إنَّ فتح الله كُولَنْ بقدر ما هو رجل حركةٍ وعملٍ وتربيةٍ وتهذيبٍ بقدر ما هو مثقفٌ واسع الاطلاع، وهو يكتب في مجالات واسعة، وقد أفصح في أوقاتٍ مختلفة عن آرائه وأفكاره بشأن أكثر مواضيع عصرنا جدلًا ونقاشًا، وسنتناول في هذه السلسلة من المقالات أفكارَه وآراءَه حول العلم (ونَقصِدُ بذلك العلمَ الحديث إلى جانب العلم الشرعي)، والتقنية وعلاقة العلم والدِّين التي مثلت أكثرَ المواضيع نقاشًا في عدة عصور.

ما العلم؟

يرى فتح الله كُولَنْ:

“أن هذا العالَم كتاب مفتوح لتدبُّرِ الإنسان واستكشافه، ومَعرِضٌ قُدِّم إليه ليشاهده، بل إنه أمانةٌ أُودعت لَدَينَا ومُنِحنا حقَّ التدخُّل فيها…”

فُضِّلَ الإنسان على الملائكة بالعلم، وتُوِّج تفضيلُه هذا بمنحِه مهمَّةَ الخِلافة؛ أي إعمار البسيطة والتدخُّل في أمور الطبيعة بمعايير معينة لإعمارها؛ لأنه وارث الأرض الحقيقي.

ووظيفة الإنسان تجاه هذه الأمانة هي:

“قراءة كتاب الكون، وتفسيره بإدراك الظاهر والباطن فيه؛ وتحقيق هذا المعرض الملغَّز، وتقييم المعاني التي يحتويها ويعبّر عنها، والاستفادة من هذه الأمانة بحيث ينتفع بها الناس حاضرًا ومستقبلًا…

وهكذا فإننا نُطلِقُ لفظَ العلم على هذه العلاقة القائمة بين الإنسان والوجود واستكشافه إيّاها وإدراكه لها”[1].

العلم والإنسان

يلفت فتح الله كُولَنْ الانتباه إلى أهمية العلم من زاوية خاصّة؛ فيرى أنَّه عاملٌ مهمٌّ يُميِّزُ الإنسان ويُقَدِّمه على غيره من الموجودات؛ لأن الإنسان فُضِّلَ على الملائكة بالعلم، وتُوِّج تفضيلُه هذا بمنحِه مهمَّةَ الخِلافة؛ أي إعمار البسيطة والتدخُّل في أمور الطبيعة بمعايير معينة لإعمارها؛ لأنه وارث الأرض الحقيقي.

إن التعصُّبَ والتطرُّفَ -لا سيما التحجُّر الأيديولوجي- مانعٌ من أعظم الموانع التي تعترض طريق العلمِ والعقليةِ العلميّة التي هي بمثابةِ الشرطِ له.

لقد منح الله تعالى الإنسان شيئًا لم يمنحه أيًّا من مخلوقاته بما في ذلك الملائكة؛ منحه معرفة أسماء الأشياء والمخلوقات جميعها، وبتعبير آخر: منحه التعرُّفَ عليها والقدرة على التعلّم بالاستفادة منها، وفضّلَه على سائر المخلوقات بهذهِ الصفة، وهذه الواقعة المذكورة في القرآن الكريم من تعليم آدم عليه السلام -الإنسان الأوَّلِ- الأسماءَ والمسمّيات كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/31)، مع أنها كانت -أي الأسماء والمسمّيات- كفهرستٍ فِطْري لدى آدم عليه السلام فقد تجلَّت وتكشَّفت مع كلِّ رسولٍ جاء من بعده في إطار رسالته المرسَلِ بها، ومن خلال الاكتشافات والاختراعات التي تفضل الله بها على العلماء نتيجة سعيهم لخدمة البشرية اكتسبت كل هذه التفصيلات أبعادًا أوسع وأعمق، والمعرفةُ الموهوبة لآدم جملةً واحدةً المتفتِّحةُ فصولًا فصولًا مع الرسل من بعده والقدرةُ على تحصيلها تجلَّت تمامًا لدى سيدنا محمد ﷺ النبيِّ الخاتَمِ، ولذلك فإن تطوُّر العِلْم والتقنيَّةِ المترتّبةِ عليه تطوُّرًا عظيمًا قد تحقّقَ بعد هذا النبي الخاتم وسيظل يتحقَّق، وليس هناك فرقٌ بين أن يتحقَّق هذا على أيدي المسلمين السائرين على هَدْيه كما حدث في القرون الخمسة الأولى من الإسلام وكما سيحدث لاحقًا إن شاء الله؛ وبين أن تتحقَّق على أيدي الغربيِّين المتيقِّظين إلى العلم استفادةً من المسلمين، فالأمرُ على كلِّ حالٍ أن البركةَ الجاريةَ في عروق الكائنات منذ بعثته ﷺ وحتى قيام الساعة خاصَّةٌ به فهو النبي الخاتمُ ﷺ.

يُطلق لفظ العلم على هذه العلاقة القائمة بين الإنسان والوجود واستكشافه إيّاها وإدراكه لها.

وثـمَّةَ نقطةٌ أخرى لَمَسَها فتح الله كُولَنْ وتطرَّق إليها فيما يخصُّ العلاقة بين العلم والإنسان، وهي أن الحيوانات تبدو وكأنّها أُرسِلت إلى الدنيا وقد أودعت فيها المعلومات الضرورية لحياتها -كما أشير إليه قبل ذلك- في حين يبدو الإنسان مخلوقًا أُرسل إلى الدنيا دون أن يعلم أيَّ شيءٍ قطّ، وهو مُطالَبٌ بالوصول إلى الكمال بالتعلم والعبادة والدعاء.

شروطٌ بالغةُ الأهمّيّة بالنسبة للعِلم

أوَّلًا: يرى فتح الله كُولَنْ أنَّ اضطلاع العلم بوظيفته الحقيقية وكونه عِلمًا حقًّا، وبتعبير آخر؛ تحوُّلُ المعلومات إلى عِلمٍ نافعٍ للإنسان يُمكن أن يتحقَّق بــ”اعتماد شخصيّة وطبيعة الإنسان -الذي يُعدُّ روحَ الفكرِ العلميِّ وأساسَه- على عشق الحقيقة”، وهذا الأمر أيضًا مرتبطٌ بأن تخلو أيّةُ أعمال يُضطلَعُ بها من الطمع والمصلحة الشخصية والشهوانيّة؛ فمشاهدةُ الوجود والأشياء والتعرُّفُ عليها ومعرفتُها وتقييمها دون تفكيرٍ في أيّةِ منفعةٍ ولا مصلحةٍ هي الاسم الآخر لعِشْقِ الحقيقة، ومن يمتلكها لا يستعصي عليه أيُّ مرتقًى كان، وعلى العكس من ذلك؛ فكما أن عِشقَ الحقيقة يستحيل أن يتطوَّرَ ويتنامى في إطار حبِّ المصلحة والمنفعة، فإنه يستحيل أيضًا أن يتحقَّقَ لأن النضال في خِضَمِّ مثل ذلك النوع من الانحرافات حربٌ ضدَّ الحقّ، وطبيعي أن العِلْمَ والإنسانيّة هما المتضرِّران من هذه الحرب.

هذا العالَم كتاب مفتوح لتدبُّرِ الإنسان واستكشافه، ومَعرِضٌ قُدِّم إليه ليشاهده، بل إنه أمانةٌ أُودعت لَدَينَا ومُنِحنا حقَّ التدخُّل فيها.

ثانيًا: إن التعصُّبَ والتطرُّفَ -لا سيما التحجُّر الأيديولوجي- مانعٌ آخر من أعظم الموانع التي تعترض طريق العلمِ والعقليةِ العلميّة التي هي بمثابةِ الشرطِ له، ولا يمكن الحديث عن عشق الحقيقة أو العلم، ولا عن عشق الأخلاق والعقلية الأخلاقيّة في مجتمعٍ توجد فيه تلك الأمور؛ إذ تعاني الروح في مثل هذا المجتمع، ويضعف الفِكْرُ، وينعدم احترام القيم الإنسانية.

ثالثًا: الوجودُ دائمُ الحركة، وهو مع هذه الحركة في تطوُّرٍ دائمٍ -ليس في إطار الفهم الدارويني طبعًا-، والجمادات في هذا العالَم تُـهَـرْوِلُ نحو الحياة دون توقُّفٍ، والحياة تسير نحو الإدراك والشعورِ، ويجري تناوبُ الظلام والنور وتتابعُهما ويتعاقبُ في دورةٍ دائمةٍ، ويُشَكِّلُ أُفقًا من المعرفة يسير كلُّ شيءٍ في طبقاتٍ تعلوه، وينبغي للإنسان أن يُسَلِّمَ نفسه لشلّالٍ كهذا مدعومًا بالإرادة والوعي بسعيٍ وجهدٍ يضغطان على قدرته ومقاومته حتى النهاية، ولكن على نحو مستقلٍّ عن غيره من الموجودات، ويفيض نحو المستقبل، وهذا يعني اكتسابَ رُوحٍ مُتَابِعةٍ ومتجددةٍ دائمًا في المعرفة والفكر والتأمُّل؛ إذ يمكن الاشتغال الروحيُّ بالعِلم الحقيقيِّ على هذا النحو فحسب، ويمكن أن يُؤدِّيَ ذلك العلمُ المهمَّةَ والوظيفةَ المنوطةَ به .

**********************

[1]  فتح الله كولن، سلسلة العصر والجيل-6، أفكار في طور الاخضرار، مقال “العِلْم، صـ185-192، مجلة “سزنتي”، أبريل/ نيسان (1996م).

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن، ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ286/ 289.

ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.