قاسى المهاجرون الكرامُ وتكبّدوا من العناءِ ما لا يوصَفُ حتى انطبعت حياتهم كلّها بطابع الهجرة، ومع ذلك فلم يرجع أحدٌ منهم سوى بائس واحد إلى مكة، إذ لم يكن الإيمان قد استقرّ في قرارة فؤاده بعد، أما الباقون فلم يفكّر أحد منهم بالرجوع إلى مكة، إن الهجرة التي عمّقت إيمان الصحابة الكرام والتي أعطت للإسلام والمسلمين لونًا متميزًا أصبحت اليوم أيضًا من مواضيع الساعة.

كان الله تعالى يصون رسوله من كلّ شيء لا يليق به. لأنه كان يهيّئه لحملِ رسالةٍ كبرى، ومع كلّ هذا كان مشركو مكة يدعون سيِّدَ السادات صلوات ربي وسلامه عليه بيتيم أبي طالب.

الوطن، وبعض السلبيات:

لكلّ واحدٍ ذكرياتٌ سلبية أيضًا في قريته أو بلدته وبين أقرانه؛ فهناك أيام تشاجر فيها مع أصدقائه، أو قام بأشياء ليضحك الناس، وهذه الأمور لا تتلاءم والوقارَ الذي يجب أن يتحلّى به بعد أن يأخذ على عاتقه مهمّة الدعوة إلى الله؛ ذلك لأن مثل هذه التصرفات الصبيانية السابقة -التي لا مفرّ منها في مرحلةٍ معينة من العمر- قد تكدّر أذهان البعض وتُلقي بظلالها سلبيًا على مهمّة الدعوة والتبليغ، وتكون سببًا وعاملًا في بعض التقييمات السلبية تجاهه.

فمثلًا كان المكّيّون يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب. أجل، كانوا يُطلقون على فخر الكائنات -الذي يستحقُّ تضحية الثقلين بالأرواح من أجله- صفةَ “يتيم أبي طالب”، يريدون بذلك التهوينَ من شأنه ورسالته، يريدون استعمال يُتمه كسلاحٍ موجّهٍ ضده، يودّون أن يقولوا: “ويحك! أهذا الذي كان يركض معنا في الأزقة وهو صبيّ ويمشي بيننا في الأسواقِ يَدَّعِي أنه صعد إلى السماء وأتى بأخبارٍ لا يمكن أن تتصوّرها عقولنا؟”. هذا علمًا بأن الله تعالى كان يهيّئه منذ صغره لمهمّة النبوّة والرسالة ويصونه ويحفظه من كلّ ما يمكن أن يُلقِي بظلاله سلبًا على مهمّة الدعوة والتبليغ هذه، وهاكم مثالًا على ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:”مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَينِ مِنَ الدَّهْرِ كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا، قُلْتُ لَيلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِي مِنْ قُرَيشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي غَنَمٍ لِأَهْلِنَا نَرْعَاهَا: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيلَةَ بِمَكَّةَ كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ، قَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ غِنَاءً، وَصَوتَ دُفُوفٍ وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ -لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيشٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ- فَلَهَوتُ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ، وَبِذَلِكَ الصَّوتِ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَينِي، فَنِمْتُ فَمَا أَيقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ”[1].

إن الهجرة التي عمّقت إيمان الصحابة الكرام والتي أعطت للإسلام والمسلمين لونًا متميزًا أصبحت اليوم أيضًا من مواضيع الساعة.

تهيئة الله تعالي لرسوله:

أجل، كان الله تعالى يهيِّئُه لشيءٍ معيّن، شارك في صباه في بناء الكعبة بعد أن انهدمت جرّاءَ السيول؛ فكان ينقل الأحجار، وما كان من المتصوّر أن يتخلّف عن مثل هذا العمل الشريف، وفي أثناء العمل قَالَ العَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنَ الحِجَارَةِ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَينَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: “إِزَارِي إِزَارِي”فَشَدَّ عَلَيهِ إِزَارَهُ”[2].

لقد كان الله تعالى يصونه من كلّ شيء لا يليق به لأنه كان يهيّئه لحملِ رسالةٍ كبرى، ولكن مع كلّ هذا كان مشركو مكة يدعون سيِّدَ السادات صلوات ربي وسلامه عليه بيتيم أبي طالب.

————————————————————

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 267-269، بتصرف.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] صحيح ابن حبان، 14/169.

[2] صحيح البخاري، المناقب، 89؛ صحيح مسلم، الحيض، 76.