ينفتح الطريق أمامنا نحو المستقبل على اتجاهات عدة، وسبل شتى، فإما أن نستنيم إلى الحال المخدرة التي وضعتنا فيها تاريخيتنا منذ العصر الوسيط، ونمضي في التقهقر، شبه أموات، إلى أن يقع التحلل ونبيد. وإما أن ننغمس في مدنية الآخر بلا وازع ولا ضابط (وهو ما اختاره المتغربون المستلبون)، ونترك مصيرنا منوطًا بتوغل واستشراء هذه المدَنية وتفاقم غلوائها، وبكل ما يلحقنا من شرورها وهي تزدردنا لا يجد منا مقاومة ولا رد فعل.. وإما أن نعيش الغياب التاريخي، مثل رقدة أهل الكهف (وكان لهم ما يبرّر رقدتهم، عكسنا تمامًا)، فتنساب بنا الظروف والأطوار، كورقة جافة، تدحرجها الريح على القارعة، وتكورها السواقي عبر المجاري.
يجب أن ننفتح على ذاتيتنا، ونلتحم مع ماهيتنا، وننفض الغبار على مقوماتنا، ونستحيي مكامن الوجدان، فينبعث الوعي، وينتعش الضمير، وتتجدد المعنويات، وتنطلق الحياة النهضوية كرَّة أخرى.
“وإما أن ننفتح على ذاتيتنا، ونلتحم مع ماهيتنا، وننفض الغبار على مقوماتنا، ونستحيي مكامن الوجدان، فينبعث الوعي، وينتعش الضمير، وتتجدد المعنويات، وتنطلق الحياة كرَّة أخرى؛ إذ مقومات الكينونة حين يلابسها دفء الوعي بالذات، وتنقدح فيها شعلة الانتفاض والانبعاث، تسترد قابلياتها الجوهرية في الحركة، وتندفع نحو اتجاه مرسوم سلفًا في فهرست الانتماء، الأمر الذي يجعل القافلة تستأنف السير، والعجلة تنساب في مدارها، وتمضي باسم الله مجراها ومرساها”.
ترشحنا لإدارة مستقبل الإنسانية:
إن أهليتنا في بناء الحضارة، والترشح لإدارة مستقبل الإنسانية، أمرٌ مشروع، بل وحتمي، بكل المعايير، وبحكم منجزات الماضي، وما شاده الأسلاف من شامخ العز، وراسخ التحقيقات المدنية والحضارية التي لم يمحها الزمنُ، على الرغم من تزايد لواحق الإبداع الإنساني الذي أعقب غروب شمسنا؛ إذ ما زالت هناك تجليات لا تُحصى، ماديةً ومعنويةً من حضارة المسلمين، حية، وماثلة للعيان، ومنوَّهًا بها، ولا تفتأ الإحالة إليها، والاعتراف بقيمتها، صريحة ومؤكدة ومتواترة.
وإن ما يميز الإسلام أنه أعطى الإنسانية العقيدة التي تظل التشريعات الوضعية تنظر إليه بإكبار، وتبقى مدينةً لها في كل اجتهاد. كما أعطاها الحضارة التي حملت سماته الروحية وسجاياه الفكرية والجمالية، ومحامده الأخلاقية والقيمية، بخلاف سواه من الديانات الأخرى التي ظل نتاجها المدني والحضاري قوميًّا، حصريًّا أو يكاد (الصين، الهند، إلخ).
أهليتنا في بناء الحضارة، والترشح لإدارة مستقبل الإنسانية، أمرٌ مشروع، بل وحتمي، بكل المعايير، وبحكم منجزات الماضي، وما شاده الأسلاف من شامخ العز، وراسخ التحقيقات المدنية والحضارية التي لم يمحها الزمنُ.
لقد تبنَّت حضارة روما العقيدةَ المسيحية فدجنتها على وفق مزاج إباحي، أبيقوري، فاضح، وجعلتها عقيدة تُراوِحُ عبر مسيرتها من الشمول الذي أحالها عقيدة ظلامية، منهِكة للإنسان، معنتة له، حائلة بينه وبين ربه؛ إلى عقيدة العزلة، والانقطاع، والبعد عن الواقع (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)، فكانت ديانة معبدية، تتكيف بضغوط الحضارة ولا تكيّفها، عكس الإسلام.
تميز الأقليات المسلمة المهاجرة:
انظر إلى الظاهرة الحياتية التي أخذها الإسلام اليوم، من خلال الأقليات المسلمة المهاجرة في الغرب، والحضور اللافت لهم، ليس في ظاهرة ميعاد صلاة الجمعة الأسبوعي فحسب، ولكن في مواسمه، ونظام حياته، ومعاشه، وأُسس تفكيره، فإنك تدرك أن البعد الانفتاحي هو مَيْسمٌ في هوية هذا الذين؛ إذ ينتهي دائمًا إلى إحداث التأثير، وجذبهم بيسر إلى مبادئه.
إن الإسلام كما يعرفه الأستاذ كولن هو العقيدة التي تهيأت لتكون للعالمين موردًا؛ حيث تأصلت لها سجية الصلاحية في الزمان والمكان مطلقًا، فمن خصائصه العضوية “أنه يدخل إلى أضيق المعابر في الحياة الفردية والعائلية، والاجتماعية والاقتصادية، والسياسية والثقافية، ويجول في وحدات الحياة كلها بصوت العصر الذي هو فيه، ويلفت النظر في كل وحدة من وحداتها بصورة أشد إحكامًا من أحكم شيء واقعي”.
من هنا كان التَّوْق إلى بناء الحضارة اليوم، من صميم مقتضيات صحوة المسلمين، وإحساس متنوريهم وأعلامهم الخيرين بأن للإسلام حلولاً ناجعة، في وُسْعه أن يستنقذ بها الإنسانية اليوم -كما الأمس- من تردياتها المخيفة، وتشوهاتها المريعة.
————————————————
المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 188-191.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.