولا استمرار، فهي ذات طبيعة استهلاكية، وكل مستهلك هو عرضي، لا جوهري. وإن معدن الذهب نفسه ليكسد ويتدنى في التسعير؛ لأنه على نفاسته، مادة يعرض لها عامل التخفيض والرفعة، وهو أمر لا يطال الروحيات بتاتًا.

إن هذا الاعتبار النبيل المغروس في وجدان الكائن البشري هو أُسّ وجودي يتلقنه الفرد من الفطرة ومن الحياة ذاتها، ولقد مضت مدنية العصر الراهن -من خلال ما أفرزته من فكر إلحادي غاشم- تنسب كل مظهر أخلاقي ومبدئي إلى غريزة من غرائز القصور في تكوين الإنسان.

لا ريب أن النفس الإنسانية جُبلت على الضعف، لكن الخالق -عز وجل- هيَّأها للتزكية، فجعل المُثل والأخلاق مَناطاتٍ لها، ورافعاتٍ، ومحرّكات تنزع بها إلى الكمال.

تقويم الفطرة كلما حادت عن الطريق:

لئن تسفّلت بنا الطبيعة البدائية، وأوقعتنا في ما يجرح الحس السليم، فإن ذلك من آثار النزعة الحيوانية التي تنطوي عليها تركيبة النفس البشرية، ولذا هيَّأ الله الرسالات والرسل لترشيد الناس، وجعل الدين يسوس إلى الحسنى، ولا يُكره أحدًا على اعتناق شرعة تجرح الذوق والحس السليمين، بل إن تعاليم الدين تشحذ مكامن النبل التي تنطوي عليها الفطرة السوية، لكن الحضارة الجاحدة، المتحاملة على الفضيلة وعلى الدين، تمضي في تسفيه القيم وتقزيم الروح، مقابل تمجيد الحس وتعظيم المادة، الأمر الذي ألحق بالغ الضرر بالمقدسات، وآل الأمر إلى أن خَفَت وهج الفضيلة، بل وخبت النعرة التي طالما تأججت في الضمير الإنساني حيال مظاهر امتهان المكارم ودوس المحامد.

لقد بات المحفز المادي وحده – تقريبًا- محرك الإرادات؛ حيث ساد الاعتقاد؛ نتيجة تدهور البيداغوجية المدنية، بأن الصراع المادي -وليس الصراع ضد شيطان المادة- هو قانون التحولات والتطورات.

محامد أخرى ظهرت وحلت محل الأصلية العتيقة، وازعُها استفحالُ الأنانية والبهيمية وقابلية الاستعباد المادي وما شاكل ذلك من قيم تسترخص النفس وتسوم الكرامة.

لقد بات المحفز المادي وحده -تقريبًا- محرك الإرادات؛ حيث ساد الاعتقاد؛ نتيجة تدهور البيداغوجية المدنية، بأن الصراع المادي -وليس الصراع ضد شيطان المادة- هو قانون التحولات والتطورات، الأمر الذي تراجعت به مساحة الاحتساب، فالضمير بات أصمَّ، مشروطًا بالأرقام والأحجام والنسب الأجرية المنتزعة في معركة الغش والعيش. لهذا وغيره يرى كولن وجوب التصدي لهذا الانجراف الأرعن الذي توشك الحياة أن تنقلب به، وتخرج عن نطاقها الطبيعي السليم.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 207-210.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.