إن انتقاد كولن للنظام التعليمي الموجود في تركيا المعاصرة يُظهر -في أحد جوانبه- أنه لا يقدم اعتراضًا شاملًا على العلوم العصرية، ولا يقدم قيمًا تقليديةً متزمتة، ولا يبدي حنينًا إلى العودة إلى الأنماط العثمانية. فانتقاده للمدارس والتكايا يرتكز بشكل دقيق على أساس أنها لا تفي بمتطلبات الحياة الحديثة. ولا تُعِد الطلاب ليقدموا مساهمة نشطة وإيجابية في الحياة المعاصرة؛ لأن مناهجها التربوية لم تقم بدمج تطورات العلم والتكنولوجيا داخل المناهج التقليدية التي تدرس في تلك المدارس، ولذلك فقد يكتسب الطلاب معرفة دينية جيدة أو مبادئ أخلاقية حميدة إلا أنهم لا يملكون القدرة على الوصول إلى المناصب المؤثرة التي تستطيع معرفتهم ومبادئهم الأخلاقية إحداث تغيير بواسطتها في المجتمع المعاصر.

وعلى الجانب الآخر، يبين كولن في نقده للمدارس الحكومية العلمانية والمؤسسات الأكاديمية أنها تفصل المعرفة العلمية الحديثة عن المهارات الفنية، ومن جانب آخر يقول: إن تلك المدارس لم تنجح في نقل القيم “الروحية” والأخلاقية التي حفظتها المناهج الإسلامية ونقلتها. فقد ينجح الطلاب الذين يتخرجون من تلك المؤسسات التعليمية في الحصول على عمل في المجالات الفنية والمهنية إلا أنهم يفتقرون إلى المعنى الذي يعملون من أجله، وإلى الرؤية من أجل إنشاء عالم، وإلى الانضباط الذاتي الذي يؤهلهم لرفض الإغراءات الحتمية، مثل القوة والطمع والأنانية، بشكل فعال.

المشكلة الأصلية واحدة في كلتا الحالتين -المدارس الدينية والتكايا من جانب، والمدارس الحكومية والمؤسسات الأكاديمية من جانب آخر- وهي غياب التكامل: تكامل الحديث والقديم، العصري والتقليدي، المعرفة العلمية والدينية، المهارات الفنية وتكوين الشخصية. ونتيجة هذا النقص في التكامل هي حدوث أزمة داخل المجتمع، وتشرح الباحثة الاجتماعية الدكتورة “نيلوفر كُولَه” هذه الأزمة فتقول:

“نحن الذين عشنا في تركيا خلال العشرين سنة الأخيرة عانينا حالة من الصدمة، فقد ظللنا نتأرجح جيئة وذهابًا بين الرغبة في مواكبة العصر الحديث ومعرفة أنفسنا، حائرين وسط الطموح والغضب والإثارة، نحاول أن نفتح بأيدينا طريقًا بين روحنا والعالم، نقاتل من أجل هويتنا غير الرسمية ومخططنا غير الواضح. وطالما لم تربط تركيا ماضيها بمستقبلها، وتقاليدها بالحداثة، ونفسها بالعالم، فسوف تظل غير مستقرة. والعنف والفوضى أهم مؤشرات ذلك”[24].

وقد وجدت “كُوله” مفتاح التكامل في فكر كولن، فهي ترى أن مفهوم “ثقافة القلب” لدى كولن الذي استقاه من دراسته للصوفية يقدم للمجتمع التركي الثقة بالنفس التي يفتقر إليها بسبب طبيعة النظم التعليمية المختلفة غير المتكاملة والمتحيزة. ولما كانت النظم القديمة تُفرّق ولا تَجمع؛ حيث أدت إلى تقسيم المجتمع إلى “علماني” “إسلامي”، و”عصري” “تقليدي”، و”علمي” “ديني”، فإن منظور كولن المتكامل للحياة يتيح للشعب التركي أن يحتفظوا من الماضي بما هو أفضل وأصلح، ويقبلوا بالتقدم العلمي والتكنولوجي ويستفيدوا منهما. ولذلك فهي تأمُل أن تكون النتيجة مجتمعًا عصريًّا ومتسامحًا.

تقول “كُولَه”:

“إن البنية الفكرية لـ”كولن” تؤيد التواضع الفردي، والمجتمع المحافظ، والإسلام في بناء الحضارة، وتقدم نماذج من الأشخاص المتواضعين والمعتدلين الذين لم يفقدوا اتصالهم بالله، وأيضًا من الأفراد الذين أعياهم كبت التقاليد وإفراط العصرية. أما العاطفة التي تجمع بين الإيمان والعلم في “ثقافة القلب” فهي تبشر بفتح باب جديد من الثقة بالنفس، ولأول مرة في تركيا نشهد خليطًا عميقًا من الفكر المحافظ والتسامح المتحرر”[25].

إن التحديات التي يواجهها التعليم هي -ببساطة- انعكاساتٌ للتحديات التي يواجهها المجتمع ككل، ويُعد فشل النظم التعليمية في التوفيق بين العناصر المتنافرة وجمعها في كل متكامل مؤشرًا على أن المجتمع لم ينجح بشكل عام في تحقيق ذلك أيضًا، ويوضح كولن سطحية ادّعاء النجاح في تحقيق “الحضارة الحديثة”، بينما تظل اتجاهات وقيم الحاضر غير متوافقة مع حكمة الماضي. وتمخضت عن ذلك حداثة سطحية تكمن تحتها همجية إنسانية. وكما يقول كولن:

“إذا خَلَت الجموع في مجتمع ما من الإيمان والحب والحماسة والإحساس بالمسؤولية، وإذا ظلوا يعيشون حياةً بلا هدف ودون وعي بهويتهم الحقيقية وبالعصر والبيئة اللذيْن يعيشون فيهما، فإن ذلك المجتمع لا يمكن اعتباره مجتمعًا حضاريًّا حتى ولو تغير تغيرًا كاملًا في مؤسساته، وارتفعت مستويات المعيشة بشكل كبير، و”عصرن” جميع الناس في أسلوب حياتهم. إن الحضارة ظاهرة ذهنية وروحية، لا تتعلق بالتكنولوجيا والملابسِ والحلي المبهرجة والأثاثِ ووسائل الترف. فلو كانت تتعلق بهذه الأشياء لَأمكنَنا “تحضيرُ” أي إنسان في بضعة أشهر وتحضيرُ أي مجتمع في بضع سنين، هيهات! فعدمُ تقدُّمنا من حيث حياتنا المعرفية ولو خطوة واحدة دليلٌ ساطع على أن اكتساب الحضارة بالتقليد أمرٌ مستحيل”[26].

وينتقد كولن المخططِين الاجتماعيين والسياسيين الذين يضعون “الحداثة” هدفًا أساسيًّا لهم، حيث يختارون في صراعهم من أجل تحقيق العصرية تقديم كل ما هو جديد وسطحي في العادات وأساليب الحياة، بينما يتجاهلون التحدي الحقيقي الذي يتمثل في تغيير العقليات، هذا التمسك بإخراج مجتمع عصري مهما كلف الأمر يسميه كولن “العصرية”. وفي مقابل المخططين الاجتماعيين العصريين يعتقد كولن أن الهدف الحقيقي للأمم ينبغي أن يكون تجديد الأفراد والمجتمع على أصعدة الحضارة والسلوك الأخلاقي والعقليات، أما التركيز على توفير أهداف ورغبات جديدة للمستهلك دون الالتفات إلى التحول في المواقف والسلوك فهو “جريمة ثقافية” من حيث إنه يضلل الناس بتقديم العلاج الخاطئ لمشكلة أُسيء فهمها.

يقول كولن:

“تختلف الحضارة عن العصرية: فبينما تعني الأولى تغيير الإنسان وتجديده في آرائه وطريقة تفكيره وجوانبه الإنسانية، فإن الثانية تعني تغيير نمط حياته، وملذاته الحسية، وتطويرَ تسهيلات الحياة…

إن الأجيال الجديدة التي أربكها الاستخدام الخاطئ للمفاهيم قد ضُللت أولًا فيما يتعلق بأسلوب تفكيرهم ثم تعرضوا للفساد والتدهور في الإيمان واللغة والأفكار الوطنية والأخلاق والثقافة. وبعيدًا عن ذلك فإن تلك الشعوب التي تتمتع بالتسهيلات التكنولوجية أكثر من غيرها، أو المثقفين المزعومين في جميع الشعوب اعتبروا أنفسهم متحضرين والآخرين همجيين، فاقترفوا خطيئةً كبيرة لا تغتفر ضد الحضارة والثقافة”[27].

أما المسؤولون عن هذا الإثم فهم أولئك الذين يسعون دون تمييز، بشكل تماهت فيه الحداثة مع التغريب، إلى تبني كل ما هو غربي باعتباره أفضل وأكثر تقدمًا، بل وإجبار الآخرين على تبني هذا الموقف، وفي المقابل يحطّون من شأن القيم الوطنية. إن الحضارة الحقيقية
لا تتحقق عن طريق التقليد الأعمى لإنجازات الآخرين (وعيوبهم)، بل من خلال نمو الفكر النقدي والسلوك المهذب والقيم الإنسانية والاستقامة الشخصية، أما التركيز على الازدهار المادي فقط دون السعي وراء إعلاء القيم الروحية فهو الوجه المعاصر للمادية.

يقول كولن في هذا الصدد:

“قد تساعد التسهيلات العصرية في “تجديد” المظهر الخارجي للحياة لكن ذلك لا يعادل التحضر، فالحضارة هي المناخ الذي يلائم تطور قدرات الإنسان، والإنسان المتحضر هو ذلك الشخص الذي وضع نفسه في خدمة مجتمعه بشكل خاص والإنسانية بشكل عام، إلى جانب الأفكار والمشاعر والقدرات التي يطورها ويحسنها في هذا المناخ. ولذلك فالحضارة لا يُبحث عنها في الترف والرفاهية والحياة المريحة بوجه عام، أو داخل البيوت ذات الأثاث الأنيق أو في أساليب وكميات الإنتاج والاستهلاك… بل إنها تتواجد في نقاء الأفكار، وتهذيب الأخلاق، والمشاعر وصحة الآراء والأحكام، فالحضارة تكمن في التطور الروحي للإنسان وتجديده الذاتي المستمر نحو الإنسانية الحقّة والاستقامة الشخصية… ليست الحضارة
كما يفهمها –يا للأسف- المقلدون العميان للغرب باعتبارها ثوبًا يُشترى من أحد المحالّ ويُلبس، ولكنها غاية منشودة يصل إليها الإنسان من خلال طريق عقلي يمر عبر الزمان والظروف”[28].

ويعتقد كولن أن الفرضية المزعومة التي تقول بأن العصرية تساوي التغريب -والتي أدت ببعض المفكرين في تركيا وفي أماكن أخرى من العالم الإسلامي إلى محاولة تحقيق هدفهم من خلال تقليد كل ما هو أوروبي- تنشأ عن قراءة انتقائية للتاريخ. وبما أن القوى الاستعمارية هي التي قدمت وروجت للعصرية في الغالب الأعم داخل المناطق المسلمة، ودعمت هذا الاستعمار بقوتها المتفوقة في التكنلوجية العسكرية فإنه يصبح من الطبيعي للمفكرين المسلمين أن يطابقوا بين العصرية والتغريب. وفي مواجهة السيطرة الغربية السائدة في الاقتصاد والسياسة رد المسلمون بطريقتين متعارضتين:

1- اعتبر “الحداثيون” أن السيطرة الغربية نتيجة حتمية لفاعلية بنيتها الاجتماعية، فإذا كانت الدول الإسلامية تأمُل في الوصول إلى تكافؤ مع نظرائهم الغربيين، فإن هذا يعني مراجعة فكرهم وسلوكهم ليجعلوه مشابهًا لفكر الغرب وسلوكه، غير أنهم كانوا يبنون فهمهم للحضارة على الموقف الآني في ذلك الوقت وينسون أن حركة التاريخ لم تكن دومًا بهذه الطريقة، وأن التاريخ لم يتعين عليه التطور بالشكل الذي تطور به، فالتفوق التكنولوجي والعلمي للغرب لم يأت نتيجة لعملية حتمية تاريخية، ولم تكن هذه هي الحال في جميع الحقب التاريخية.

أدت هذه القراءة المتحيزة للتاريخ بكثير من المفكرين إلى أن ينظروا إلى الإسلام على أنه عقبة في طريق التقدم الذي سمح للأمم الغربية بالسيطرة، كما فتحت باب الاعتقاد بأن تقليد الغرب في نظرتهم للعالم والأنماط الاجتماعية والأنظمة السياسية سوف يؤدي حتمًا إلى الرخاء والقوة التي وصلت إليها البلاد الغربية. يقول كولن:

“بسبب تأثير سيطرة الغرب على أراضيهم -وهي السيطرة التي نُسبت إلى التفوق العلمي والتكنولوجي- ظل بعض المفكرين المسلمين لسنوات عديدة يتهمون الإسلام نفسه بأنه سبب تخلف الشعوب المسلمة، فقد نسوا الأحد عشر قرنًا أو أكثر التي شهدت سيادة الإسلام، ففكروا وكتبوا
كما لو كان تاريخ الإسلام قد بدأ في القرن الثامن عشر فقط… وحتى إنهم لم يرهقوا أنفسهم للقيام بدراسة سطحية للإسلام وتاريخه الطويل”[29].

2- وثمة مفكرون مسلمون آخرون من الذين ينطلقون من نفس الفرضية -وهي أن العصرية تساوي التغريب- ركزوا على مشكلاتِ وعيوبِ وآثار الثقافة الغربية الضارة، وشجبوا الخلفيات الإلحادية للمجتمع الغربي العلماني، ونسبية الأخلاق، واستعداده للخوض
في دمار شامل من أجل تحقيق أهدافه، ثم خلصوا إلى أن الحداثة شيء مدمر يتعارض مع العقيدة الدينية، ونظروا إلى الغرب باعتباره العدو، وجاء رد فعلهم غاضبًا بل حتى عنيفًا.

ويعتقد كولن أن كلا الاتجاهين -وهما المحاكاة غير النقدية ورد الفعل الغاضب- ليسا في موضعهما، وأنه لا هذا ولا ذاك ينتميان
إلى تعاليم الإسلام.

وبعد رؤية بعض الكتاب المسلمين المعاصرين لأشياء مثل القنابل الذرية، والقتل الجماعي، والتلوث البيئي، وضياع القيم الأخلاقية والروحية، اتهموا العلم والتكنولوجيا بأنهما المسؤولان عن تلك الكوارث، وبينوا نقائصَ وأخطاء النظرة العلمية المحضة للبحث عن الحقيقة، كما بينوا أيضًا فشل العلم والتكنولوجيا في جلب السعادة. وبسبب اقتفائهم لأثر نظرائهم الغربيين أدانوا العلم والتكنولوجيا إجمالًا وتبنوا اتجاهًا مثاليًّا صرفًا. وعلى العكس من ذلك فإن الإسلام هو الطريق الوسطي؛ فبينما لا يرفض الإسلام أو يدين النظرة العلمية العصرية فهو كذلك لا يقدسها[30].

المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.