تَتبدَّى لنا مركزية الدين، بوصفه أهم فاعليات التحريك الاجتماعي والإنساني، وأقوى ديناميات التحشيد الجماهيري، وأمكن عوامل نشر الأخلاق والتمدن؛ إذ الأفراد، وكذا الجماعات، تجد نفسها حيال تعليمات الدين سواسية، تتقاسم نفس التكاليف، وتتوقع نفس الجزاءات الغيبية، الأمر الذي يجعلها تقف على بُعد واحد من الخالق عز وجل، وتدرك أن الإلزامات المشتركة التي تنهض بها ليست من إملاءات أحد، فهي تعاليم متعالية عن الاجتهاد الإنساني، وأن المسار الذي تسلكه (الجماعات) ليس من رسم أحد، حتى نداءات الدعاة والمصلحين إنما هي في حقيقتها تذكير بما قررته العقيدة، وتنبيه إلى ما يفوت الناس من خير وبركة ببعدهم عن الشريعة.

من شأن التأصيل الثقافي المطلوب، أن يكفل للمجتمع الوقاية الذاتية من المخاطر الهدامة والمعتقدات الغريبة، ويتم ذلك من خلال تدريب الروح الاجتماعي وتقوية حساسيتها وقدرتها على القيام برد الفعل المناسب.

 التأصيل الثقافي:

من شأن التأصيل الثقافي المطلوب، أن يكفل للمجتمع الوقاية الذاتية من المخاطر الهدامة والمعتقدات الغريبة، ويتم ذلك من خلال تدريب الروح الاجتماعي وتقوية حساسيتها وقدرتها على القيام برد الفعل المناسب، حيال كل اختراق أو اندساس يشوش على منظومة القيم، أو يحاول أن يَعْدِلَ بها عن مسارها وطبيعتها.

فتنمية دينامية الممانعة الإيجابية في صيغ الثقافة الأصلية، يجعلها أقدر على التبادل والتحاور، وأكثر صلابة في مجال التمرسات السجالية.

ودائرة الاستصلاح التي تسفر عنها الجهود بعد عقود من الجهاد والبلاء الحميد الذي يتجشمه الأفذاذ المصلحون، لا تكون -غالبًا- إلا محدودة النطاق، لكنها على محدوديتها تمتلك تلك الجاذبية الأصيلة التي تستمدها الظواهر النورانية من قدسية المبادئ التي تتقمصها، وهو ما يجعل تلك الدائرة مهيأة للتوسع، يعطيها نبل شعاراتها وتسامي سلوكياتها رجاحة في التأثير، وقدرة على التوجيه؛ إذ تغدو الأوساط المستصلحة بمثابة المنائر التي تشدّ إليها الأنظار.

بالدين الحنيف نضمن للحضارة أن ترسو على روحية مطهرة، وبالثقافة المؤخْلقة على الخُلق، نسدد نحو بعث الوجدان المبرأ من لوثات التردي المادي والمعنوي.

ثقافة تنبع من صلب العقيدة:

تهيئ للمجتمع أن يتداوى من اعتلالاته المعنوية على نحو شبه ذاتي، فمن شأن المجتمع والأوساط المستنيرة أن تُهيئ المناخ الثقافي الذي يستوعب الانحرافات ويكيّف التشوهات.

إن الفرق بين التحصين المدني كما يدعو إليه كولن، وبين الإطلاقية التي تنادي بها الفلسفة الليبرالية، هو أن كولن يسير بالعملية الاجتماعية مسارًا بيداغوجيا، بمقتضاه يتوجب على المجتمع أن يكوّن الأسباب التي تجعل مظاهر الانحراف ومفرخات الأمراض تنحسر ذاتيًّا، وذلك حين تتوفق الجماعات إلى أن تجعل أوساط الانحراف -ربما تحت تأثير علاقة المحيط المقرب منها، ورد فعله السلبي تجاهها- تستشعر بنفسها فسادها، واعوجاج الطريق الذي تسير فيه، فتتراجع أو تعيش وهي على وعْي بما تتسبب فيه من أذى للمجتمع، ومِن تعدٍّ على معتقداته.

ومن المؤكد أن الحياة لا تخلو من قذى، رغم تعمق مساعي الإصلاح، فالحياة المستصلَحة أشبه بالجسد السليم، يظل مع كمال عافيته يرشح بنفاياته ويفرز مستقذراته، وهي حال من طبيعة الحياة ذاتها، فالشر لا ينتفي من الحياة، لكنه لا ينبغي أن يكون القاعدة.

الليبرالية فتحت السبل في وجه مستقبل بشري متهمج، يغدو فيه الشذوذ هو القاعدة، والاستقامة هي الخرق، ومنعت الإنسان من أن يعرب عن مشاعره حيال التشوهات، بل وحتّمت عليه أن يباركها، وإلا صُنّف رجوعيا، وأصوليًّا، وأركاييك.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 213-216.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts