كيف يهيئ المصلحون المستقبل، وفي أي صورة يتمثلونه، وبأية خطة يمهّدون له؟.

من احتراقهم المتواصل ينشأ الدفء، وتسري الحياة، فمن بيضة يُولد طائر، ثم آخر، ثم سرب.. ويتهيأ للشعلة أن تضحى مشعلاً يتصاعد في السماء، ولا يلبث أن يشد إليه الأنظار من الأرجاء كافة.

حين ينغرس مصل الإيمان في وجدان الناشئ، تسكن الرحمةُ قلبَه، فيشبّ على المحبة، وينطبع بها مزاجه، بل ويصطبغ بها كيانه وشخصيته، وعلى قدر ما يَرْقى به العمرُ، تتأصل فيه خميرة الخير؛ لأن نزوعات النفس تكون قد هُيِّئت للانجذاب نحو السمو والفضيلة، نتيجة ما تلقحت به في المنشأ من عشق، فتتمكن في روحه قابليات الكمال.

 حين ينغرس مصل الإيمان في وجدان الناشئ، تسكن الرحمةُ قلبَه، فيشبّ على المحبة، وينطبع بها مزاجه، بل ويصطبغ بها كيانه وشخصيته.

 قادة الروح، مهندسو الكمال:

على هدي التنشئة الصالحة تدأب الحلقات والمنابر والصفوف والمكتوبات على التوسع في توفير المدود وتكبير الاحتياطات.. إنها ترسم خَطًّا نورانيًّا تجعله سقفًا للمريدين والأتباع والخيرين، يبلغونه ويستوفون به أهليتهم للحياة البرّة. فقادة الروح ومهندسو الكمال الإنساني يدركون أن مراقي الكمال شاقّة، تستغرق العمر كله، وإن مهام البناء الملحّة لا تتيح للاحتياط أن يتهيأ، ويتوفر بالحد المناسب، فلذا هم يعوّلون على منهج التنشئة الذاتية؛ فالنفس الكريمة حين تنجذب لمحافل البر، تكتسب سريعًا قابلية الحياة، ثم تمضي حيثما مضت.

كل مَجْمع يصنعه الأبرارُ يتحول إلى دينامو يولّد الإضاءة، وكل منتسب لمدرسة الإيمان، يكتسب من عناصر النماء ومن كيمياء العشق ما يكفل له السير على الطريق، متدرجًا بذاته عبر مدارج السمُوِّ، إذ تتحول مسيرة حياته، إلى رحلة للترقي؛ حيث سيتعمق ارتباطه المعنوي بعهود العز الخوالي، فيضحى في كل آنٍ يعيش بمواجده أجواء الوحدة الجامعة، فلكأنه وهو من صحابة هذا العصر، واحد من زمرة الصحابة العظام، نشَّأََهُ هو توجيه يستمد تسديداته من منابع النبوة المحمدية، ونشأهم هم خير الخلق محمد بن عبد الله، أفضل الورى، صلى الله عليه وسلم.

حين نسِقي الناشئَ برشفات الإيمان العِذاب، نكون قد وضعنا قدمه على طريق بناء وتأصيل المدنية الحق.

نحو النقاء والسمو:

من شأن العبد المؤمن التصلب في وجه الاختراقات، ويمتنع عن ملابسة التلويثات التي تعج بها الحياة. ويضحى هو عامل نقاء ونظافة، يشمله الطهر في ذاته، باعتباره حاملاً من حوامل الأخلاق والإحسان، ويشمل بالتبعية محيطَهُ، بدءًا من أسرته ومخالطيه، فالعنصر النجيب الذي تصقله مهذّبات الدين، يُعَدُّ من أهم فاعليات بثّ الخير والطمأنينة والاحتساب في المجتمع، ذلك أنه بعد أن يسلخ مرحلة الشبيبة في الاستقامة والرعاية والتطوع، يغدو عنصر صلاح، يقضي العمر في العمل الصامت والقنوت المتواصل (ولقد رأينا نماذج من هذا الصنف الألماسي بين شباب الخدمة).

 إن العراقة تعني اكتساب المجتمع قيم الاستحفاظ، وتطَبُّعَ أفرادِهِ على خُلُق اللباقة، وانطباع أرواحهم بالفاعلية والتوليد الإبداعي المتكاثر.

أو يقوم – بدوره المرابط في الجبهة- بتأسيس خلية أُسرية لا يكون عناصرها -كلاً أو بعضًا- إلا آخذين بشمائل الصلاح الروحي، فينشأون على التخلق والشهامة ونشر المحامد، وهكذا تتسلسل منهم القوامة الإيمانية والأخلاقية، وتسترسل تجذرات الخير عموديًّا وأفقيًّا، وتخضرّ أرضية الواقع الاجتماعي، وتتداعى الأجيال في مسيرة الحياة الكبرى إلى نهج الرشد والتمدن الفضيل، فيتعزز الإنتاج والإبداع. الأمر الذي يتكرس معه بروز النموذج الحضاري المتفرد الذي يكون له أهلية التأثير والريادة والأستاذية العالمية.

إن الحضارة تكون أكثر عراقة إذا تمت على هذا المنحى الإنشائي، ووفق هذا المنهاج الاستزراعي الذي يبدأ نقطيًّا، ثم تترامى أفضيته ومجالاته. فكل ناشئ في المدرسة المؤهلة تربويًّا وعلميًّا، هو حبة مباركة، تنبت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، وبذلك يقع التراكم، ويزداد الاحتياط المفَرِّش لميلاد مدنية الخير.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:204-207.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.