يأتي الحج بمعنى القصد والتوجه. ولكن ليس من الصحيح حبس معناه ضمن إطار مجرد القصد والتوجه. فالحج يطلق على زيارة تتم في وقت مخصوص بشعائر معينة لأماكن محددة. وهو عبارة عن القيام بالإحرام في أيام محددة من أيام السنة بنية الحج والتوجه للوقوف في عرفة والطواف حول الكعبة. والإحرام شرط الحج، أما الوقفة على عرفات والطواف حول الكعبة فمن أركانه.
يتوجه كل سنة مئات الآلاف من الناس إلى بيت الله من جميع أنحاء العالم ضمن شريط مبارك من الزمن، فيزورون أماكن معلومة حددها لهم صاحب الشريعة ضمن أصول وشعائر معينة حيث يؤدون واجباتهم ويتطهرون من آثامهم، فالحج فريضة من الفرائض الخمس بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97).
الحج يؤسس الوحدة الاجتماعية
الحج شعيرة إسلامية تؤسس الوحدة الاجتماعية بين المسلمين، وهي شعيرة شاملة وواسعة إلى درجة أنه لا يوجد نظير لها من ناحية الشمول والوسعة فوق هذه الكرة الأرضية، ولا عند أي جماعة أخرى. وتمتد الكعبة بتاريخها -وبكل ما تحويه من معان مقدسة- إلى آدم عليه السلام وإلى ما قبل خلقه، ثم إلى إبراهيم عليه السلام الذي أعاد تعميرها من جديد بعد تعميرات عديدة سابقة. والكعبة بيت التوحيد المرتبط بالملة الإبراهيمية، وبالحقيقة الأحمدية قبل الخلق وفي مرحلة العماء، ورحم للنور المحمدي، وقبلة جميع الأديان السماوية، ومركز للتوحيد بحيث لا يوجد هناك أي بيت أو مبنى يكون نظيرا لها أو مثيلا من هذه الناحية.
يتوجه في كل عام مئات الآلاف من الناس إلى هذا المكان السامي لكي يؤدوا وظيفة العبودية لله تعالى ويزدادوا قرباً منه في هذا الشريط المبارك من الزمن بالعبادات التي يؤدونها، حيث يتنفسون مشاعرهم وأفكارهم من خلال منافذ هذه العبادات، ويجددون عهود إيمانهم، ويتطهرون من أدران آثامهم، ويتذكر كل واحد منهم واجبه نحو الآخر ومسؤوليته تجاهه. ويؤدون جميع أمورهم الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والسياسية ضمن خلفية وعلى أرضية من العبادة المتوجهة لله تعالى ومن الشعور بالعبودية له، حيث ترقّ القلوب، وتتسع المشاعر حتى تبلغ طور مدّها وتصاعدها، فيعودون إلى بلدانهم بعزم جديد وبقوة جديدة وشوق نضر..
الحج قوة للروح واطمئنان للقلب
يذهب كل واحد منا إلى الحج عندما ندرك أن الأدران قد أصابت مشاعرنا ولوّثتها. وعندما نبدأ بالسفر يخيل إلينا أننا ولجنا من باب لم نعرفه ولم نعهده في السابق إلى عالم آخر من المعاني، ونؤدي الشعائر، الواحدة منها تلو الأخرى، ونحس بها ونصل إلى أعماق معانيها. وبينما نحن في الطريق ونقطع الجبال المهيبة، ونشبع أعيننا وقلوبنا بعلامات الإسلام وشعائره، نشعر بهبوب نسيم الحج الدافئ. ونحن نحس بهذا النسيم الدافئ أينما كنا سواء على مقاعد السيارات أو في غرف القطارات أو البواخر أو على مقاعد الطائرات أو في غرف الفنادق أو في صالونات وقاعات المسافرين أو حتى في الأسواق. ومهما كنا متعودين على وسائل السفر هذه أو على هذه الطرق، فإن الأيام والأسابيع التي يستغرقها السفر تكون مملوءة بمعان روحية متناغمة، وبهبات وأفضال، حتى كأننا نستحم بمشاعر القرب والوصال وبأنواع الجمال والشعر والرومانسية، فيكتسب الروح قوة والقلب اطمئنانا، ونحسب أننا أمام باب سري يؤدي إلى عالم خاص مملوء بأنواع من الجمال الساحر. وهذه الرحلة المباركة والمشاعر التي تتخللها تَهَبُ لعالم الأحاسيس لدينا قابلية حدس وشعور إلى درجة أننا نحسب والاطمئنان يلفنا -ونحن بحالة روحية خليطة من البهجة، وأحياناً بحزن خفيف ناتج عن حالة المراقبة الداخلية للنفس- وكأننا نخطو في رواق من أروقة الآخرة.
يرى أصحاب النظرة الصائبة أن الكعبة تنظر من ناحية إلينا، ومن ناحية أخرى إلى ما وراء هذا العالم المادي… إلى عالم الأبد… تبتهج أحياناً… وتغتم أحياناً أخرى… ونستطيع أن نطالع في وجهها الذي نستطيع تشبيهه بوجه إنسان وقور ورزين، له تجربة آلاف السنين، وكأنها تريد أن تبث لنا شيئا، أو كأنها تخاطبنا وتهمس بأبيات شعر:
تعال إليّ أيها العاشق المتخفي… تعال!
هنا حريم خاص… هنا مقام الحرم،
لقد طالعتُ فيك أمارات الوفاء…
كأن الكعبة أُمٌّ تمسك بأيدي أطفالها
كأن الكعبة حسب موقعها ووضعها أمّ أو جدة جالسة في أفضل مكان في البيت لتشارك أولادها وأحفادها مسرَّاتهم وأحزانهم، وتعيش آلامهم. تجول بنظرها فيما حولها، تحزن أحياناً وتبتسم أخرى. ويحسب الإنسان وهو يطوف حولها في مدينة أم القرى كأنه طفل تمسك أمه بيده بقوة ليشعر بمزيد من الأمان. أجل!.. إن الإنسان وهو يطوف ضمن سيل من مئات الآلاف من الناس يحس وقد تصاعد عنده الشعور بالدار الآخرة بأنه متوجه لله تعالى بكل حب وشوق، وفارّ إليه جلّ جلاله، حتى ليكاد يغيب عن وعيه. وهو عندما يهرول وعليه ملابس الإحرام، ويرمل في الطواف وأكثر من نصف جسمه عار، تلفه المخافة من جهة، والأمل من جهة أخرى، ويعيش حالة من الانفعال وهو يسرع في طوافه هذا. ويستحيل شرح وتعريف الجو العميق الساحر الذي يحيط بالإنسان وهو يطوف بالبيت العتيق المبارك وما يشعر به أثناء الطواف والسعي من راحة نفسية ومشاعر رومانسية. وقبل أن يبدأ الإنسان بالطواف يكاد يسمع -وهو يشاهد منظر الزحام الذي يذكر بزحام يوم القيامة- صمت الحرم الإلهي المنـزوي وشعره. ولا يدري أحد أي الأبواب السرية تنفتح أمام الأرواح السامقة التي تدع أنفسها تنجرف في سحر جو الطواف، ولا أي مطارق خفية يلمسونها، ولا أي نوافذ سحرية تنفتح أمامهم على العالم الآخر؛ حتى أننا ونحن نطوف حول البيت العتيق بمشاعر فوارة ومتجددة في كل لحظة، نندهش ونتعجب من الألطاف التي تنهمر على قلوبنا من المنافذ المنفتحة في خيالنا، ومن البوارق التي تبرق في صدورنا، ومن الأسرار التي تطير بأرواحنا؛ ونتصرف وكأن في كل خطوة نخطوها باباً سرّياً سينفتح أمامنا مع دعوة لنا للدخول منه، ونحسب أننا نكاد نقطف لذة لم نعرفها من قبل، فنحس أن قلوبنا تدق بعنف.. عندها نشعر بعظمة الكعبة… هذه العظمة التي خالطت قلوبنا من قبل وسكنت فيها، وبكل عمقها… ونحس بأن نبض سحرها يسري في أنحاء جسدنا، فنرتجف من رأسنا حتى أخمص قدمنا.
ومع أن في الإمكان تفسير بعض هذه الخواطر وإسنادها إلى أسبابها، إلا أننا نبقى صامتين أمام الكثير من السنوحات والألطاف التي ترِد إلينا متجاوزة جميع مقاييسنا وتقييماتنا. لأن الكعبة وما يحيط بها من مظاهر مادية، حتى وإن كانت تعني شيئا، ولكن لكون أسلوبها أخرويا، ومعانيها ضبابية ومحتواها مغلقا وغير معروف، فليس باستطاعة الجميع فهم ما تريد الإشارة إليه. ومع ذلك فإن الجميع سواء أكانوا من العامة أم من الخواص، من الشباب أم من الشيوخ… كل فرد من هؤلاء له نصيب من المعاني التي يدركها، وإن لم يستطع التعبير عنها.
في الكعبة سرُّ الوجود
وبجانب كون الكعبة بموقعها بين الجبال والتلال المهيبة تشبه زهرة زنبقة الماء منشقة عن برعمها، فهي بمثابة فانوس سحري يحمل سر الوجود، ومسقط سدرة المنتهى، أو هي بلورة من عصارة العوالم التي وراء السماوات. وعندما يطوف الإنسان حول هذا الفانوس المحاط بالألغاز، يحس بأمور خفية بسعة الدنيا الدائرة، ويخيل إليه أنه ينظر من خلال موشور مرتبط بالسدرة المنتهى إلى عوالم فيما وراء السماوات.
أجل!.. فكل من لجأ إلى حرمها، يكتسب أعماقا في روحه ومشاعره وفكره. فعندما يفكر بوجوده وبالكعبة، ويستمر في التفكير في العلاقة بين هذين العنصرين اللذين هما مطمح النظر الإلهي، تنفتح أبواب سرية تنقلهم إلى عوالم سرية لم يكن لهم عهد بها من قبل. ولا شك أن مثل هذا الشعور والحدس، ومثل هذا المعنى والروح لا يحصل ولا يظهر إلا من اتحاد إيمان صحيح وقوي مع عيش حياة إسلامية كاملة، مع إخلاص ويقين تامين، وإلا لم يكن للقوالب المجردة مضمون حقيقي.
بفضل هذا الغنى وهذا العمق الموجودين في الكعبة، يبدو كل شيء عندما يصطبغ بصبغة الحج وبشعوره فوق قيمته عن الأوقات الاعتيادية، وبمهابة أكثر وألوان أجمل. عند ذلك يدع الإنسان نفسه لهذا السحر ليأخذه ويرتفع به ضمن حلزون من النور ليصعد به ويرتفع ليصل إلى معبوده. وصلاة الطواف التي يؤديها صاحب هذا الروح الواصل إلى مثل هذه الذروة تكون مثل سجدة الشكر، ومن يشرب من ماء زمزم يكون كأنه يشرب من كوثر الجنة أو يعب من شراب الوصال.
إنْ قُمْنا بتشبيه الطواف حول الكعبة حسب التعبير الصوفي بـ”السير في الله” الذي يعد في الأكثر سياحة حول شعور مبارك ومحاولة لزيادة العمق النفسي، فإن الذهاب والإياب في مواضع السعي يمكن أن نفسره بمعاني “السير إلى الله” و”السير من الله” الذي هو عنوان العروج من الخلق إلى الحق تعالى، ومن الحق إلى الخلق. أجل!.. ففي السعي بين الصفا والمروة يعيش الإنسان طوفان هذه المشاعر.
في “السعي” تسكب مشاعر التضرع
يعيش الإنسان في أثناء “السعي” شعور التضرع والطلب والدعاء والاستمداد، ويعيش شعر وموسيقى الوصال وداء الوصال. فكأنه لا يفتر يطارد شيئا مهما. ويستمر السعي حتى يظهر ما يسعى إليه. وكل ما يظهر من أثر أو أمارة في هذا السعي يضاعف انفعال الإنسان ويثير مشاعره حتى تنطق الصدور بأمثال ما قال الشاعر:
انظر إلى حال هذا المسكين…
أصبح عبدا لشَعرة من شعر الحبيبة…
كلما غمس يده في شهد الحب…
ظمئ… فطلب الماء…
يتمتم بهذا وهو يسعى هنا كطوافه حول الكعبة. وفي مقابل محاولته عند الطواف حول الكعبة النـزول إلى أعماق نفسه، نراه في السعي بين الصفا والمروة يسعى على خط مستقيم وقد دهمه شعور نبوي بالعيش من أجل الآخرين؛ بالضحك من أجلهم وبالبكاء من أجلهم، بل حتى بالموت من أجلهم. تراه لا يقر له قرار، ولكن لا يفلت الحساب من يده. تراه قلقا، ولكن دون أن يتخلى عن الأمل. وتحت الأضواء الذهبية للسماء، وفي الساعات الزرقاء لموسم الحج تراه يتلوى من حسرة داء وِصال جديد، ومن عدم عثوره تماما على ما يبحث عنه. فتراه يذهب ويجيء… يهَرول أو يمشي الهوينا… يصعد تلا وينـزل من تل… يلفه التردد والاضطراب. ينغمس أحياناً في شلال نهر الناس المهرولين في المسعى ليعبر عن أحاسيسه ضمن كورس أو فرقة جماعية، وأحياناً يكون في حالة روحية يخيل إليه معها أنه لا يرى شيئا ولا يرى أحدا وأنه يسعى ويطوف منفردا، يبدو أمامه شبح السيدة هاجر عليها السلام… تراه يترنم وهو يرتشف من كأس قلبه:
اطلب أيها الولهان الحبيبة التي أهدابها،
مثل الأسنة لتطفئ لوعة الفراق…
أنا ظامئ، فابحث لي عن ماء في هذه الصحراء،
خوف جهنم قد جثم على قلبي وأحرقه،
كل أملي أن يرش غيث إحسانك على قلبي الماء…
بهذه الكلمات ينتظر رحمة تنـزل عليه من السماء لتطفئ نار قلبه. وإلى جانب ناره التي تلهب روحه وتحرقه يتلوى من حسرة ومن ألم الانتظار الذي لا ينتهي. أحياناً يهبّ في المسعى نسيم بارد من وراء أفق هذا العالم، ولكن هناك في الأغلب حزن يلفه الشوق، أو شوق يلفه الحزن، مع معاناة عشق قد صبغه الرجاء والأمل.
كثيرا ما يختلط الخيال بالحقائق في المسعى، فيبدو الناس هناك أحياناً وقد لفهم صمت عميق… وأحياناً تسمع أصوات بكاء متقطع… أحياناً كأنهم يساقون إلى الميزان وأحياناً كأنهم يركضون نحو الكوثر، فهم بين خوف ورجاء وبين خشية وفرحة… يستمرون في الذهاب والإياب وفي الصعود والنـزول… الدقائق والساعات هناك مع كونها خفرة وحَيِيَّة فهي كثيرة الطلب، فهي تطلب الاهتمام على الدوام. وإلا فستزول وتنمحي دون أن تترك أي أثر.
كلما اقتربت الأيام من العيد تلوّن المطاف والزمزم والمسعى بشعور خفي من الحسرة والغربة إلى اللون اللازوردي، وتبدأ الكعبة بإنزال ستارة نوافذها شيئا فشيئا. ومثل كل الحوادث التي تدل على حقيقة الفناء وتشير إليها يفهم الإنسان أنه متى آن وقت الرحيل فعليه أن يرحل، وأنه لا بد أن يأتي يوم سيرحل فيه عن هذه الدنيا، وعند ذلك ينـزوي في عالمه الخاص ويعيش نوعا من الانزواء الروحي.
في “عرفات” تسمع صرير أبواب السماء
ولكن لم ينته بعد كل شيء… فهناك طريق طويل، ورحلة طويلة تنتظر هؤلاء السائرين إلى الله تعالى. فهناك “مِنًى” بلغزها الغامض، وبسحرها الذي يدير الرؤوس منتصبة على الطريق تنتظرهم… وهناك “عرفات” التي كأنك تسمع فيها صرير أبواب السماء ترقبهم… وهناك “المزدلفة” التي لن تدَعهم قبل أن تذيقهم مأدبة روحية… وبعد خطوات هناك المكان الذي يُظهِرون فيه كامل تسليم أنفسهم لله ويرجمون عقولهم المعاشية الدنيوية، ويضحون عن أنفسهم ويعيشون في عوالم أحاسيسهم عيد البراءة والتطهر. ثم يتوجهون إلى الكعبة وإلى كعبة قلوبهم… يتوجهون من الله إلى الله، وينهون عروجهم ونزولهم، وينثرون ابتساماتهم على حظوظهم بإلهام من تداعيات “الفناء في الله” و”البقاء بالله”.
“مِنًى” رمز سماوي للتضحية والحنان
“مِنًى” التي فرشت رداءها في عالم التضحية ببريقها الساحر تقوم بإسماع أشعارها حتى قمم تلال المزدلفة، وتحاول أن تدخل إليها، بل تود حتى تجاوزها لتسلم على عرفات… تسلّم على عرفات، وترشد ضيوفها -الذين يلبثون عندها أربعا وعشرين ساعة- وتسلمهم إلى عرفات.
“منى” بالنسبة إليّ رمز سماوي للتضحية والحنان، ولمعنى الانقياد للأمر في جو من المهابة في الأرض، وحضن دافئ. هي عنوان للاستسلام وكأنه عش للإخلاص الذي لا يطلب أي مقابل أو ثمن. و”مِنًى” التي يسكنها لبضعة أيام من لا يملك بيتا أو مسكنا، ولا منـزلا أو وطنا مكان وموضع سرّي. فما أكثر المشاعر التي تموج في قلب كل من لم يغلق قلبه للآخرة في هذا الموضع الحافل بالأسرار. أما نحن فنحس أن “مِنًى” قد امتزجت بأرواحنا إلى درجة أننا نحس وكأنها تنبض في قلوبنا وتعيش في أعصابنا. وما أن نخطو إليها خطوة حتى نشعر بأنها احتضنت روحنا (من الملفت للنظر أنها أول مكان احتضن رسولنا لله)، وأنها تشير إلى الطرق المؤدية إلى ما وراء هذه الآفاق، وأنها تكملنا، وأنها تمتزج بعالم مشاعرنا، وهكذا نمتزج ونتوحد معها.
وبينما نبدأ بالتهيؤ في “مِنًى”، ونحاول أن نعطي أجنحة لأرواحنا، إذا بنا نرى عرفات وقد تزينت مثل غرفة عروس، وتهيأت لاستقبال زوارها مثل مرفأ أو ميناء أو ميدان أو قاعدة للانطلاق… تنتظر ضيوف الرحمن الذين يسرعون إليها بلهفةِ مَنْ ألمّ به داء الوصال… ضيوف الرحمن الذين يسرعون إليها بحثا عن احتمال جديد وإمكانية جديدة.
إلى أحضان “عرفات” يسرع ضيوف الرحمن
لعرفات نورانية متميزة، وللزمن الذي ينقضي فيها عمق آخر، بحيث إن كل روح استطاع نيل سعادة الوصول إلى هذه الحاضرة لا يفنى ولا يموت كموت غيره من أصحاب الدنيا. وكل من قضى ساعات من عمره على عرفات يتفتح طوال حياته كزهرة، ولا يشحب ولا يبهت لونه أبدا؛ فالدقائق الحانية المليئة بالعشق والوجد والشِّعر تبرق من منافذ ومن عيون أرواحنا على الدوام وتلتمع؛ ويطن في آذاننا صوت الذين يعلنون إيمانهم المزين بالعشق والوجد مغردين تغريد البلابل… يعلنون إيمانهم ومحبتهم وعرفانهم المتين المستقر في أخفى مناطق قلوبهم، فيثيرون قلوبنا التي يغمرها الشوق آخذين بأيدينا إلى لذائذ لا يمكن بلوغها، ويهيجون مشاعرنا بألطاف ناضجة تشبع كل جوع وتضع مسحة من السحر على عيوننا -مثل استغناء الموجودات التي تملك حنكة وتجربة- وتجول بنا داخل غِنى أنفسنا.
الشروق في عرفات والغروب يكون دائما في جو من المهابة والعمق. ومن المحتمل أنه ما من شاعر بليغ يستطيع الترنم بأبيات كالتي تترنم بها عرفات وتسكبها في قلوبنا، أو تهمس لنا بحكمة وجودنا وغايته. وأنا أرى أنه لا بد لكل من يرغب في الوصول إلى رقة في الروح أن يتوجه إلى عرفات مرة واحدة في عمره على الأقل، ويمتزج بجوّها ويعيشه، ويتنفس شروق عرفات وغروبها كتنفسه الأوكسجين.
أنين الإنسان وأنين “عرفات“
يعيش الإنسان في عرفات جو الدعاء والتضرع، ويطلق الآهات الحبيسة في قلبه التي ترتعش منها جوانحه. أما الأدعية بعد فترة العصر فتكون أكثر عمقا، لأنها تبدو وكأنها قد تضمخت بعطر وجوٍّ مِن وداع حزين، وتشبه الأصواتُ والأنفاس أصوات الملائكة فيما وراء السماوات، حتى تصل إلى ذروة السعة والنقاء. وكلما سمع الإنسان الآهات المنبعثة من سهل عرفات يشعر من الجو الأخروي لهذه الأصوات، ومن الرقة والشفقة والرجاء الذي يحدثه الأمل في السعادة الأبدية، بأنه قد أصبح شابا وخالدا، وأنه اتسع وولج من فرجة باب كبير. أما عندما تغرب الشمس، وينشر الظلام جناحه فوق الأفق جالبا معه مشاعر فوارة من مشاعر الوداع، نتخيل وكأن الآمال قد تجسمت وبدأت تسيل في داخلنا، وأن مشاعرنا قد تنورت بفيض عرفات وبركتها، وأننا قد انسللنا من قوالبنا الجسدية -كما يحدث في الأحلام- ويممنا شطر نَواحٍ روحية ومعنوية غير واضحة المعالم تماما، وأننا بدأنا نئن كأنين عرفات، وأننا مع غروب الشمس ذبنا وانتهينا، وأننا قد تحولنا إلى آهات مثل الآهات التي تطرق أسماعنا في عرفات، بل إلى صراخ… ونحس بأننا قد تخلصنا من أثقالنا واكتسبنا أجنحة، ونحسب أن ماهيتنا قد تغيرت وتحولت إلى ماهية روحية وكائن روحاني، فيأخذنا الذهول ونتسمر في أماكننا.
“عرفات” سفح من سفوح الرحمة
عرفات ميدان يسود فيه الأمل والقلق مثل ميدان البعث والحشر يوم القيامة، وسفح من سفوح الرحمة. هي موطن لهطول الرحمة الإلهية على قلوبنا كالغيث، كأن الحوادث كلها تجري في إطار من الأمل، وكأن الإنسان يتجول فيها طوال يومه بين مواكب الملائكة، ويتذكر الآخرة دوما في قيامه وقعوده. يتجول الناس في سهلها وكل واحد منهم كأنه قد انسلخ من كل شيء دنيوي، لا يفكر إلا بحساب الآخرة وبالميزان… يتجول كالأشباح حاملا معه قلقه وخشيته، وكذلك أمله في الرحمة الإلهية، يرجو نيل عفو ربه، ويعيش خيال نجاته وفوزه، ويستفيد من يومه الوحيد هناك ويستغله كاملاً لكي يحصل على ألطاف سَنة كاملة وإلهاماتها… يستغل هذا اليوم، ولكنه ما أن يرى نفسه في موضع آخر وفي وقت دعاء ومناسبة تضرع، حتى يرى أنه لا يستطيع إلا الاندماج في جو الدعاء والتضرع.
التوجه إلى “مزدلفة” كأنه توجه إلى الأبدية
لا مناص أمامه من هذا، لأن مزدلفة بالقرب منه تنتظره على بعد خطوات معدودة. فما أن نتلقى إشارة بأن مزدلفة في انتظارنا، حتى نترك مكاننا الذي تحف به الأضواء والأنوار في عرفات التي تبتسم لنا بسمات الأمل. وبدرجة قرب السجود من الله بالنسبة إلى الركوع، نتوجه نحو مزدلفة التي تعد عنوان القرب من الله.. نتوجه إلى مزدلفة وكأننا نتوجه إلى الأبدية، أو نسير إلى الله تعالى. في هذا المكان المبارك الذي يكون البدر آنذاك قد قارب على التمام، فتماوجت الأنوار في السهول والجبال، وفي السفوح والوديان… يبدو كأن السماء قد دنت من الأرض ونزلت إليها، وكأن الأرض قد ارتفعت إلى السماء، وتحولت إليها. وبينما تحتضننا هذه الأحاسيس نشعر كأننا -ونحن في طريقنا إلى الله- في ميناء جديد، وشاطئ جديد، وفي سفح جديد. وضمن أجواء مزدلفة التي لم تتغير منذ إقامة الكعبة، وفي وُجُوهِ الحجاج التي ينعكس عليها نور السماء، نسمع أصوات هؤلاء العباد المخلصين الضارعين إلى الله تعالى… نسمعها في أجسادنا وفي أرواحنا وفي قلوبنا. عند ذلك نتوهم أننا أصبحنا في عالم آخر، وأننا نرافق الملائكة في عالم الملكوت ونتصادق معهم… عند ذلك ندع أنفسنا تماما ونتركها في لجة رحمة الله تعالى الواسعة.
يقول ابن عباس رضي الله عنه إن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم حصل على وصفة مهمة وصريحة في المزدلفة بخصوص أمته وخلاصها، لم يستطع الحصول عليها في عرفات. وكم كان حبيبا إلى قلبي أن يكون هذا الرأي صحيحا مائة في المائة ولكان من حق المزدلفة -التي تقربنا من الله مثلما يقربنا السجود لـه- أن تطلب منا ضراعة خاصة، وأنيناً وبكاء آخر يقربنا من الله تعالى.
الأضواء المنبعثة من المصابيح الموجودة في أرجاء المزدلفة، والوجوه النيّرة للحجاج، ونظراتهم التي ضببتها الدموع، وصدورهم التي تموج بالانفعالات، تضيف إلى ساحة هذا المكان المبارك -الذي لا نعرف سوى ليله- جمالا آخر يأخذ بالألباب. أما عندما يتقدم الليل فإن سحره يزداد ويتعمق. وبينما يستريح بعضهم تهيؤاً لغد حافل بالنشاط والجهد، ترى آخرين وهم يقضون الليل حتى الصباح في الصلاة والعبادة. ولا يدري أحد بماذا يفكر هؤلاء من أصحاب الأرواح السامية الذين حبسوا أصواتهم في صدورهم، ولكنهم يوصلون نبض قلوبهم إلى قلوب أهل القلوب… لا أحد يدري بماذا يفكر هؤلاء، ولا ماذا يقولون، ولا ماذا يهمسون لأنفسهم، ولا ما يخطر على بالهم. أصوات قلوبهم تتردد على الدوام في مستويات عالية سامية، وتتسابق مع أنفاس الملائكة وتكون معها كفرسَي رهان. وهؤلاء العمالقة الذين تجاوزوا الزمان، يستمعون إلى قلوبهم ويتكلمون بها. وبجانبِ وقَبْلَ لحن القلوب التي يترنم بها هؤلاء، بل وقبل قبل هذا، ينصتون ويحاولون سماع جميع الأنغام التي يستطيعون جمعها في كورس واحد من ضرب ريشة مشاعرهم على أوتار قلوبهم… يسمعونها معا وينصتون لها معا، ثم يرتشفون ماضيهم مع يومهم هذا، وكأنهم يرتشفون نغمة مليئة بالبهجة والحبور.
وعندما تلوح علامات الفجر في الأفق تبدأ جميع المشاعر والأحاسيس التي هاجت في عرفات بالانسياب إلى مزدلفة بعد أن تكون قد تضاعفت، تنساب مختلطة بأصوات أنين وبكاء مع ابيضاض وجه السماء بعد الفجر… توجّهٌ إلى الله تعالى خارج أوقات الصلوات وتوجّهٌ نحوه في الصلوات… أما الأدعية المنسابة إلى الصلوات والموجودة فيها والتي تعد بعدا من أبعاد القرب من الله تعالى فتأخذ عمقا متميزا آخر.
كأن هذه الأدعية ملابس من حرير تحيط بأجسادنا، أو أيادٍ سماوية تضيء آمالنا، وتمنح السلوان لآلامنا، أو كأنها ماء ينـزل بردا وسلاما على صدورنا التي تلتهب فيها النيران، أو كأنها صوت أذان يسمعنا الحقيقة الكبرى فيرسل الرعشة إلى قلوبنا… وأحياناً تقوم بجمع أشتات دنيانا السابقة، وتلم أجزاءها المتناثرة، وتسمعنا من المعاني عن حقيقة أنفسنا وجوهرها وعن خلودنا ودنيانا وعُقبانا ما يجعلنا نكتشف أنفسنا من جديد، ونتعرف على حقيقة ذواتنا، وننظر إلى الدنيا نظرة اعتبار ومن زاوية جديدة، ونشعر بقرب من دار العقبى، ونراها أكثر صفاء وأشد وضوحاً.
تستمر هذه التضرعات والتوسلات حتى شروق الشمس وظهورها في الأفق معلنة عن ميلاد يوم جديد. أما الجباه التي بقيت ساجدة حتى ذلك الحين فإنها في أثناء شروق الشمس تبدو وكأنها تشد الرحال من جديد لبلوغ قُرب آخر، وتبدأ برحلتها. أما الآن فأمامنا »مِنًى« التي أتيناها سابقا وسلمنا على وِديانها واديا واديا… مِنًى التي يلجم فيها أصحاب الأرواح الصافية منطقهم، ويعطون زمامهم بيد الروح… مِنًى التي يبدي فيها الواصلون إلى مرتبة التسليم انقيادَهم… مِنًى التي لجمت عقول ومنطق آلاف بل مئات الآلاف من الناس منذ عهد آدم عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام، ومنه إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وربطت تقييمهم للأمور ووزنهم لها بالقلب… وأخيرا وبعد هذا كله فمِنًى هي المكان الذي تأخذ فيها النفس نصيبها بعد رجم الشيطان، وفيها يتم التمثيل الجماعي لموضوع التعبد الذي يعد أساس العبودية.
وما أكثر ما يتم عمله هناك بجانب رمي الجمرات؛ تقديم الأضاحي والحلق وتبديل ملابس الإحرام ثم أداء فرض الطواف الذي يتم في جو من مشاعر روحية عالية… هذا هو بعض ما يؤدى هنا.
التحلل من جميع الأنانيات
يقوم الحاج منذ مغادرته بيته وطوال طريق رحلته بالتحلل من جميع أنانياته، الواحدة منها تلو الأخرى. أما من ناحية حياته القلبية والروحية فيتكامل ويتزين مثل قطعة مزينة من الحرير. أجل!.. إن الإنسان وهو في رحلته النورانية هذه يتعرف على أقدم الحقائق التي لا تبلى أبدا، وعلى الحقائق الأزلية التي تبقى نضرة على الدوام، ويمتزج معها. يصل هناك إلى أحوال لن ينساها أبدا. أما بالنسبة لمن يدرك حقيقة وكنه ما يؤديه في هذه الرحلة الأرضية/السماوية، والألطاف الإلهية المعنوية التي تنهمر عليه، والذكريات التي يحصل عليها، فإنه يكسب عمقا قلبيا وارتباطا أقوى بالدار الآخرة. وتظل ألوان السماء، وأصوات الحجيج تملأ مخيلتنا، وتلف أرواحنا، وتشخص أمام أعين أرواحنا طوال أعمارنا.
لا يمكن ذكر أي مكان آخر غير الكعبة وما يحيط بها، لـه نفس الجاذبية والسحر، وإن كان هذا مشوبا بشيء من الحزن. ففي حرمها يشاهد الإنسان في كل حين جمالا أسطوريا، ويقطف هناك كل شيء وكأنه أنضج فاكهة وأحلاها، ويأكلها. والمحظوظون الذين يصلون إلى سعادة تمريغ وجوههم هناك سيتخلصون من وهم البحث عن مكان عبادة آخر، وحتى غروب عمرهم وانتهائه لن يستطيعوا نسيان السحر ذي البعد الأخروي لهذا المكان أبدا.
* الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.
Leave a Reply