يُركِّزُ فتح الله كُولَنْ في كتاباته ولقاءاته ودروسِهِ ومواعظِهِ بين الحين والآخَرِ على دَور المرأة في المجتمع، ويرى أن الإسلامَ لم يُميِّز بين الرجلِ والمرأةِ في أيِّ وقتٍ قطّ، وفي حين يشرح خلق السيدة “حواء” من ضلعِ سيدنا آدم الأعوج التي تتناقلها ألسنُ بعض الملحدين للنقدِ فحسب؛ يبين أنَّ هذا الحديث استخدمَ تلكَ العبارة للتشبيهِ، وأنه يدعو إلى حسن معاملة النساء وعدم استخدام الشِّدَّةِ تجاههن، ويَذكُرُ أنَّ كلَّ شيءٍ خُلِقَ من زوجين اثنين في الكون، وأنه لا تفريقَ في القرآن الكريم بين الرجل والمرأة في موضوع الرِّفْعَةِ والتمييز؛ إذ إنَّ الرجلَ والمرأةَ يُشكّلان فَلْقَتَي ماهية الإنسان اللتين لا تنفصِلان عن بعضهما البعض ويكمِّلُ كلٌّ منهما الآخر؛ ولذلك فإنه يستحيل الحديثُ عن وجودِ تفاضلٍ مطلق بين الرجل والمرأة خلقة.
وإلى جانب هذه الحقيقة الأساسية يُشير فتح الله كُولَنْ إلى نقطةٍ أخرى مهمّة؛ ألا وهي زَعمُ تساوي المرأةِ والرجلِ، فيرى أن مساواةً بمعنى اعتبارهما شيئًا واحدًا، وأنهما عينُ بعضهما دون إظهار أيِّ فرق، وأنهما يتمتعان بنفس الطبيعة والقيمة والأبعاد والماهية؛ يستحيل أن تكون واردة بين الرجل والمرأة أو بين رجلين أو بين امرأتين؛ لأن كلَّ فردٍ من الناس يُمثِّلُ نوعًا معيَّنًا بالنسبة لغيره من الموجودات؛ له سماتُهُ وعالمُهُ الخاصّ به؛ ولذلك فإنه يستحيل الحديث عن مساواةٍ بالمعنى المُطْلَقِ بين الناس.
ويسجل كُولَنْ هذه القاعدة الحقَّةَ أوَّلًا في قضيَّةِ تساوي الرجل والمرأة، ثم يبين انطلاقًا من قول الحق تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/49) أنَّ كلَّ شيءٍ خُلِقَ زوجين بدءًا من الذرَّاتِ إلى النباتات ومنها إلى الحيوانات والبشر، أي خُلِقَ ذكرًا وأنثى، وأنَّ كلَّ زوج من الأزواج في هذه الخلقة بمثابة مكمِّلٍ ومتمِّمٍ لِكُلٍّ واحد، إذ يُكمِّل كلٌّ منهما الآخر في العَيشِ وتأمينِ سُبُلِ الحياةِ؛ فيعينان ويساندان بعضَهما؛ فالموجِبُ محتاجٌ للسالبِ، والإلكترون مفتقِرٌ للبروتون، والليلُ للنهارِ، والمرأةُ للرجلِ، وكما أن كلَّ شيءٍ سوى الله الواحد الأحدِ ناقصٌ؛ فليس ثَـمَّـةَ شيءٌ لديه القدرة والكفاية على مواصلة بقائِهِ ووجودِهِ بمفردِهِ وبمعزلٍ عن غيره؛ فإن الرجلَ والمرأةَ الناقصين يجتمعان فيُكَمِّلانِ بعضَهما، فيشكِّلان كُلًّا واحدًا.
ولذا فإنَّ الزوجين ليسا “نِدَّينِ” ولا “متنافِسَين” مساويين لبعضهما، وإنّما هما زوجان شطران مكمِّلان لبعضِهما البعضِ، ولا يكون أحد هذين الشطرين عينَ الآخر في أيِّ وقتٍ أبدًا؛ فثمَّةَ كمٌّ هائلٌ من الفروق الفيزيائيّة والنفسيّة بينهما، غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ الرجلَ أكثرُ تطوُّرًا من المرأة من الناحية البيولوجيّة، ولا أن المرأةَ نموذج أقلّ تطوُّرًا من الرجل في هذه الناحية، وكما أن البشر لا يستطيعون التدخُّلَ في اختلاف النوع؛ فعلى الجميع أن يتخلَّى عن خيالات المساواة، ويتقبَّل المرأةَ والرجلَ بطبيعة كلٍّ منهما.
إن فتح الله كُولَنْ الذي يعبِّرُ عن تلك الفطرة هكذا؛ أي عن حقيقةِ الخَلْقِ الأساسية؛ لا يتوانى عن التحذير والتنبيه قائلًا:
“هنا لا بدَّ من توضيح أنَّ اختلاف الخلقة لدى النساء لا يقتضي استحقارَهن ولا ازدراءهن، بل العكس؛ فالحقُّ تعالى هو خالق الرجل والمرأة “في أحسن تقويم”، الهادي إياهما إلى طُرُقِ الرِّفْعَةِ والسموِّ، جاعلُ كلِّ واحدٍ منهما متمِّمًا للآخَرِ وسترًا ووقايةً له” .
ثمّ يتناول فتح الله كُولَنْ المرأةَ والرجل في إطار وظائفهما ومهامهما في المجتمع؛ فيرى أنه نظرًا لأن المرأةَ ليست هي الرجل، ونظرًا لوجود فروقٍ واختلافاتٍ فيزيائيّة ونفسيّة بينها وبينه؛ فإن هذه الاختلافات ستنعكس بالتالي على مكانتها ووظيفتها في المجتمع، ومع هذا فلا بد أوَّلًا من توضيح أن الرجل والمرأةَ مسؤولان بالشكلِ نفسِهِ إزاءَ الأوامر والنواهي الدينيّة، وهناك بعض الاستثناءات -تقتضيها الظروف البعيدة عن ساحة التدخُّل الإنسانيّ والنابعة من الخلقة والفطرة- أُعفيت المرأة في ظِلِّها من مجموعةٍ من المسؤوليات، أما بالنسبة لعدم تحميلِ المرأة بعض الأعمال الأخرى التي يضطلع بها الرجال؛ فما هذا إلا نتيجة للاختلاف الفيزيائي والنفسي لكل نوعٍ منهما عن الآخر، ولمجموعةٍ من السِّمات وهبَتْها قدرةُ الله تعالى لِكِلَا النوعين، ولا تُكلّف المرأة في المجتمعات الحديثة -بما في ذلك أوروبا وأمريكا- بكلِّ أعمال الرجال؛ ومن ذلك على سبيل المثال نُدرَةُ أن تكون المرأة حتى في الدول العظمى رئيس جمهورية أو رئيس دولة؛ ولم يحدُثْ أن تولّت امرأةٌ منصبَ رئيسِ الأركان، أو قائدِ القوات المسلّحة؛ بل إنه قَلَّ أن نجد امرأةً تعمل في منصب المحافظ، كما أنها لم تتولَّ في أديانٍ كاليهودية والمسيحية أيضًا منصبَ الكاردينال أو البابا أو كبير الحاخامات في أي وقت قطّ، ومن يُقَدِّمون المسألة تقديمًا مختلِفًا عن حقيقتها لا يُقَدِّرون المرأة قدرها أصلًا، بل على العكس إنهم يَحُطُّون من قدرها الذي خصَّها به الله تعالى .
وفي حين يمدح القرآن الكريم المؤمنين القائمين بمسؤوليَّاتهم الدينيّة والاجتماعيّة، وعلى حين يمكن استخدام ضمائر بوسعها التعبير في آنٍ واحدٍ عن النوعين بحسب خصائص اللغة العربية؛ فإنه يذكرُ النساءَ والرجالَ كلٌّ على حِدَةٍ، ويشير إلى أنه لا فرقَ بين الرجال والنساء في الأمور المشار إليها؛ فَيُحَطِّمُ بذلك ويقوِّضُ ما كان سائدًا في الجاهلية من قناعات في هذا الموضوع .
ويؤكِّد كُولَنْ دائمًا على أهمية الـمَنْزِلِ والعائلة المقدَّسَين في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم؛ إذ إنهما أول ما تتفتَّح عليه أعين الأجيال، وهما المكان الذي يحصلون فيه على أوَّلِ تربيةٍ وتعليمٍ يظلُّ مؤثِّرًا فيهم مدى الحياة، كما يتكون فيهما عالمُهم فيما دون الوعي والشعور؛
إلى جانب ما يقومان به من وظائف أخرى كأنهما مأوى الأرواح ومستراحها، وساحة لأكثر المشاعر تميُّزًا مثل الحبِّ والشفقةِ والوفاءِ والصدقِ والترابُطِ بين الزوجين والأم والأب والأطفال والإخوة والجدّ والجدة .
ولا شكَّ أن فتحَ الله كُولَنْ لا يرى حتميَّةَ جلوسِ المرأة في البيت وقضائِها جميع يومها في مطبخها، وإنما يُبَيِّنُ أنها تستطيعُ القيامَ بأيِّ عملٍ شريطةَ وضعِ طبيعَتِها وحالَتِها النفسية في الاعتبار، وأنَّ الإسلام ليس فيه من الأحكام ما يمنع ذلك ، كما يتحدَّثُ عن الحرِّيَّةِ الاقتصادية التي مَنَحَهَا الإسلامُ لها ، ولا يكتفي بهذا بل يقول: “ليست المرأة آنيةً ملطَّخَةً ولا قطعة معدن رخيص، ومحلُّها ليس محل الأواني الوسخة والمعادن الرخيصة؛ فهي جوهرةٌ نادرةٌ، لذا يجب أن تُصانَ في علبة جواهر مرصعة بالصدف” ، مُنبِّهًا إلى أنَّ وظيفةَ المرأةِ الأوليّة ليست هي عمل المطبخ؛ إذ يرى أن مهمّةَ المرأةَ بالدرجةِ الأولى هي تعليم الأجيال وتربيتها وإرشادها .
وفي حين يتحدَّثُ فتحُ الله كُولَنْ عن مكانة المرأة في الإسلام؛ يطرحُ للنظر أيضًا الثوراتِ والتغييراتِ العظيمةَ والجذريةَ التي أحدثها الإسلام فيما يتعلَّق بحقوقها .

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.