اعترف رئيس حزب المستقبل التركي، أحمد داود أوغلو، بالمكائد التي دبرها قبل 6 سنوات ضد المفكر الإسلامي التركي مؤسس حركة الخدمة، فتح الله كولن، عندما كان داود أوغلو وزيرا للخارجية، بالتعاون مع رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان.
ومع أن الرواية الرسمية تعتبر تاريخ 17 ديسمبر 2013، حيث ظهرت فضائح الرشوة والفساد للحكومة، ميلادًا وبداية لانقلاب حركة الخدمة “المزعوم” على حكومة أردوغان، إلا أن تصريحات داود أوغلو الأخيرة كشفت أن قرار اعتقال كولن المقيم بالولايات المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي، وإعادته إلى تركيا اتخذ قبل هذا التاريخ، وتحديدًا في أعقاب حادثة استدعاء النيابة العامة رئيس المخابرات هاكان فيدان للتشاور حول تورط بعض الاستخباراتيين في أعمال إرهابية إلى جانب عناصر حزب العمال الكردستاني في السابع من فبراير/ شباط عام 2012.
وخلال مشاركته مؤخرا في برنامج تلفزيوني على قناة خلق تي في (Halk TV)، ذكر داود أوغلو زعيم حزب المستقبل أنه أبلغ أردوغان في السابع من فبراير/ شباط عام 2012 بضرورة إجراء حملة تطهير داخل أجهزة الدولة، وذلك بعد استدعاء فيدان للتباحث حول العلاقات المشبوهة بين حزب العمال الكردستاني وبعض الاستخباراتيين، قائلا: “أردوغان طالب فيدان بعدم الذهاب للإدلاء بإفادته في هذا الصدد، غير أنني قمت باستدعاء فريدون سنيرلي أوغلو لكوني أنا المسؤول عن الوزارة (الخارجية) وأخبرته باتخاذ الإجراءات اللازمة ضد هذا الاستدعاء”.
تصريحات داود أوغلو تدل على أن أردوغان كلفه بإقناع كولن بالعودة من الولايات المتحدة إلى تركيا من أجل اعتقاله وإرساله إلى خلف القضبان الحديدية، حيث كشف داود أوغلو عن المكيدة التي دبروها على كولن بقوله: “بحثنا مع أردوغان كيفية عرقلة دعاية حركة الخدمة بالخارج ضد بلادنا ومنع تحولها إلى دولة داخل الدولة. توصلنا إلى ضرورة إعادة كولن إلى تركيا. لذا تحدثت مع كولن (في الولايات المتحدة) بشأن ضرورة عودته إلى تركيا. فهذه المهمة كلّفني بها رئيس الوزراء (أردوغان). وأبلغت رئيس الوزراء أنهم (حركة الخدمة) لا يحملون نوايا حسنة وضرورة إعادة كولن إلى تركيا”.
وذكر داود أوغلو أنه بدأ بتنفيذ الخطة وحصل على موعد من كولن وتوجه إلى ولاية بنسلفانيا، حيث يقيم ملهم حركة الخدمة، غير أن كولن أبلغه أنه لا ينوي العودة إلى تركيا، قائلا: “أبلغته أنه يتوجب عليه العودة، فأخبرني أنه لا يوجد ما يستدعي عودته إلى البلاد في الظروف الحالية. شعرت أنه لن يعود إلى تركيا. وهذا ما أبلغت به رئيس الوزراء حينها (أردوغان). أخبرته أنه من الأفضل اتخاذ إجراءات احترازية. في تلك المرحلة لم يكن هناك اختلاف في الآراء بيني وبين أردوغان وبهذا انتهت مهمتي”.
من جانب آخر، اعترف نائب رئيس الوزراء الأسبق بولند أرينج والكاتب الصحفي الشهير فهمي كورو بأن هاكان فيدان زار كولن مرتين في أمريكا بتكليف رسمي من أردوغان، قبل بدء تحقيقات الفساد والرشوة في عام 2013. وكشف الكاتب الصحفي أمر الله أوسلو أنه، أي فيدان، عرض على كولن أثناء زيارته له في 2012 أن يبايع أردوغان كما بايعته الأغلبية الساحقة من كوادر حزب الرفاه الإسلامي والجماعات الإسلامية الأخرى، لكي يستخدم نفوذ وسمعة مؤسسات حركة الخدمة التعليمية والاقتصادية المنتشرة في كل أنحاء العالم في عرض وتلميع مشروعه الذاتي، لكنه رفض ذلك رفضًا باتًّا وفضل الاستقلاليلة بدلاً من التبعية.
ولما أدرك أردوغان أنه لن يستطيع تسخير حركة الخدمة لصالح مشروعه مثل جل الجماعات الإسلامية في البلاد، توجه إلى اتباع طرق ملتوية، للتخلص منه، حيث أنه كان قد وجه دعوة لكولن أمام الجماهير في أولمبياد اللغة التركية التي أقامتها حركة الخدمة في 2012 بالعودة إلى تركيا، قائلا: “عد إلى وطنك حتى ينتهي ذلك الحنين الذي تشعر به إلى بلادك منذ سنوات”.
ونقتبس أدناه “أسطورة التخطيط لاعتقال فيدان وأردوغان” كما ورد في كتاب “قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني” لمؤلفه ياوز أجار حتى تتضح الصورة أكثر:
معرفة خلفية حادثة استدعاء رئيس المخابرات هاكان فيدان من قبل النيابة العامة تنطوي على أهمية كبيرة لفهم مسلسل الأحداث التي عاشتها تركيا بعد عام 2012. حيث إن هذه الحادثة أثارت زوبعة سياسية كبيرة حينها وكانت بمثابة “نواة” للأحداث التي تبعتها. لذا ينبغي التوقف عندها لإزاحة الستار عن كل ملابساتها.
بعد الكشف عن فضائح الفساد والرشوة في 2013 خاصة، بدأت الآلة الإعلامية العملاقة الخاضعة لأردوغان تبرر كل وسيلة مهما كانت من أجل تحقيق الغاية، بما فيها حياكة سيناريوهات وقصصٍ وهمية لا تمتّ بصلة إلى الواقع. وتشكل هذه الحادثة أبرز عملية اختراق العقول وزرع الأفكار التي باتت الأداة التي يستخدمها رجال أردوغان في الحملات الأمنية التي نفذوها ضد جميع من يصنفونهم ضمن “معارضي أردوغان”، بتهمةٍ مزورة تحت مسمى “الانتماء إلى الكيان الموازي”، اقتداء بأساليب هتلر في تصفية معارضيه.
فقد زعم إعلام أردوغان أن المدعي العام صدر الدين صاري كايا “استدعى” رئيس المخابرات هاكان فيدان في 7 فبراير 2012 لـ”أخذ إفاداته”، بسبب مشاركته في “مفاوضات أوسلو” التي كانت المخابرات التركية أجرتها مع العمال الكردستاني في مدينة أوسلو النرويجية من أجل التوصل إلى تسوية للقضية الكردية، وذلك كأولى خطوة لتمهيد الطريق إلى الإطاحة بالحكومة و”اعتقال أردوغان” عبر محاسبتهم على “السياسة” التي اتبعتها حكومته في التفاوض مع العمال الكردستاني. ثم هبّ يحيك قصصاً وهمية تدعم هذا التصور. وفي سيبل تشكيل هذا الإدراك وتسويقه في الرأي العام أنتجوا حتى فيلماً يتناول هذه الحادثة. فالمدعى هو أن المدعي العام صاري كايا اختار وقتاً حساساً جداً لهذا الخروج على الحكومة، حيث تزامن مع خضوع أردوغان لعملية جراحية بحيث “لو نام على السرير قبل 45 دقيقة لوجد يديه مكبلتين عند إفاقته واستيقاظه من فراش العملية!”
أما حقيقة الأمر فهي كالتالي:
أولاً: ما قام به المدعي العام لا يمكن وصفه بـ”الاستدعاء” بل هو “دعوة”. ذلك لأنه أجرى مكالمة هاتفية مع فيدان، ودعاه خلالها للتباحث والتشاور حول انخراط بعض عناصر المخابرات في صفوف العمال الكردستاني، ومشاركتهم معهم في أعمال إرهابية، إضافة إلى إطلاق سراح رجالٍ اعتقلوا على أنهم إرهابيون بحجة أنهم رجال المخابرات! ومن ثم اتخذ الطرفان قراراً بعقد لقاء لبحث هذا الموضوع، وحددا يوماً معيناً فعلاً.
أي الأمر عبارة عن دعوة المدعي العام رئيس المخابرات من أجل تبادل المعلومات التي يحوزها بشأن منظمة إرهابية، أو بعبارة أخرى هو تشاور بين جهازين تابعين للدولة ذاتها. لكن نظراً لأن هناك استعدادات لإيجاد أرضية وإطارٍ لتنفيذ خطة مشؤومة، فإن هذا الموضوع يتم تسريبه إلى الموقع الإلكتروني لجريدة “حريت”، حيث نشرت خبراً قبل يومٍ واحد من انعقاد اللقاء مدعية أن “رئيس المخابرات فيدان كان سيعتقل لو استجاب لدعوة المدعي العام، ومن ثم أخذوا يحيكون مؤامرات وفقاً لهذا الزعم.
كما أن البيان الذي نشره مساعد النائب العام في إسطنبول آنذاك فكرت سجان يكشف أن سبب دعوة فيدان ليس مشاركته في مفاوضات أوسلو مع العمال الكردستاني، ولا محاسبة حكومة أردوغان على “السياسة” التي تتبعها في هذا الصدد. حيث جاء في بيانه: “دعوة فيدان لتبادل المعلومات لا تستهدف، لا من قريب ولا من بعيد، الجهودَ التي تبذلها أو السياسةَ التي تتبعها السلطة التنفيذية (الحكومة) من أجل إنهاء فعاليات الإرهاب. لكن ما حدث هو أن النيابة العامة في إسطنبول حصلت على دلائل ووثائق خلال تحقيق معين بخصوص منظمة اتحاد المجتمعات الكردستانية (التي تعد “الجناح المدني” و”العقل المدبر” للعمال الكردستاني) تثبت أن عدداً من موظفي المخابرات انتهكوا نطاق المهام الموكلة إليهم وخرجوا عليها، وذلك عن طريق المساهمة في تنفيذ فعاليات المنظمة الإرهابية، الأمر الذي أثار شبهات قوية حولهم”.
والمفارقة أن أردوغان كان أطلق خلال حوار تلفزيوني على هذه المنظمة “الكيان الموازي” داخل الدولة، وطالب باستمرار العمليات المنفذة ضد أعضائها وقيادييها، قبل أن يطلقه على حركة الخدمة!
والدليل القاطع على أن النائب العام صاري كايا لم يدعُ فيدان لمحاسبته على سياسة السلطة الحاكمة تجاه العمال الكردستاني هو أن النيابة العامة في أنقرة كانت تنظر فعلاً دعوى رفعها النائب البرلماني من حزب الشعب الجمهوري تانجو أوزجان حول مفاوضات أوسلو مع العمال الكردستاني. ولا يمكن فتح تحقيق جديد حول الموضوع تقنياً بينما يستمر التحقيق المذكور، مما يبطل دعوى محاسبة فيدان بسبب مفاوضات أوسلو وسياسة الحكومة في هذا المضمار.
أما الحكاية العاطفية حول التخطيط لاعتقال أردوغان بعد فيدان وهو على فراش العملية، فعارٍ عن الصحة تماماً. ذلك أن أردوغان كان خضع لعملية جراحية مهمة في 26 نوفمبر 2012، أي قبل شهرين على الأقل من حادثة دعوة فيدان من قبل المدعي العام في 7 نوفمبر 2012. بل كان عاد لجولاته الداخلية ما عدا الخارجية. ومن ثم أجريت له عملية بسيطة مكملة للأولى دون تخدير لكن في 11 فبراير 2012، أي بعد 4 أيام من الحادثة. وفي كلتا الحالتين فإن الزعم “لو نام على سرير العملية قبل 45 دقيقة لوجد يديه مكبلتين عند إفاقته” ليس إلا بمثابة إضافة “صوص عاطفي” إلى هذه الحكاية الملفقة!
فضلاً عن كل ما ذكرنا أعلاه، فإنه لم يكن من الممكن اعتقال أردوغان من الناحية التقنية، إذ من المستحيل أن يعتقل أي نائب عام رئيس الوزراء بإعداد لائحة اتهام بحقه، وليس بإمكانه، في أي حال من الأحوال، أن يعزله من منصبه. وهذا لأن رؤساء الوزراء، وكذلك النواب البرلمانيين، لا يمكن عزلهم من مناصبهم ومحاكمتهم ما لم تكن هناك موافقة برلمانية وإحالة إلى محكمة أمن الدولة العليا. ولكن لما رفض فيدان الاستجابة لدعوة النائب العام، عمد هذا الأخير إلى تطبيق الإجراءات الرسمية، فطالب النيابة العامة في أنقرة بأخذ إفاداته حول الموضوع المذكور، ومن هنا اندلعت الأزمة المذكورة. ووظفت الحكومة هذه الأزمة في تنفيذ عملية تعيينات وتصفيات كبيرة في الأجهزة البيروقراطية للدولة، خاصة في جهازي الأمن والقضاء، إضافة إلى إجراء تعديلات قانونية وفرت درعاً قانونياً لعناصر المخابرات ربط إمكانية محاكمتهم قانونياً بإذن رئيس الوزراء أردوغان مهما كانت التهم الموجهة إليهم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أردوغان ورجاله لم يتهموا في ذلك الوقت، أي عام 2012، حركة الخدمة بالوقوف وراء ما أسموه “الخروج على الحكومة”، ولم يتحدثوا أبداً عن وجود كيان موازٍ يريد الانقلاب عليها. بل كان هذا الوصف يطلق على القيادة العليا للعمال الكردستاني، من قبل أردوغان وإعلامه، كما قلنا.
الحقيقة هي أنه إن أمكن الحديث عن وجود مخطط انقلابي في هذه الحادثة فهو الانقلاب الذي أحدثته الحكومة ضد كل الكوادر الوطنية في مؤسسات الدولة. فالحكومة وظفت هذه الحادثة في منع تطهير المخابرات من عناصرها المرتبطة بالدولة العميقة التي تحاول السيطرة على الشعب التركي عن طريق تنظيم أرجنكون، والشعب الكردي من خلال تنظيم حزب العمال الكردستاني.
مستشار أردوغان يستعير “الكيان الموازي” من أوجلان
كان يالجين أكدوغان، كبير مستشاري أردوغان، هو مَن استعار مصطلح الكيان الموازي من مخترعه لأول مرة عبد الله أوجلان، وأعاد طرحه مجددًا بعد بدء تحقيقات الفساد، ليصف به حركة الخدمة، نظرًا لأنه كان ضمن مهندسي مفاوضات السلام مع العمال الكردستاني. أكدوغان زعم قائلاً: “هناك كيان موازٍ توغل في أعماق الدولة خطط للانقلاب على حكومة أردوغان من خلال تزوير أدلة إدانة وإلصاقها بالوزراء، تمامًا مثلما نصب مؤامرة للجيش التركي لاعتقال كبار الجنرالات في إطار قضية أرجنكون”، وذلك على الرغم من إقالة أردوغان كل الوزراء المتهمين بالفساد.
ومن المفارقة أن أكدوغان ذاته هو الذي اعترض بشدة على إلصاق مصطلح الكيان الموازي بحركة الخدمة قبل عام كامل من بدء تحقيقات الفساد، التي سنتطرق إليها بشكل تفصيلي في القسم القادم. فعندما قال رئيس الاستخبارات فيدان “لن أسمح بتشكيل دولة موازية داخل الدولة”، علق بعض الكتاب الصحفيين من أمثال أمر الله أوسلو وآرزو يلديز على هذا التصريح بالقول: “إنه يقصد بالدولة الموازية حركة الخدمة لا اتحاد المجتمعات الكردستانية”. فانبرى أكدوغان مدافعًا عن الخدمة وكتب حينها مقالاً باسمه المستعار “ياسين دوغان” بعنوان “نحن مدركون للعبة”، نفى فيه وقوف الخدمة وراء حادثة استدعاء رئيس الاستخبارات من قبل الادعاء العام التي اعتبرها إعلامُ أردوغان “تدخلًا في سياسة الحكومة الخاصة بمفاوضات السلام الكردية مع أوجلان”. ففي المقال الذي نشرته صحيفة “يني شفق” الموالية للحكومة في صفحتها الرئيسية تحت عنوانها الرئيسي “بالتأكيد ستفشل هذه اللعبة”، أكد أكدوغان على “عدم وجود أي صراع بين حزب العدالة والتنمية وحركة فتح الله كولن، كما تصوّره بعض الأطراف ووسائل الإعلام في أعقاب استدعاء رئيس جهاز المخابرات فيدان”. وأضاف: “من غير الممكن أن يسود صراع أو نزاع في مجال السلطة والإدارة بين مجموعتين تسعيان إلى تقديم خدمات إلى شعبهما في مجالين مختلفين”، ثم لفت إلى أهمية “الأخوّة والتضامن بين المجموعتين اللتين تجمع بينهما المثل العليا الخالدة وليس المنافع والمصالح العابرة”. كما شدد على أن آمال من يسعون إلى “إثارة الفتنة والبغضاء والعداوة بين الحكومة برئاسة أردوغان ومؤيدي حركة الخدمة بقيادة فتح الله كولن لن تتحقق على الإطلاق، ولن يكون الطريق معبدًا أمام الحاقدين والحاسدين لتنفيذ مخططاتهم المنحوسة”.
يبدو أن هذا الانفعال الذي أبداه أكدوغان متمثلا في نفي ما ردده هؤلاء الصحفيون كان محاولة لحجب تكشُّف السيناريو الذي حاكوه خلف الأبواب المغلقة مع حليفهم الجديد الدولة العميقة بشقيها التركي والكردي قبل أوانه.
المصدر: موقع زمان عربي