إن الحمد هو مقام إدراكِ المنعَم عليه لعمليَّةِ الإنعام، وهذا المقامُ أعلى من مقام الاستفادة من النعمة بالفعل، لأن إدراك الإنعام يكون طريقًا إلى إدراك المنعِمِ، والمقام الذي وعد الله رسوله ﷺ به سماه عز وجل “مقامًا محمودًا”، وفي هذا المقام تجتمع “الحامدية” و”المحمودية”، ولنوضح هذه المسألة الدقيقة على النحو التالي:

إن هديةً تأتيكَ من السلطان تُذَكِّرُكَ بأمرين:

أحدهما: القيمة الذاتية لهذه الهدية؛ فاللذة التي يحسّ بها الإنسان منحصرةٌ في ذات الهدية…

والأمر الثاني: هو كون هذه الهدية “هدية سلطانيّة”، ومن هذا الجانب فلا يُنظر إلى القيمة الذاتية، بل المهم في هذا المقام هو كون هذه الهدية “مِن قِبَل السلطان”…

فما يبعثه هذا الجانب الثاني من اللذة والمسرَّةِ يفوقُ –بألف مرَّة-ما يبعثُه الجانب الأولُ، فإن في هذا الجانب الثاني انتقالاً من الهدية إلى السلطان الذي أرسلها، والمهمّ هو هذا الجانب.

وهكذا الأمر بالنسبة لإنعام الله وإحسانه من دون فرق، وشتان ما بين الاستفادة من النِّعم وبين الانتقال منها إلى المنعِم، والشعور باللذة الروحانية والسكينة منها.

الحمد هو مقام إدراكِ المنعَم عليه لعمليَّةِ الإنعام، وهذا المقامُ أعلى من مقام الاستفادة من النعمة بالفعل.

الحمد لله كلمة تملأ الميزان

في الحديث الذي يرويه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمرُ لعليٍّ رضي الله عنهما: قد عَلِمْنَا سبحان الله، ولا إله إلا الله، فما الحمد؟ فقال عليٌّ: “كلمةٌ رَضِيَها الله لنفسه”([1])، فهذا الجواب يُعبِّر عن سِرٍّ دقيق مهمٍّ.

وروى ابن ماجة في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ حدَّثهم: “أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللهِ قال: ياربِّ لَكَ الحمدُ كما يَنبغِي لِجلَالِ وَجْهِكَ وَلِعَظيمِ سُلْطانِكَ، فَعَضَّلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ، فَلَمْ يَدْرِيَا كَيفَ يَكْتُبَانِهَا، فَصَعَدَا إلى السماء، وَقَالا: يَا رَبَّنَا، إنَّ عَبْدَكَ قَدْ قالَ مَقَالةً لَا نَدْرِي كَيفَ نَكْتُبُهَا، قالَ اللهُ عز وجل- وهو أعلم بِما قالَ عَبْدُهُ- ماذَا قالَ عَبْدِي؟ قَالا: يَا ربِّ إِنَّهُ قالَ: يَا ربِّ لَكَ الحمدُ كَمَا ينبغي لجلال وجهك وَعَظيمِ سُلْطانِكَ، فقالَ الله عز وجل لهما: “اكْتُبَاها كمَا قال عبدي، وحتى يَلْقَاني فَأَجْزِيَهُ بها”([2]).

وفي حديث آخر: يقول ﷺ: “الْحَمْدُ للهِ تَمْلأُ المِيزَان”([3])، والمعنى أن العبد إذا حمد الله بقلب خاشعٍ، ومَثُلَ أمام الحق سبحانه وتعالى ولهجَ لسانه في هذا الاتجاه، وهاجَ قلبهُ وارتعد من جلال الوقوف أمام حضرة الحق تعالى، فإن ذلك يكفي لأن يملأ الميزان، مهما كان ما في الكفَّةِ الأخرى ثقيلاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) ابن أبي حاتم: التفسير، 1/ 27، 4/ 1258، 5/ 1479، 6/ 1931.

([2] ) سنن ابن ماجة، الأدب، 55.

([3] ) صحيح مسلم، الطهارة، 1؛ سنن الترمذي، الدعوات، 85؛ سنن النسائي، الزكاة، 1.

المصدر: محمد فتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ121/ 122.