إن الدنيا بستان الله تعالى، وأنّ أنوار ذوي الوجوه النيرة في هذا البستان تنعكس على مرايا قلوبنا وتتجلّى فيها، فإذا كان الحال هكذا فإنّ ما نقوم به من أمورٍ دنيوية هو عبارة عن موجات تجلّ آتية منه على أطوالٍ مختلفة، ونحن هنا لا نتناول بالطبع الموضوع بنظرة أصحاب وحدة الوجود أو أُولي وحدة الموجود، لا نتناوله هكذا ولكننا نؤيد قول الإمام أحمد السرهندي الملقب بالإمام الرباني: “إن حقائق الأشياء عبارةٌ عن تجليات الأسماء الإلهية”. أجل، نحن لا نستطيع ترك الدنيا لأننا لن ننال الآخرة إلا بوساطة الدنيا، صحيح أنها عبارة عن ركام من الأراجيف والأوساخ، ولكن كم من جواهر نفيسة للحقائق كامنةٌ في هذه الأراجيف.

إن حقائق الأشياء عبارةٌ عن تجليات الأسماء الإلهية

الدنيا: “ركامٌ من الأراجيف”

هناك قصة رمزية في “المثنوي”عن “محمود الغزنوي”، والحقّ أن الحكيم الهندي “بيدبا” قبلَ “لافونتن”قد قام بسرد القصص والحكم على لسان الحيوانات، وقام بعده كثيرٌ من علماء المسلمين بإتباع الأسلوب نفسه في كتبهم، ومن بينهم مولانا جلال الدين الرومي، إذ أورد قصةً على لسان “محمود الغزنوي” وكلبه الرابض أمام بابه، فقال:

كان كلبه يذهب كل يوم إلى مزبلة أمام القصر ويظلّ ينبش ويبحث فيها فلا يجد فيها شيئًا يأكله، ومع ذلك يذهب في اليوم التالي إليها ويظل يبحث فيها عمّا يأكله حتى المساء، كان هذا ديدنه كلّ يوم، فقال له محمود الغزنوي ذات يوم: منذ أيام وأنت تنبش في تلك المزبلة فلا تجد شيئًا ومع ذلك لا تكفّ عن الذهاب إليها، ألَمْ تسأم وتملّ من هذا البحث غير المجدي؟ فقال له الكلب: “لقد وجدت في أحد الأيام في هذه المزبلة عظمة، ومن أجلها أذهب كلَّ يوم لعلي أجد عظمة أخرى”.

 خلط الله في الدنيا بين الخير والشر والجميل والقبيح، ولكي لا يُنسب قبحُ الأشياء إليه مباشرةً؛ وضع أستار الأسباب، فبقي القبح الظاهري للأشياء وراء هذه الأستار.

الله تعالى هو خالق كلّ هذه الأشياء التي تتجلى فيها ما لا نعلمه أو نحصيه من أسمائه تعالى، الأسماء الإلهية لا نهائية وهو وحده يعلم عددها، فهناك أسماء لا يعلمها إلا هو، ولم يُطلع أيَّ نبيٍّ أو ملكٍ مقرّبٍ عليها، وهذا معنى دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ)[1]“، ومن ثمّ علينا أن نقوم نحن بالنبش في هذه الدنيا وأن نبحث بكلّ شوقٍ في الأماكن التي يظنها الآخرون مزبلة من المزابل؛ لعلّنا نبلغ حقيقةً أخرى زيادة على الحقائق التي عثرنا عليها.

هناك وجه آخر للدنيا ننفر منه ونهرب؛ وهو وجهٌ يتعلّق بها؛ لأنها فانية وزائلة، لا تعطيك قطعة واحدة من الحلوى إلا مقابل صفعات عديدة؛ فهذا الوجه هو وجه اللهو والغرور، وهو الوجه الذي يقبل عليه أهل الدنيا ويجلّونه، بينما هو وجه قبيح بالنسبة لنا، وكلما زاد البغض منه كان أفضل.

إذًا نستطيع إقامة التوازن بين الدنيا وبين الآخرة من هذه الزاوية، الدنيا زائلة، والآخرة باقية، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيا ولم ينعزل عن الناس، ولكنه كان على الدوام مع الحق تعالى، كيف لا وهو القائل: “الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ”[2].

———————-

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ227-229.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] مسند الإمام أحمد، 6/247.

[2] سنن ابن ماجه، الفتن، 23.