سؤال: هل يمكن أن تحدِّثَنا عن جهود ومساعي النبي ﷺ والمسلمين الأوائل الرامية لإنقاذ إيمان غيرهم؟الجواب: هذا الموضوع من الموضوعات التي لا بدّ من الحديث عنها على أنها موضوعٌ مستقلٌّ تمامًا، وقد حاولت من قبل أن أعرض وجهة الصحابة خصّيصًا فيما يتعلق بهذا الموضوع.

في الواقع إنّ ضربَ مثال أو اثنين لهؤلاء الصحابة في كل مجلس أو حديث أو مقال يَهَبُ روحًا وحياةً له، فالصحابة بالنسبة لي مقياس ومعيار، وأنا أضع كل أحكامي في قالَبِ التشبه بهم… وإنّني لأنظر إلى الصحابة الكرام على أنّهم شرطة المرور الموظّفون على طريق النور، وأوقنُ بأنّ علاماتهم وإشاراتهم هي التي توصِّل إلى باب النور الخالد والأكبر النبيِّ محمّد ﷺ، ولقد جعلت هذه الفكرة غاية حياتي قدرَ الإمكان.

وإن كان لا بدّ وأن نُخضع المؤمنين لتصنيفٍ ما فإنني أجعل القرب من هؤلاء الصحابة والبعد عنهم معيارًا لذلك، وقد أشرت على أصدقائي وأحبائي المقربين بوضع تصنيفٍ كهذا.

إن لم تكن هناك خدمة للدين فلا معنى أيضًا للبقاء على قيد الحياة.

ولقد شُرح هذا الموضوع مرارًا وتكرارًا، وربما تشرّبته أرواح قرّاء هذه السطور، ووصلوا في تعرفهم على الصحابة إلى أقصى الدرجات.

ومع التسليم بهذا إلا أنني سأحاول أن أنوّه هنا ببعض الأمور تبرّكًا إجابةً على هذا السؤال:

لم تكدْ المشاعر الدينية تلتهب في روح رسول الله ﷺ وأرواح صحابة رسول الله حتى جعلوا هدفهم وغاية حياتهم نقل القضايا الدينية إلى الآخرين، وتمثل الدين، والأخذ بأيدي الناس بهذه الوسيلة إلى الخلاص الحقيقي.

إن لم تكن هناك خدمة للدين فلا معنى أيضًا للبقاء على قيد الحياة، وكما أوضح القرآن الكريم علينا أن نقيِّم نحن المؤمنين -خلفاءَ الله على الأرض- الأحداثَ كلَّها من منظور الفكرِ والشعور الديني.

فلو أن الماء ينحدِرُ إلى أسفل وأمَرَنا دينُنا بأن يجري الماء إلى أعلى صُعودًا، فنحن مكلفون بالعمل الدؤوبِ حتى يتحقق ما أمر به الدين، وهكذا فلو أدركنا ما نحن مكلفون به لأصبحت هناك حكمة لوجودنا ومعنى لحياتنا، وإلا كانت حياتنا فارغةً ووجودنا عبثًا.

لقد بلغ هذا الشعور وذلك الفكر أقصى درجة له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسردَ لنا القرآن الكريم في كثير من المواضع الآيات التي تبدأ بقوله: “فلعلّك”؛ حتى ينبهه، ويوجّه أنظارنا نحن أيضًا إلى قامته العالية السامقة… ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سُورَةُ الْكَهْفِ: 18/6)؛ يعني أوشكتَ أن تُهلك نفسك وتُتلِفها… تنهض في الصباح فتشاهد الوجوه غير المؤمنة، وعند رُقادِك تتمثل أمامك أخيلتهم، وبهذا الشعور ينقصم ظهرُك همًّا وحُزنًا على قدرِ معرفتك بالناس؛ فتنسى حياتك وتوشك على هلاك نفسك.

التاريخ عبارةٌ عن تكرُّرِ الوقائع والتشكُّلات، وليس هناك أيُّ سببٍ يستدعي عدمَ تكرُّرها في هذا العصر.

أجل، لقد كان يَئِنُّ دون توقُّفٍ لأنهم لا ينصتون لكلماته القدسيّة، ولا يتبعون دعوته الإلهية، ولا ينخرطون في هالتِهِ النورانيّة، كان يتلوّى حزنًا عليهم لأنهم لم يؤمنوا ولم يدخلوا في حظيرته القدسيّة، حتى كاد أن يذوب ويتلاشى مثل الشمعة.

ومن المعاني التي تتضمّنها هذه الآيات: دع الأمر للقدر، وفوِّض الأمر إلى القادر U، ومن إتلاف نفسِكَ حاذر، كما تشتمل هذه الآيات على مديح علويّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وكأنّ الله تعالى يقولُ لنبيّه: أيّها النبيّ إن روحَك عالية، وستصبح هذه الروح في المستقبل منهلًا يُهرول إليه الجميع بأقداحهم ليغترفوا منه ويروُوا ظمأهم… فلا تُزلزل عالَمك الفكريِّ إلى هذا الحدّ، ولا تهلك نفسك في سبيل هذه الوظيفة العظيمة التي ستؤتي ثمارها في المستقبل، فوجودُك ضروريٌّ، وما عليك إلا أن تؤدّي وظيفتك، ولا تتدخّل فيما تقتضيه الربوبية.

وما أكثر المعاني التي تعجّ بها الآيات مدحًا وثناءً على رسول الله ﷺ والتي لا يستطيع إدراكها إلا هو صلوات ربي وسلامه عليه!

ومما نستخلصه من هذا الثناء في الآية السابقة أن جميع الآلام والأحزان التي كابَدَهَا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ما كان سببها إلا تبليغ الحقائق العظيمة التي جاء بها، وكأنه عليه الصلاة والسلام كان مشحونًا بهذا الهمّ على الدوام كسحابة محمّلةٍ بالمطر، ولا يمكنني هنا أن أستخدم أو أُطْلِقَ كلمة “سَكران” على نبيٍّ مُنْتَشٍ بتجليات الحقّ تعالى، ولكن لو كنت أتحدَّث عن غيره لقلتُ إنه سكران بهذا الهمّ، فلم تكن هناك مسألة أخرى تشغل باله سوى هذه الدعوة العظيمة؛ لذا تجِدُهُ وكأنه لا يعلم بما يُمارَس ضدّه من أذًى واضطهاد، وكثيرًا ما كان يسأل أصحابه الأوفياء عمّا يجري حوله، فإذا ما سمع نحيبَهم وقف مدّةً يسيرة عند المسألة ليسرّي عنهم ويسلّيهم ثم يمضي مسرعًا.

كان ﷺ يَئِنُّ دون توقُّفٍ لأن المشركين لا ينصتون لكلماته القدسيّة، ولا يتبعون دعوته الإلهية، ولا ينخرطون في هالتِهِ النورانيّة.

لقد أُلقي الأذى على ذلك الوجه الشريف الذي لا تقوى الملائكة على استدامة النظرِ إليه خجلًا، ووُضع سلا الجزور على ذلك الرأس الشريف الذي طوّفَ بالملإ الأعلى، ونُثر الشوك تحت قدميه المباركتين اللتين لو اكتحلَتْ عيناي بالغبار الذي وطِئَتْهُمَا لكنت أسعد الناس حظًّا، ورُمي بالحجارة حتى سال الدم من قدميه المباركتين r (ولَكَمْ صَرَخَتْ الملائكة حتى ضجّت السماء إزاء كلّ حجرٍ يلامس قدمه الشريفة ﷺ!)، كلّ هذا يحدث وكأنه صلى الله عليه وسلم لا عِلمَ له بما يجري أو يحصل.

أضف إلى ذلك أنه عندما سمعَ شهيق عمر رضي الله عنه بالبكاء قال له: لِـمَ تبكي يا عمر؟ ولمّا رأى أبا هريرة وقد انحنى باكيًا قال له: ما الذي يُبكيك يا أبا هريرة؟ ولما خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ يومًا تَلَقَّتْهُ فَاطِمَةُ عِنْدَ بَابِ البَيتِ وَعَينَاهَا تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: “يَا بُنَيَّةُ مَا يُبْكِيكِ؟” قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، أَلَا أَرَاكَ شَعِثًا نَصِبًا قَدِ اخْلَولَقَتْ ثِيَابُكَ، فَقَالَ: “فَلَا تَبْكِي، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ أَبَاكِ لِأَمْرٍ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرضِ بَيتُ مَدَرٍ، وَلَا شَعرٍ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ بِهِ عِزًّا أَو ذُلًّا حَتَّى يَبْلُغَ حَيثُ بَلَغَ اللَّيلُ”[1].

أجل، ما ضيّعَ الله نبيه ﷺ، لقد عاش عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وسيظلّ فيما بعدُ في قلب كلِّ من آمنَ به كوردةٍ أو زهرةٍ من الجنّة، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على نفسِ الشاكلة.

إن الصحابة هم الجماعة الوحيدة التي أجمع عليها كل من على ظهر الأرض بمختلف شرائحهم، واتخذوهم مرشدين وروّادًا لهم، ونحن خدام الباب الأوفياء لهم، وأملنا أن يحشرنا ربنا تبارك وتعالى بهذا الإقرار الذي ألزمنا به أنفسنا.

إنني أعتبر نفسي أكثر المؤمنين إثمًا، ورغم هذا فلو انكشف لي عالم المثال عن صورة أحد الصحابة الكرام رضي الله عنهم وتراءى لي في الأفق وشاهدته في رؤياي فسأطير فرحًا وسعادةً وأمتلئ بهجةً وسرورًا.

إنني لا أريد أن أحدّث أحدًا بهذا خشيةً أن ينقطع عني هذا اللطف والإحسان العظيم، وأحيانًا أتغلَّب على قلقي وأحدّث أحدَ أصدقائي المقربين دون إرادة مني، وأقول له: “لقد تجلّى اليوم نجمٌ من دائرة هؤلاء الصحابة في أفق إنسان غير جدير بذلك”، إنهم هكذا بالنسبة لنا…

لقد عكس هؤلاء الصحابة بحقٍّ نور النبوة بمرايا قلوبهم، فكانوا مرآةً حقيقية لهذا النور الخالد ﷺ، وتمثّلوا حياته على أتمّ وجه، ولقد عمدوا -باتباعهم الشديد لإمام الأئمة ﷺ – إلى مبخرة الحقيقة التي كان صدره مجمرَتها ففاضت أنوارهم على الإنسانية كلّها بعون من الله تعالى.

كانت حركةً هادِفةً إنقاذَ الإنسانية في ذلك العصر، فَطُبِّقت على وجهها الأمثل، وإن ما شاهدناه لدى هؤلاء الصحابة ليؤكد لنا إمكانية أن يظهر اليوم مضحُّون يكرسون حياتهم لإنقاذ الإنسانية كما كرّسها الصحابة من قبل؛ لأننا نعلم أن التاريخ عبارةٌ عن تكرُّرِ الوقائع والتشكُّلات، وليس هناك أيُّ سببٍ يستدعي عدمَ تكرُّرها في هذا العصر، سيتكرر ذلك بمشيئة الله.

إننا كنا مضطرّين حتى الأمس القريب إلى ضرب كلّ الأمثلة من عصرِ الصحابة، غير أنه أصبح لدينا الآن فرصة لضرب أمثلة من يومنا وعصرنا الحاليّ، إننا كنا ننتظر هذه الأيام بوعيٍ أو بغير وعيٍ، وعلى ذلك حينما نضرب مثالًا من عصر السعادة ومثالًا آخر من عصرنا ونجمع بين الحلقتين يتحقّق عندئذٍ ما كنّا نصبو إليه.

ولنوضّح المسألة بمثال: هناك مجموعة من الشباب لم يتلذّذوا بحياتهم بعدُ رغم أنهم يتقلّبون في مختلف النِّعَمِ الدنيوية، ويغبطهم الكثيرون على مكاناتهم ودرجاتهم الاجتماعية، ذات يوم جاؤوا لي بقائمةِ أسماءٍ كُتبَ في أسفلِها: “ناشدناك الله أن تدعو لنا ربَّنا أن يعيننا على استغلال كلّ لحظةٍ في حياتنا لخدمة ديننا وأمتنا، فإن حلّ أجلُنا رَحَلْنا إلى الآخرة مزوّدين بثواب الشهادة”.

وهذا يعني وجودَ الصحابة من جديد، دعوتُ اللهَ لهم مدَّةً طويلةً حتى يُنْفِقوا أعمارهم في سبيل الدين وأن تختم حياتهم بأجمل خاتمة وهي الشهادة، ودون اعتبار لأهليّتي كتبت اسمي في آخر هذه الأسماء، واستشفعتُ بأسماء هؤلاء الشباب إلى الله وتضرعت إليه أن ينعم علي بإحسانه وفضله وألّا يحرمني من أن أكون في زمرتهم.

لم تكدْ المشاعر الدينية تلتهب في روح رسول الله ﷺ وأرواح أصحابه حتى جعلوا هدفهم وغاية حياتهم نقل القضايا الدينية إلى الآخرين

إن حال هؤلاء الشباب وآلافٍ مثلهم لَيَعِدُنا بأمور كثيرة تهزُّ قلوبَنا وتدفعُنا إلى غبطتهم، وكلما رأيناهم منهمكين في أداء وظائفهم زادَ أملُنا، ونقول: سيتمّ هذا الأمر بمشيئة الله.

لأن هناك شبابًا سيمثلون هذا المعنى السامي في أعماق أرواحهم وفقًا لقامةِ وقيمةِ هذا المعنى، وهذا إحسانٌ كبيرٌ ودائمٌ من ربّنا تبارك وتعالى علينا. أجل، لقد ازداد مَن يعتصرون أَلَمًا بهمّ الخدمة حتى عند رقادهم؛ ومن بينهم آلافٌ من الشباب الذين تعيش أرواحهم اليوم هموم الإلحاد والملحدين، وهكذا فهناك جيلٌ جديدٌ على شاكلة هؤلاء الصحابة العظام الذين يُشكِّلون الرعيلَ الأوَّلَ، فهم عزموا على حملِ هذه الدعوة العظيمة، يجاهدون لأداء أعمالٍ تتوافق مع ما كان يفعله الصحابة، ويسعون بحقّ لأداء الوظيفة التي كُلِّفوا بها وقلوبهم تحترق كالمبخرَة التي اقتبَسَتْ بخورها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومعهم رسالاتٌ من آمال جديدة، فيا إلهي لا تخذلنا بعيوبنا.

وإذا أردنا أن نلخص هذه المسألة نقول: إنهم قد صعدوا وارتقوا إلى السموات العلى بفضل خصالهم العالية مثل التفاني، والإيثار، ونسيان أنفسهم، بل ونسيانهم أمورهم الخاصة، وإعراضهم عن الملذات المادية والمعنوية في سبيل خدمة دينهم، فلو كنّا نتطلع في الأفق إلى هذه الخصال مثلهم فعلينا أن نشاركهم أفكارَهم نفسَها وأحوالهم الروحية عينَها.

المصدر: فتح الله كولن، سلسلة أسئلة العصر المحيرة، الاستقامة في العمل والدعوة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

[1] الحاكم: المستدرك، 3/169.