“الحوار” هو أول ما يتبادر إلى الأذهان إذا ما ذُكر اسم الأستاذ “فتح الله كولن”؛ لأنه ربما لا يوجد إنسان آخر سواء في العالم الإسلامي أو في العالم الغربي يسعى إلى إقامة حوار مع مختلف فئات المجتمع ونثر بذور المحبة والتسامح بقدر الأستاذ كولن. إن أنشطة الحوار التي ابتدرها في المجتمع التركي في فترة التسعينات التي كانت البنية المجتمعية فيها مجزأة إلى حد ما من الناحية العرقية والدينية والسياسية، قد تخطت حدود الدولة فيما بعد، وانتشرت على نطاق واسع جدًّا. وما لبثت هذه الأنشطة أن تحولت بفضل متطوعي الخدمة في الأعوام المتقدمة إلى بنية مؤسسية، وأحرزت نجاحات مهمة في هذا الصدد. فقد اجتمع المنتسبون لشعوب وأديان مختلفة على طاولة واحدة، ونُظمت برامج وأنشطة مشتركة بفضل مراكز الحوار الموجودة اليوم في مختلف دول العالم. ولا جرم أنه يكمن خلف هذا القدر من أنشطة الحوار والتسامح المتحققة على نطاق واسع، أفكار مهمة للأستاذ كولن قد صاغها بشكل نظري.
الحب كما يقول الأستاذ كولن هو أساس الحوار والتسامح. ومن ثم من الصعب جدًّا توقع أن يتسامح هؤلاء المحرومون من الحب.
تعريف الحوار وماهيته
حاول الأستاذ كولن من خلال تعليقاته وشروحه توضيح مفهومي التسامح والحوار والتأكيد على المعنى الذي يجب فهمه منهما، ومن ناحية أخرى أزال المفاهيم الخاطئة التي تحوم حول مفهوم الحوار. فقد استخدم أسلوبًا أدبيًا بليغًا إلى حد كبير عند تناوله هذا الموضوع، ورصعه بالتعبيرات والمفاهيم الجديدة. ومن ثم يجب النظر في التعريفات المتعلقة بالموضوع إلى جانب المفاهيم والتعبيرات المستخدمة حتى يتسنى فهم المقصود من التسامح والحوار فهمًا صحيحًا وافيًا.
يرى الأستاذ كولن أن الاحترام والرحمة والإحسان والتسامح هي ركائز أساسية في الأنظمة الأخلاقية، ومبادئ روحية يمكن اعتبارها منبعًا أساسيًا لأخلاق الإنسان الكامل وجميع الأنظمة والمبادئ الأخرى. فهو يعرض معنى أكثر شمولية وعمقًا إلى حد كبير لكلمة التسامح من خلال تعليقاته هذه:
إن أعظم هدية يقدمها أجيال اليوم إلى أبنائهم وأحفادهم هي تعليمهم العفو حتى في مواجهة أكثر السلوكيات فظاظة وأشد المواقف والحوادث قبحًا واشمئزازًا.
“يجب أن يكون التسامح هو حصننا الحصين وقلعتنا المنيعة وسلاحنا الأشد تأثيرًا تجاه العوائق التي تسببها الفروق والاختلافات وصعوبات التفاهم المحتمل أن تقطع طريقنا على رأس كل زاوية عند سيرنا نحو المستقبل كأمَّة: فإن دائرة التسامح واسعة لتشمل في طياتها التغاضي عن العيوب، واحترام الرأي الآخر، والعفو عن كل ما يمكن العفو عنه؛ حتى عند انتهاك حقوقنا التي لا مراء فيها لا نسعى إلى “إحقاق الحق” معلين من شأن القيم الإنسانية السامية؛ والرد على أشنع الأفكار وأقبح الرؤى التي لا يمكن مشاركتها بتمكين نبوي، ودون سخط، و”بقلب لين، وحال لين، وفعل لين” بشعار “قول لين” الذي نفذ القرآن من خلاله إلى القلوب؛ حتى إن بعض الأفكار المخالفة تكون مفيدة -حتى وإن لم تخبر هي أو تداعياتها بشيء بشكل مباشر- باعتبار أنها تجبر حياتنا القلبية والروحية والوجدانية صرفًا إلى الإصلاح والتعمير كثيرًا”.
كما عرَّف الأستاذ كولن الكلمة الغربية “Tolerance” التي تقابل كلمة “التسامح” بـ: “التغاضي عن الأمور غير المرضية برحابة الإيمان والوجدان وسعة الصدر أو استيعابها بقوة المشاعر”. ومن ثم فإنها وإن كانت تقترب في المعنى من التسامح إلا أنهما ليسا سواء.
لا يجب أن يقدم المسلم أية تنازلات فيما يتعلق بأوامر الدين بسبب التسامح والحوار؛ فليس من الصواب أن يترك الفرائض أو الواجبات أو السنن.
و”الحوار” عند كولن هو عبارة عن اجتماع فردين أو أكثر على أرضية مشتركة مهما كانت الأفكار التي يتبنونها، ويتحدثون في موضوعات محددة ويستمع كل منهم إلى الآخر في جو يسوده الصراحة وحسن النية واحترام الآخر؛ ومن ثم سيتمكن كل منهم من التعرف على الآخر بنفسه، ويتمازجون معًا. فلا يصح في الحوار أن يحاول أي طرف أن يرغم الطرف الآخر على أن يتقبل فكرته، أو ينتظر أن يعدل الطرف الآخر عن فكرته ومعتقده. على الشاكلة نفسها فإن التزام الأطراف المشتركة في الحوار باحترام مشاعر وأفكار بعضهم بعضًا لا يعني ألبتة أنهم مجبرون على التنازل عن مفاهيمهم الدينية أو تقبل أفكار الطرف الآخر.
كما عبر الأستاذ كولن عن أن عبارة “احترام الموقع” هو تعبير يحمل أيضًا معنى أكثر عمقًا بخلاف التسامح والحوار؛ لأنه يتضمن أن المخاطب إنسان مهما كان دينه أو عرقه أو معتقده، والإنسان جدير بالاحترام. ومن ثم فإن المعنى الذي يقصده كولن من “احترام الموقع” هو احترام الإنسان والقيم الإنسانية على حد سواء. فضلًا عن أنه يرى أن احترام الموقع يتضمن في الوقت نفسه احترام المعتقد. لأن القيم التي يؤمن بها الفرد ويعتقد بصحتها هي جزء لا يتجزأ من شخصيته.
على الرغم من أن مساعي كولن من أجل إقامة الحوار قد لاقت بشكل عام تقديرًا من الأغلبية العظمى من المجتمع، فإنها قد واجهت أحيانًا بعض الانتقادات.
وقد أورد الأستاذ كولن عبارات مختلفة حول التسامح والحوار التي تعكس نظرته إلى احترام الموقع في العديد من مؤلفاته، ومنها: “الاجتماع حول قيم عالمية”، “تبادل الخبرات البشرية”، “الاتفاق على قيم مشتركة”، “تأسيس جسور الصداقة”، “المساهمة في السلام العالمي”، “خلق جو من السلام العام للإنسانية”، “بناء عالم قائم على الحوار وخال من النزاعات والشقاقات”، “قبول كل فرد في موقعه الخاص به”، “احتضان الجميع دون إهمال أي فئة في المجتمع”، “الاقتراب من الجميع ومن كل شيء بدافع الحب”، “استخدام قوة الحب الخفية والسحرية لصالح البشرية”، “عدم جعل الاختلافات سببًا للانشقاقات”، “احترام حقوق الإنسان وحرياته، ودعم جميع مسارات الديمقراطية”، “احترام الإنسان الذي هو تجلٍّ لـ”أحسن تقويم” لإنسانيته فحسب”، “تهيئة مقعد يمكن للجميع أن يتربعوا عليه في القلب، وعدم التسبب في شعور أحد بالقلق حيال بقائه واقفًا دون مكان له”، “الاعتراف بأحقية الجميع في الاستفادة من الحقوق نفسها”، “التعامل مع الضارب بدون يد، ومع القاذف بدون لسان، ومع كاسر القلب بدون قلب”، “ضرورة تأسيس علاقة إنسانية مع كل الفئات، والعثور على أرضية مشتركة دون النظر إلى الهوية الدينية والعرقية”…
إن الأستاذ فتح الله كولن يرى أن أكثر الأشياء احتياجًا إليها اليوم هو إذابة الحقد والعداوة في بوتقة التسامح.
أسس الحوار
وعلى الرغم من أن مساعي كولن من أجل إقامة الحوار قد لاقت بشكل عام تقديرًا من الأغلبية العظمى من المجتمع، فإنها قد واجهت أحيانًا بعض الانتقادات. ينتقد بعض المتدينين لقاءه بالمنتسبين إلى أديان مختلفة؛ ادعاءً بأن هذا يخالف الدين الإسلامي، وانتقد بعضهم الهدف الذي يبتغي الوصول إليه بالحوار. لذا فإنه من الفائدة التوضيح بشكل موجز سببَ الحاجة إلى الحوار، والأسسَ الشرعية التي يستند عليها، وأهمية الحوار في ظل ظروف عصرنا، معتمدين في هذا كله على تصريحات كولن شخصيًّا.
بادئ ذي بدء يجب التأكيد على أنه يكمن في أساس فكرة الحوار عند كولن هو تصوره ورؤيته للإنسان. فالإسلام يعتبر الإنسان مخلوقًا مكرَّمًا ومشرَّفًا ومحترمًا قد خُلق في أحسن تقويم، ويجب تقديره واحترامه. ولا سيما أن الله تعالى قد شرفه بمرتبة الخلافة، وسخر له كل الموجودات والأشياء، وأودعه حق التصرف في المخلوقات، وأوجد الكون بأسره من أجله وخلقه بشكل يتناسب مع نفعه ومصلحته، ومن هذا المفهوم نجده يقف لجنازة تمر من أمامه، فأخبروه بأنه يهودي، فقال : “أَلَيْسَتْ نَفْسًا”. فإن كل إنسان يحوز هذا القدر والشرف بالفطرة. ولذا وجب احترامه وحبه.
إن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لتصحيح القناعات الخاطئة التي نعرفها عن الآخرين، ووسيلة كذلك نتمكن من خلالها من تعريف أنفسنا للآخرين بشكل صحيح.
ولقد عبر الأستاذ كولن عن أن احترام الإنسان بسبب هذه المكانة السامية التي يحوزها، وحبه صرفًا لأنه إنسان، لهو تعبير عن حب الخالق U. كما يقول إن الحب والاحترام الموجه لمن يشاركون الإنسان نفس القيم والأفكار فحسب ليس بالحب والاحترام الصادق والإنساني، بالعكس، إنه تعبير عن الأنانية وتأليه النفس. لهذا يجب أن يبني معماريو المستقبل العالم الذي سيشيدونه على أساس يقوم على حب الإنسانية واحترام الإنسان ظاهرًا ومعنى.
ومن ناحية أخرى فقد عبر كولن في مرات كثيرة عن أن الإسلام هو منبع مفهوم التسامح والبحث عن الحوار. فكما أن هناك آيات كريمات كثيرة في القرآن الكريم تدعو المسلمين إلى التسامح وإقامة الحوار مع الآخرين، فإن هناك أيضًا أمثلة لا حصر لها من حياة رسولنا الكريم . وبرهن كولن بحوادث كثيرة على مكانة الحوار في حياة المصطفى من قبيل استقباله نصارى نجران في المسجد، وتوقيعه صلح الحديبية مع المشركين رغم بعض التنازلات والبنود المجحفة التي بدت وكأنها ليست في صالحه، وعقده وثيقة المدينة التي أمَّنت الحريات والحقوق الأساسية لليهود والمشركين، وتأكيده مرة أخرى بعد مرور عشر سنوات على هذه الحقوق الأساسية في خطبة الوداع، وذهابه مرات كثيرة إلى مشركي مكة كأبي جهل والحديث إليهم، وإرساله الكتب إلى جميع رؤساء القبائل والدول.
وبحسب كولن فإنه كما أن رسول الله قد بحث عن سبل الحوار مع غير المسلمين طول حياته السنيَّة، فإن الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم من القادة المسلمين أمثال صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي والسلطان محمد الفاتح وبايزيد الثاني قد اقتفوا أثره في هذا الشأن. فعند النظر في التاريخ فلن تجد المسلمين في أي موضع قد هدَّموا أو خرَّبوا معابد غير المسلمين، بالعكس، فإنك سترى الكنيسة والكنيس والمسجد قد استمر وجودهم جنبًا إلى جنب؛ وأنهم لم يعتدوا على حقوقهم، ولم يقيدوا حرية فكرهم واعتقادهم.
كما عبر الأستاذ كولن عن أنه عندما سُلبت الأقليات الذين كانوا يعيشون تحت وصاية المسلمين حقوقهم الأولية هذه من قبل قوات احتلال أخرى عرفوا قيمة الحقوق التي كان المسلمون يكفلونها لهم.
وفي النهاية فإن كولن يرى أن السلام والحب والشفقة والأمن والعفو والبر والتسامح والحوار هي ركائز أساسية في الإسلام. وكما أن اسم الإسلام يعبر عن هذا من حيث معنى الجذر الذي اشتق منه، فإن هذه القيم الأخلاقية يتم التأكيد عليها بإصرار في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. كما أن رسول الله قد تعامل بقدر كبير من الرحمة والشفقة حتى مع الحيوانات ناهيك عن البشر، وكان يتأذى لأي أذى ولو صغيرًا يتعرضون له، وقد نبَّه من حوله إلى هذا الأمر.
وفي هذه الحالة فإن من لم يتناول الدين بدقائقه هذه لم يفهم الإسلام بحق، ولم يبلغ ولم يمثل الإسلام بالشكل الصحيح. فضلًا عن أنه من لم يمثل ويبلغ هذه القيم الإسلامية لا يمكن أن يكون مسلمًا حقيقيًّا. ومن هذا المنطلق فإن الأفعال المتشددة والعدائية التي تنبع عن انحراف الأفكار المختلفة من بعض الأفراد أو الجماعات المتطرفة التي لم تتمكن من فهم هذه المفاهيم الدقيقة في الدين، واستيعاب الإسلام بمفهومه الكامل لا يمكن أن تُنسب إلى الإسلام. والحاصل أن التسامح والحوار هما أسلوب فكر إسلامي، وأن الأنشطة المتحققة باسم الحوار هي عبارة عن انعكاس هذا الفكر على أرض الواقع.
أهمية الحوار في يومنا الحاضر
على الرغم من تصريح فتح الله كولن بأنه لم يكن هو من بدأ أنشطة الحوار والتسامح بنفسه وإنما هي قيم مطبقة منذ مطلع التاريخ الإسلامي، فمن المحتمل أن التسامح والحوار لم يُفسرا بهذا القدر الثري في أي مرحلة مرَّت من مراحل التاريخ، ولم يجدا الفرصة للتطبيق على نطاق واسع كهذا. يريد كولن بخطاباته وتطبيقاته أن يرسخ الحوار في عالمنا الحاضر على أسس عالَم متعدد الثقافات، وكأنه يتوقع مواطنة في عالم بلا حدود.
أصبح عالمنا اليوم مختلفًا جدًّا عن العهود السابقة نتيجة الحداثة؛ فقد بدأت الحدود تختفي مع العولمة، وأصبحت هناك قيم مشتركة في جميع أنحاء العالم بتطور وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن مع هذا فإن التطور التقني والتكنولوجي قد كشف عن أسلحة دمار شامل، أصبحت تشكل تهديدًا كبيرًا على الإنسانية جمعاء. وقد ظهر اليوم بتأثير فلسفة التنوير نماذج أفراد ومجتمعات ودول جديدة، وأعيد تشكيل العلاقات والتوازنات بين الدول. لقد أصبحت التعددية والعلاقة مع الآخر من أهم الموضوعات وذلك تزامنًا مع بدء المنتسبين إلى أديان وأعراق وثقافات مختلفة في التمتع بحقوق متساوية كمواطني نفس الدولة. وعلى الشاكلة نفسها بدأت المجتمعات الأقلية والمهاجرون مع موجة الهجرة الكبيرة المتحققة في القرن الأخير تشكل كتلة مهمة في البلدان، وظهرت مشكلة التكامل والاندماج.
وبحسب الأستاذ كولن فإن كل هذه التطورات والتغيرات المعيشة في يومنا الحاضر -كما ذكرنا بإيجاز- تجعل التسامح والحوار ضرورة ملحَّة. لا جرم أن التأثير الجاد لرسالة “صراع الحضارات” التي طرحها هنتنغتون في العالم الغربي، وكذلك محافظة الثقافات المحلية على وجودها رغم كثرة المواقف القمعية للحداثة، والتعبير عن نفسها، وكذلك استخدام لغة الكراهية تجاه الآخر في مواضع مختلفة بتأثير العداوة والخوف الموروث من الماضي والنزاعات والصراعات المتحققة في عدة مجالات في الحياة قد أثبتت صحة ما قاله كولن.
وبما أنه ليس من الممكن أن تعيش أي أمة أو جماعة بمعزل عن العالم في عالم زادت فيه العولمة تأثيرها بأقصى سرعتها فهناك احتمالان: أولهما أن تكون هناك علاقة قائمة على الصراع والعنف بين منتسبي الأديان والأمم المختلفة كما قال هنتنغتون؛ ثانيهما أن تسود علاقة تقوم على الحوار الذي يقوم في أساسه على الحب والاحترام والصلح والتسامح والتعاون المشترك. ومن ثم فإن كولن يرى أنه يجب ترجيح الشق الثاني من الاحتمالين بالتأكيد في عالم اليوم الذي يمتلك أسلحة فتاكة مخيفة، وأن يُؤسَس صلح عام على مستوى العالم. ولا يتأتى تحقيق ذلك إلا من خلال قبول جميع الاختلافات واحترامها بشكل طبيعي. وإلى جانب هذا يجب نسيان الحوادث السلبية المعيشة في الماضي، وإعطاء أولوية للقيم المشتركة بدلًا من القضايا الجدلية التي لا طائل منها. وإلا فسيكون التهام العالم نفسه في شبكة الصراعات والنزاعات والمشاجرات والحروب الأكثر دموية واستعداده لنهايته نتيجة حتمية لا مناص منها.
أهمية الحوار ومميزاته
أكد كولن على أهمية أن يجتمع الناس في كل فرصة ويتعارف كل منهم على الآخر. وقد بيَّن القرآن الكريم أن الله Y قد خلق الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا ويتقاربوا ويتفاهموا. لأن السبيل إلى تخلص الناس من الحكم المسبق والقضاء على مخاوفهم تجاه بعضهم بعضًا مرهون بهذا. فالموضع الذي لا يكون فيه تعارف يكون فيه “تصور”. والتصور هو في الغالب عبارة عن أفكار وظنون في أذهان الناس بشأن الآخرين. ومن ثم فإنها في أغلب الأحيان لا تعكس الحقيقة. ذلك أن النزعة العامة لابن آدم هي أن يرى نفسه “جيدًا” والآخر “سيئًا”. لذلك يكون من الصعب دائمًا تقييم الطرف الآخر بإنصاف وعدل. وربما أُطلقت عبارة “الإنسان عدو ما يجهل” لهذا السبب. وهكذا فإن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لتصحيح القناعات الخاطئة التي نعرفها عن الآخرين، ووسيلة كذلك نتمكن من خلالها من تعريف أنفسنا للآخرين بشكل صحيح.
وإضافة إلى هذا، فكلما تعرف الناس على بعضهم بعضًا عن طريق الحوار زالت الحدود والفجوات المصطنعة من بينهم؛ وحِيل دون كراهية الأجانب والغرباء، والراديكالية المتصاعدة، والإرهاب والنزاعات المحتملة؛ وستزول كذلك الشعارات والادعاءات والتوصيفات الباطلة والأفكار السلبية المترسخة، وبالتالي يصير العالم أكثر ملاءمة للعيش، ومكانًا أكثر أمنًا واستقرارًا. لهذا السبب فإن الأستاذ فتح الله كولن يرى أن أكثر الأشياء احتياجًا إليها اليوم هو إذابة الحقد والعداوة في بوتقة التسامح.
من ناحية أخرى يوصي كولن متطوعي الخدمة المنتشرين في ربوع العالم من أجل التعليم والحوار بأن يبادلوا من تعرفوا إليهم ومن جذبوهم إلى الحوار الثقافة والمعرفة. لأنه يرى أن كل ثقافة وحضارة لها بعض الجماليات والقواسم الخاصة بها. وهكذا فإذا اجتمع منتسبو الأديان والثقافات المختلفة على أرضية مشتركة وتعرف بعضهم إلى الآخر، فسيتقاسمون حتمًا القواسم والجماليات التي يرونها عند بعضهم الآخر.
من المعلوم أن عالمنا اليوم مقسم بشكل مصطنع إلى قطبين، شرق وغرب أو إسلامي ومسيحي. وهناك بين كلا القطبين منذ قديم الزمان مشادات وعداوات مستمرة. فبينما يشتكي العالم الإسلامي -عن حق- من أن الغرب يسيء فهم الإسلام ويصوره على أنه دين الرجعية والعنف والإرهاب، يشكو الغربيون أيضًا من أن المسلمين “أعداء الغرب” ولا يمكنهم تبني القيم الغربية الحديثة.
عبر كولن في مرات كثيرة عن أن الإسلام هو منبع مفهوم التسامح والبحث عن الحوار.
وفي هذا الصدد لفت كولن الأنظار إلى أن الحوار هو الطريق الوحيد لتعبير كلا الطرفين للآخر عن نفسه بشكل صحي، فيقول: “إذا كنت تريد أن تعبر للناس عن شيء من الحقائق التي تؤمن بها وتتبناها، فيمكنك فعل ذلك وجهًا لوجه في ظل الزمان والظروف التي تكون فيها قريبًا من مخاطبك، وليس في ظل الظروف والزمان التي تولي فيها ظهرك له”. وبتعبير آخر إذا أردنا أن يتخلص الناس من القناعات الخاطئة التي يعتقدونها بشأننا، وأن نبين لهم أن السلبيات التي تقلقهم بشأننا ليست فينا، وجب علينا أن نقابلهم، ونتقرب إليهم، ومن ثم نمنحهم الفرصة للتعرف علينا عن كثب بكل أحوالنا.
حدود الحوار
أكد فتح الله كولن على ضرورة مراعاة بعض الحدود المتعلقة بالقيم الدينية التي يمتلكها الشخص القائم بالحوار والشخص الذي سيتحاور معه أو المجموعات والغاية المرجوة من الحوار. فهو يرى بداية أنه لا يجب أن يقدم المسلم أية تنازلات فيما يتعلق بأوامر الدين بسبب التسامح والحوار؛ فليس من الصواب أن يترك الفرائض أو الواجبات أو السنن. فإن اقتناع الطرف الآخر به في الحقيقة مرهون بتمسكه بقيمه الخاصة وتطبيقه لها بحساسية إلى أن يصل إلى آدابها وأصولها. ومن ثم فإنه على حد قول مولانا جلال الدين الرومي: إن قلبي مثل الفرجار، رجل ثابتة في أرض الشريعة والأخرى تدور على اثنتين وسبعين ملة، أي إن الحوار سيكون مفيدًا بالنسبة له إذا كانت تحركاته مقيدة بجوهر الدين؛ وإلا حدثت له انزلاقات.
يجب أن يبني معماريو المستقبل العالم الذي سيشيدونه على أساس يقوم على حب الإنسانية واحترام الإنسان ظاهرًا ومعنى.
وقد عبر كولن بضرورة أن يكون المسلم متزنًا ومنضبطًا دائمًا في كل أقواله وأفعاله، فيوضح أنه من المهم للغاية أن يعرف المسلم من هو المستحق والجدير بالتسامح. فمع أنه يعتقد بضرورة أن يحترم الإنسان الجميع باعتبار أنهم بشر ويتسامح معهم، فإنه يرى في الوقت نفسه أنه لا يجب قبول الصفات السيئة من قبيل ظلم الناس والقذف والكذب والغش أو التسامح معها.
كذلك بيَّن كولن أوصاف الناس الذين هم جديرون بالحب والاحترام. فهو يرى أن الرحمة بأفعى الكوبرا فعل مستهجن يخالف الرحمة نفسها، واعتداء على حقوق الآخرين. فإن التعاطف والتودد إلى الظالمين والمعتدين يدفعهم إلى مزيد من الظلم والاعتداء. لذا يجب ألا يتسامح مع هذا النوع من الناس الذين يهددون القيم الإنسانية العالمية، ويعرضون مستقبل الإنسانية للخطر، ويدمرون القيم المعنوية والقومية. والحقيقة أنه لا حق لأحد في أن يتسامح مع أي شخص في موضع يمس حقوق الآخرين. فربما يكون الخير الأكبر الذي تقدمه لهم هو نهيهم عن الظلم الذي اعتادوا عليه وألفوه.
أساس فكرة الحوار عند كولن هو تصوره ورؤيته للإنسان. فالإسلام يعتبر الإنسان مخلوقًا مكرَّمًا ومشرَّفًا ومحترمًا قد خُلق في أحسن تقويم، ويجب تقديره واحترامه.
وإلى جانب هذا فإنه على الرغم من أن كولن يرى أهمية محاولة تحقيق توافق في الآراء بين من يشاركون في الحوار، فإنه لم يجد توقعات الالتحاق أمرًا صائبًا، يقول: “إن تحقيق التوافق في الآراء مرهون بتفعيل أساس التفاعل. والسر يكمن في قبول الجميع كما هم. خلاف هذا فإنه يعني أنه توقع للالتحاق بمظهر توافق في الآراء. أي إنك تقول من ناحية لنجلس ونتحدث ونصل إلى نقطة توافق على القيم التي نتشاركها؛ ومن ناحية أخرى تقولون تعالوا إلى بيتنا ولنتفق على فكرتنا. لا، هذا التحاق وليس توافقًا في الرؤى. هذا نوع من التمثيل والتشبيه. هذا يعني دعوة الآخرين إلى التخلي عن هويتهم وأن يصبحوا “نحن”. وهذا نوع من الادعاء والأنانية. فإن فعله فرد فهو أنانية فردية، وإن كانت جماعة فهي أنانية جماعية، وإن كان مذهب فهي أنانية مذهبية”.
متطلبات الحوار
تناول فتح الله كولن بعض النقاط التي تجعل الحوار صحيًّا ومثمرًا لجميع الأطراف. فهو يرى أن أول ما يجب فعله في هذا الصدد هو عدم التسبب في نقاط خلاف جديدة، وذلك بنقل المشكلات المتنازع عليها في الماضي إلى يومنا الحاضر. لهذا السبب يجب أن تُدفن المساوئ التاريخية في الماضي، والعمل على نسيانها، وأن يركز بعدها على الأنشطة المثمرة التي يمكن فعلها. وإلا فليس من المنطقي ولا المعقول أن نخرب حاضرنا بمشاعر الانتقام الموروثة من ماضٍ خرب بالفعل.
ثانيًا، من غير المجدي أن نتوقع من أولئك المفعمين بالكراهية والعداء تجاه بعضهم بعضًا أن يُقام بينهم حوار صحي. لذا كان من المهم جدًا لكلا الطرفين أن يتمتعا بالمقدرة على العفو عن أخطاء وقصور بعضهما بعضًا إن وجدت. ويجب أن تكون كلمات الأستاذ كولن هذه بشأن العفو معيارًا مهمًّا في هذا الصدد:
“الحوار” هو أول ما يتبادر إلى الأذهان إذا ما ذُكر اسم الأستاذ “فتح الله كولن”؛ لأنه لا يوجد إنسان في العالمين الإسلامي أو الغربي يسعى إلى إقامة حوار مع مختلف فئات المجتمع ونثر بذور المحبة والتسامح بقدر الأستاذ كولن.
“لقد أصبح القرن أو القرنان اللذان خلفناهما وراءنا من أقذر وأسوأ العصور بسبب مساوئ من لا يعفون ولا يتسامحون. ولا يتمالك الإنسان نفسه من أن يخالجه شعور بالخوف والقلق كلما تخيل أن هؤلاء التعساء سيحكمون المستقبل. لذلك فإن أعظم هدية يقدمها أجيال اليوم إلى أبنائهم وأحفادهم هي تعليمهم العفو حتى في مواجهة أكثر السلوكيات فظاظة وأشد المواقف والحوادث قبحًا واشمئزازًا. فنحن نؤمن بأن التسامح والعفو جديران بشفاء معظم جراحنا”.
وأخيرًا فإن الحب كما يقول الأستاذ كولن هو أساس الحوار والتسامح. ومن ثم من الصعب جدًّا توقع أن يتسامح هؤلاء المحرومون من الحب. فهو يرى أن الله Y لم يخلق وسيلة ارتباط أقوى من الحب فيما يخص ارتباط الناس بعضهم ببعض. الحب هو مصدر قوة سحرية تأسر وتجذب القلوب بشكل لا يمكن مقاومته. فإن شعور القلوب بالأعماق الرحبة للإنسان لا يتأتى إلا بالحب. لهذا السبب فإنه من الصعب جدًّا على الأرواح التي لا تعرف الحب أن تنضج وتتحلى بالقيم الإنسانية. وليس من الممكن للأرواح النيئة/الخام التي تعيش بعيدًا عن القيم الإنسانية أن تخطو خطوة واحدة نحو التسامح والحوار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
من الفائدة بمكان توضيح: أن الحوار والتسامح هما في الحقيقة رؤية لجميع رجال الخدمة الذين ينهلون مورد كولن العذب، وهي مسألة يحملون هم تطبيقها في كل فرصة. وتعمل جميع مؤسسات الخدمة في الأصل على تنفيذ أنشطة الحوار وفق ظروفها.
قد جُمعت أفكار الأستاذ فتح الله كولن حول التسامح والحوار في كتاب بعنوان “الحب في جوهر الإنسان”.
Fethullah Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 29-30.
Fethullah Gülen, Kendi Ruhumuzu Ararken, s. 76.
Fethullah Gülen, İnsanın Özündeki Sevgi, s. 155; Cemre Beklentisi, s. 77, 195; İkindi Yağmurları, s. 238; Prizma, 3/118.
Fethullah Gülen, Cemre Beklentisi, s. 76-77; Sükûtun Çığlıkları, s. 37; Cemre Beklentisi, s. 77.
انظر: سورة التين (95/4)، وسورة الإسراء (17/70).
صحيح البخاري، الجنائز، 50؛ صحيح مسلم، الجنائز، 81.
Fethullah Gülen, Yenilenme Cehdi, s. 163-164;
Fethullah Gülen, Çağ ve Nesil, s. 43.
Bkz. Ali Can, Kur’ân’da Ehl-i Kitapla Diyalog, Yeni Akademi Yayınları, İzmir, 2011.
Bkz.İbrahim Canan, “Peygamberimizin Ehl-i Kitapla Diyaloğu”, Diyaloğun Dinî ve Tarihi Temelleri, Işık Yayınları, İzmir, 2006.
انظر: أحمد بن حنبل، المسند، 4/173.
Mehmet Gündem, Fethullah Gülen’le 11 Gün, s. 200; Fethullah Gülen, Prizma, 2/36; Prizma, 3/211-214; Fasıldan Fasıla, 2/178; Fasıldan Fasıla, 3/98-99; Gurbet Ufukları, 70-76.
Fethullah Gülen, İnsanın Özündeki Sevgi, s. 225; Yenilenme Cehdi, s. 256.
سورة الحجرات، 49/13.
Fethullah Gülen, Fasıldan Fasıla, 2/110-111.
Fethullah Gülen, Yolun Kaderi, s. 41.
Fethullah Gülen, Cemre Beklentisi, s. 79-80.
Fethullah Gülen, Cemre Beklentisi, s. 79-80.
Fethullah Gülen, Kendi Ruhumuzu Ararken, s. 76, Fasıldan Fasıla, 2/112.
Fethullah Gülen, Fasıldan Fasıla, 2/91.
Fethullah Gülen, Prizma, 3/70-71, 205.
Fethullah Gülen, Fasıldan Fasıla, 2/179.
Nuriye Akman, Gurbette Fethullah Gülen, s. 67.
Fethullah Gülen, Çağ ve Nesil, s. 71.
Nevval Sevindi, “Röportaj”, Yeni Yüzyıl Gazetesi, 20-29 Temmuz 1997.
Fethullah Gülen, Işığın Göründüğü Ufuk, s. 47-49; Yeşeren Düşünceler, s. 121