على الرغم من يقينهم بأن البركة هي بعض ما منَّ الله به عليهم، إلا أنهم يجدون ما تضمنته رزنامة التغيير والبناء التي ينشدونها، أكبر مما تسعفهم به الحياة، ويتيحه لهم العمر من طاقة ووقت.. لذلك تراهم يعيشون الاحتراق الذاتي الدائم، تنوء كواهلهم بأحمال كالجبال الراسيات، يستغرقهم عمل دائب لا ينقطع، هو تسبيح صميم، ويستنفدهم استغراق عميق في البرازخ، هو عين العمل والكد، يمضون دائبين على الحداء وتجنيد ذوي العزائم، مشددين على إيجاد المدود التي يطمئنون بها على مواصلة ما دشّنوه من طرق العمل والبناء؛ إذ يعتبرون أن الدأب على فعل الخيرات هو أوكد الواجبات التي يعيش لأجلها المؤمن، فالحياة بالقياس إليهم هي مزرعة الآخرة، وأهل الحظ هم الذين يدركون أن الحياة الحق هي دار القرار، إنما الدنيا هي للكدح والتعمير، لذلك جعلوا شعارهم نحن لا نحيا لنعيش، بل نعيش لنحيا.

من حياة التفرد والقنوت استمد “كولن” مدودًا من التفتيقات الروحية والفكرية عزّزت لديه ما امتلك- بالفطرةً- من قابليات الفطنة والتفوق، فتهيأ لإدارة مشاريع، حجمُها حجم نهضة وانطلاق لا رجعة فيه.

نهوض، وعمل بلا كلل ولا ملل:

انظر كيف يَسْتَضْئِلُ “كولن” خرائط لا تني تتوسع وتمتد عبر القارات، تتمثل في منظومة من المنجزات والمشاريع النهضوية، تستنفر الآلاف المؤلفة من العاملين في مختلف الدرجات، والمساهمين في شتى المستويات، والمستفيدين في مختلف المجالات، وهي لا تفتأ يومًا بعد يوم، تثير الدهش والإعجاب والإكبار بتنامي وتائرها، والأبعاد والطرز والمعايير التي تميزها.

من مداومة التوحد يكتسب المفكر إمكانات نفاد ضافية، يستمدها من استقرائه الدائم لسير الرموز والفرديّات. وإن توطين النفس على مساكنة الأزمنة النيرة والعهود الخَيِّرة، وفي مقدمتها عهد البعثة المشرق، وما حققته السيرة المحمدية في مضمار تصنيع الروح، وقلب الأوضاع، والانعطاف بالتاريخ من اتجاه إلى اتجاه معاكس، في أقل من عشريتين، ثم ما أنجزه الراشدون في بحر عِقد من الزمن، نضدوا خلاله الأرض، وساسوا إمبراطوريتي البغي والطغيان (فارس والروم)، وبسطوا الجناح على مركز الأرض، واستظلوا أممها تحت راية الإسلام.. إن توطين النفس على التأمل في كل ذلك، وفهم أسراره وقوانينه، لهو أعظم غُنْم وأثمن كسب يمكن أن يستحصله الدارس والمستقرئ والمتفحص من صفحات ذلك الماضي الذي أسّس لميلاد حضارة الإسلام، ووفّر لها تلك الاندفاعة التي استرسلت قرونًا، لوّنت خلالها الدنيا بألوان الإسلام الزاهية.

من مداومة التوحد يكتسب المفكر إمكانات نفاد ضافية، يستمدها من استقرائه الدائم لسير الرموز والفرديّات.

احتراق البناء، واستلهام التاريخ:

فبصيرة المتبصر تزداد جِلاء باسترفاد تجارب التاريخ ومواعظ الشريعة؛ لأنها ستستوعب في متنها أرصدة ذهبية من العبر والتسديدات التي تساعدها على الفوز. ثم إن القائد يجد في الانخراط في مهام البناء، وما يقتضيه ذلك من اضطلاعه بأعباء القيادة، مجالاً آخر لمدود أخرى من التوفيقات والخبرة، يستخلصها من التحامه بالواقع، واشتباكه مع التحديات، وبذلك تغتني رؤيته، وتكتسب المرونة والواقعية؛ لأنها تراهن على النفاذ والفاعلية تحديدًا، ولا استعداد لها أن تخطئ في الرمية؛ لأن من يجعل هدفه الأسمى هو تحقيق النهضة، وتجاوز العثار المزري بالمكانة، واللحاق بالركب، لا يمكن إلا أن يكون أشد ضنًّا بالوقت والإمكانيات.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 223-225.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts