من أهم الديناميات في حركة وعمل فتح الله كُولَنْ الهمُّ الدائم؛ إذ يبدو كما يرى البعضُ وكأنه خميرةُ وجودِهِ، فهو باعتباره ناذِرًا نفسَهُ لعبوديَّةِ الله ورضاه، وبالتالي لإبلاغِ اسمِهِ تعالى للجميع في هذا الإطار؛ وبالنَّظَرِ إلى الغاية الساميةِ التي تبنّاها وهي: أن يتحقَّقَ إيمانُ الناس جميعًا -إن أمكنَ وشاءَت الإرادةُ الإلهيّةُ- كي يدخلوا الجنة ويتخلَّصوا من النار؛ وأن تظهرَ “الجنّةُ المفقودة”، وأن يتكوّنَ عصرٌ ذَهَبيٌّ في آفاق الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة للبشر، فيتحلَّى الجميع بالفضائل ليعيشوا حياةً سعيدةً؛ إنّه باعتبارِ ذلك كلِّه إنسانٌ مهمومٌ، إنّه الشخصيّة التي خالطَ وجودَها الهمُّ الدائم تمامًا، وكما يرى هذا الأمرَ ويشاهدُهُ من يعرفونَهُ عن قُرْبٍ ولو معرفةً قليلَةً؛ فإن النَّظَرَ ولو بشكلٍ عابرٍ في كتاباته، واستماعَ أحاديثه ولو عابرًا سيُمَكِّنُ من رؤية حجمِ المكان الذي يحتلُّهُ الهمُّ في حياته.
إن الهمّ الذي لا ينقطع في رأي كُولَنْ هو السبيلُ الأمثل للوصول إلى الأهداف السامية وتحقيق النتائج العالية، وإن الهمّ ليُنقِّي المسافِرَ الذي يَنشُدُ الحقيقة ويُصفِّيه من الذنوب؛ فيصفو به ويَصِلُ إلى جوهَرِهِ تحتَ تأثيرِه، ولا يمكن الحديث عن النضج والتكامل مع الرُّوح حيث لا يوجد الهمّ؛ فالروح تبلُغُ الكمالَ به، والقلبُ يُكتَشَفُ بواسطته، والأرواحُ التي لم تَتَعَرَّضْ للمِحَنِ غِرّةٌ، والقلوبُ كذلكَ مهيضةُ الجناحَين.
إن المحن تزيدُ وتُضاعِفُ قيمةَ وأَجْرَ العمل وما يُتحصَّلُ عليه عبرَها، أما ما نِيلَ دون محنٍ ومعاناة فمثله مثلُ المالِ الموروث، فما جاء دون كدٍّ وجدٍّ؛ ذهبَ غير محزونٍ عليه ولا مأسوف، غير أن التضحية بالأرواح والأنفس تكون من أجل الحفاظ على الأشياء المكتسَبَةِ بالتعرُّضِ لكثيرٍ من المعاناة والمِحَنِ… فإن تأسَّسَتْ أمَّةٌ وحضارةٌ تحت ريادة كبار المهمومين والممتَحَنين؛ كانت صحيحةً ومستقرَّةً تُبَشِّرُ بمستقبلٍ واعدٍ، وإن كان العكسُ بأن وُلِدَتْ وتطوَّرَتْ على أيدي من لم يَبْكِ ولم يتألَّم ولم يعانِ الألمَ ولو مرةً واحدةً في حياته فهي منحوسةٌ مرشَّحَةٌ للضياع والزوال، ولا يُنتظر ولا يُتوقَّعُ أيُّ نوعٍ من التضحية والفدائيّة مِنَ الأشخاص الخالين من المِحَنِ الذين لم يُعانوا الجوعَ والعَطَشَ في سبيل ما يملكونه من أشياء ولو مرة واحدة، ولم يتعرَّضوا لما تقتَضِيهِ مرحلةٌ معيَّنَةٌ من هزَّاتٍ ومِحن، ولا مِنَ الأنفُسِ والأرواحِ الغرَّةِ التي قَضَتْ عمرَها في أدناسِ وأقذارِ المادَّةِ والدَّعَةِ، كما أنه لا يمكن الحديث عن وجود حركةٍ وعملٍ صحيحَين حيث لا يوجدُ الهمّ والتضحية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.