كن شمسا، يستفيد منها الناس أم لا يستفيدون، لا ضير.. كن ماء، يشرب منه الناس أم يعرضون عن شربه، لا تيأس.. كن ترابًا، نَثر الناس في جوفه البذور أم لم ينثروا، لا تبالِ.. كن شجرة مثمرة، يستظل الناس تحت ظلها أم لا يستظلون، لا عليك.. المهم أن تكون.. أن تكون موجودًا.. وإنْ انصبغتَ بالانمحاء كنتَ الرابح.. على الإنسان أن يفعل بمحض إرادته ما يجب فعله في سبيل غايته المثلى، ويمضي بحماسة متقدة إلى مهمة آخرى دون انتظار الحصاد.. فالأساس هو العمل الطيب، ثم المضي دون الالتفات إلى الوراء. انثُر البذور في الأرض، ولْيحصد بعدك من يحصد.
لا تقل “لا بد أن أحصد أنا.. لا بد أن أنال أنا الجائزة.. لا بد أن يثني الناس عليّ أنا.. لا بد أن يقدِّروني أنا”، إنما قل “لا أريد شيئًا مقابل ذلك ولو مثقال ذرة”.
إن العمل دون مقابل يخفف حِمْل الإنسان. بينما العمل طمعًا في الثناء أو التصفيق هو ذل وإهانة لكينونته. وعلى الإنسان ألاّ يمد يده متسوِّلاً طالبًا أجره من الآخرين، لأنه مخلوق عزيز مكرَّم. وبما أن الإنسان صُنعٌ إلهي، فإن سؤالَه غير الله إهانة لصُنعه تعالى.
لقد خُلق الإنسان عزيزًا ولا يجدر به أن يمدّ يده إلى مخلوق مثله.. عليه أن يطلب فقط من خالقه.. إذا ذهبتَ إلى الآخرة وأنت قوي الصلة بالله، فهذا يكفيك وزيادة.. لا حاجة لك في دعم الآخرين أبدًا. ولعل هذه أهم ميزة للأرواح التي نذرت نفسها لخدمة الإنسانية.
الإنسان مرآة
إذا لم نستطع أن نعبر عن ذاتنا بصدق، فانتظار تغير الآخرين سيصبح بلا معنى. الإنسان هو المرآة الوحيدة التي تستطيع أن تعكس تجليات الذات الإلهية بأسمائها الحسنى وصفاتها السبحانية؛ ولذلك فعلاقتنا تجاه الإنسان تعني علاقتنا بصنعة الله سبحانه وتعالى إذ تلك العلاقة هي معيار لكمال احترامنا لله تعالى.
ولأننا لم نعبر عن قيم الإسلام بجد ، رأى الآخرون الإسلام على غير حقيقته، وواجههم سيل من المشوشات السوداء.. انظروا، سترون هذا السيل الأسود حولكم يسود الوجوه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لَيبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار” (رواه أحمد)، أي سيصل الاسم المحمدي لكل مكان تطلع عليه الشمس. قولوا لي، ألم تنتشروا في ربوع الأرض وفي كل مكان تطلع عليه الشمس؟ من جهة يمثل هذا الهمّ تطهيرًا لأرواحنا، ومن جهة أخرى يسوقنا إلى غاية علوية شريفة لنخدم فيها.
إنها حياة قلبية جديدة تتمـثل في الإيمــان بـالله، وبريشة معرفة الله التي تضرب على أوتار القلب أثناء سيرنا.. وفي الطريق إليه سبحانه ستتجلى لنا في كل خطوة نخطوها حزمة من أطياف المعرفة الواردة على قلوبنا. لكن إن توقفنا في مكاننا واكتفينا بالموجود فسيعبر هذا عن قلة همتنا، وسنكون كالأشجار التي جفتْ في مكانها ، وما رآه الآخرون منا بالأمس، يجب أن يشاهدوا غيره اليوم. يجب أن نقدم لهم أمرًا مختلفًا وجديدًا، حتى ينجذبوا إلى ما نقدمه، وبانجذابهم سيصلون إلى الله وإلى أفق النجاة.
أما عن علاقتنا بمن هو أقرب إلينا من أنفسنا، فيجب أن نعيد تأسيسها، يجب علينا أن نتجاوز بُعْدنا عنه حتى نحظى بالقرب منه جل وعلا. وإذا كان قد نَثَرنا في الأرض كالبذور، فعلينا أن نتمثل حال البذور في ارتقائها ونموها.. وإذا كان قد غرسنا في مختلف أنحاء العالم، فعلينا أن ننتج ثمارًا نافعة. اللهم خذ بأيدينا، فبدونك نحن لا شيء.