حدَّثَتْ السيدة الفاضلة “رفيعة هانم” والدة الأستاذ “فتح الله كولن” فقالت: “كنتُ في أغلب الليالي أستيقظ فزعةً على صوت ابني وقد نهض من نومه، واقفاً على سريره رافعاً يديه بضراعة وهو يهتف: “لبيك يا رسول الله” ثم لا يلبث حتى يعود إلى النوم من جديد. لقد كنت أُحسُّ في ذلك الصوت الطفولي البرئ بشآبيب من الشهب الخاطفة وهي تخترق كياني كلَّه، فتنتابني قشعريرة تخضُّ بدني من قمَّة الرأس إلى أخمص القدمين، ثم تنطلق مسرعةً لتقطع المسافات وتستقرَّ في خاتمة الرحلة على أعتاب الحضرة المصطفوية، وكأنه بهتافه هذا كان يعاهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينصره وينصر دعوته ودينه إذا بلغ النضج والرشد”.([1])
أبرز ما جدد كولن هو أسلوب الخطاب الدعوي. فقد جاء بتفكير جديد لا عهد لنا به، وهو مزجه بين أفكار الوجدانات والضمائر، وأفكار الأذهان والعقول، فأحدث بذلك ثورة في دولة القلم لم يكن أحد يتوقعها
فهذه الهتفة على قصرها هي مفتاح شخصية “كولن”، وعلى ضوئها يمكننا قراءة نفس هذا الرجل، والولوج إلى جوانيَّاته الفكرية والوجدانية، وجيشاناته الإيمانية. فهذه الهتفة العفوية التلقائية من فم هذا الطفل البرئ تَنمُّ عن نفس طافحة بمحبة الرسول في سِنٍّ مبكرة جداً. وهذه المحبة التي بلغت حدّ العشق والهيام استنبتها في نفسه أبواه منذ نعومة أظفاره، فكبرت معه ونمت بنموه، فشكلت وجدانه، وصنعت ذهنه، وأملت عليه خواطره وأفكاره، ورسمت طريقه، وسيطرت على أجزاء نفسه، وحشاشة لبِّه وروحه، فأية جزئية من جزئيات فكره هي مرآة عاكسة تعكس صورة من صور المحبة التي تطفح بها مشاعره وأحاسيسه.
فجذوة هذه المحبة لنبي بني الإنسان، تزداد مع الأيام توقداً وتوهجاً، وهي التي أَملَتْ عليه فصول كتابه “النور الخالد” في حياة الرسول وسيرته، حيث سكب فيه رحيق روحه، وحبّات فؤاده، وحشاشة قلبه.. فالمحبة إذا ما ظلّت تتأجّج في حنايا القلوب ولم تخرج إلى الملأ أحرقتْ وربما قتلتْ.
فحياته الإيمانية المروية بينابيع المحبة تتساكب في جداول مسترسلة عبرَ قنوات فكرية ووجدانية في كتبه مقالاته وأحاديثه تحت ظلال من الوداعة والصفاء والروح السمحاء. إنه صبور دؤوب كدود، إذا كتب أو تحدث أو خطب أو وعظ أو ناقش أو حاور، في روحه خضرة تشيع في كلمات كتبه ومقالاته وأبحاثه، وفي قلبه حزن عذْب يسري في أوصال كتاباته، وفي ذهنه قلق مضنٍ، ولوعة مشجية لما تعاني منه أمته من آلام وأوجاع، إذا جالسْتَه طواك في صدره، وضمك إلى قلبه، وحَنا عليك حُنُوَ الوالد الشفوق، عبقري الأحزان لكنه للحزانى عزاء وسلوان، بكَّاء لكنه لا يني يكفكف الدموع، ويضمد الجراح، ويرشد الضال، ويهدي التائه، ويأخذ بيد الضائع، مؤكداً بأن العالم اليوم محتاج إلى إحياء فكرة الأخوة البشرية لإغاثة الملهوف والمكروب والمظلوم في بقاع الأرض كلها.
وفي كتابه القيم “ترانيم روح وأشجان قلب”([2]) يصف “كولن” طريق خلاص الإنسانية فيقول: “إن الأفكار النضرة والأنوار التي أهداها الإسلام للفكر الإنساني سماوية كلها، وليست من أي منبع آخر، ولم ترضع من أفكار أخرى، أو تختلط مع أضواء أجنبية، ولم يتكدر صفاؤها بتيارات أخرى، ولم يُشْعِلْ فتيلها من مواقد أخرى، بل على العكس، فكل بارقة ضوء، وكل بركة، وكل وجه من وجوه الجمال وكل طعم ولذة مقدمة من قبله إنما هي ثمرة من ثمار ما وراء السماوات، لم تمسسها يد أحد، ولو لم تكن خصومة الأعداء وأفكارهم وأحكامهم المسبقة الظالمة، ولا جهل الأصدقاء وجحودهم لاجتمعت الإنسانية جمعاء اليوم حول مائدته السماوية واتحدتْ وتصافحتْ”.
إن مخيلته الواسعة والخصبة طافحة بأيام الأمة، وبتاريخها بجزئياته وكلياته، ليس من أجل التغني به والإشادة بعظمته فحسب، بل من أجل الإفادة منه والاعتبار به، ومن أجل بناء الجديد المبتكر على أسسه وقواعده. إنه يريد “الغد” ولكنه لا يستعجله، ويسعى إلى “الآتي” ولكنه لا يَبُتُّه عن أصوله الأولى، ولا يفاصل بينه وبين نواصع الماضي وعبقريات إنجازاته الحضارية والإيمانية.
إن امتلاكه لناصية البيان وما أُوتيه من قدرة على بناء الأفكار وهندسة المعاني، مكَّنتْه من تجلية ما اغبرَّ من حضارة الأمة، وما تُنُوسيَ من أخلاقياتها وقواعد السلوك والآداب عندها، فذواء الأمة، ويبس نضارتها، وجفاف عقيدتها هو ما يؤرقه ويقلقه ويحثه دوما على البحث عما يمكن أن يعيد لها ما فقدته، وعاشت تنتظر عودته من جديد.
كنت أُحسُّ في ذلك الصوت الطفولي البرئ بشآبيب من الشهب الخاطفة وهي تخترق كياني كلَّه، فتنتابني قشعريرة تخضُّ بدني من قمَّة الرأس إلى أخمص القدمين
فالابتكار والتجديد ديدنه في كل أمر من أمور الدعوة، ولعل أبرز ما تفوَّق في تجديده هو أسلوب الخطاب الدعوي. فقد جاء بتفكير جديد لا عهد لنا به، وهو مزجه بين أفكار الوجدانات والضمائر، وأفكار الأذهان والعقول، فأحدث بذلك ثورة في دولة القلم لم يكن أحد يتوقعها، واستطاع هذا الفكر المتميز أن يخالط ضمير المفكرين الأتراك وغيرهم من مفكري بلدان العالم الإسلامي، فحرّك بذلك الفكر الإنساني نحو الأعلى لكي تتحرك الأمة في تفكيرها في الاتجاه نفسه.
إن أساه الرحي يكاد يتفجر أنهاراً من العذابات وهو يشاهد انحباس الأمة في قوالبها الروحية والفكرية والحضارية الجامدة الضيقة، فهو يريد تحطيم هذه القوالب القَتَّالة، ونسف هذه الانحسارات الخانقة، والإمساك بها، والحيلولة بينها وبين السقوط المريع، والانهيار المدوي، ثم العمل الدؤوب على تبديد شعورها باليأس والإحباط الذي يبلغ في بعض الأحيان إلى حدّ جعل الكثيرين من أبنائها البنَّائين يتخلون في ذروة يأسهم عما في أيديهم من لبِنات البناء ولسان حالهم يقول “لا جدوى. لا جدوى…!
فهو -أي كولن-يرى أنه على الرغم من أن روح الأمة قد غشيها من شتاءات التاريخ ما غشيها، وعلى الرغم من كونها حبيسة كيانها الأجوف، تتغذى هناك من بقايا فتات إيماني وحضاري ماضيين، غير أنها لا زالت تومض وترسل إيماضها من خلف مئات الحجب، ولا زلنا نستقبل التماعاتها التي تفصح عن نفسها بين وقت وآخر وكأنها تقول: “إنني لا زلت هنا، ولا زلت قادرة على الإحياء”.. وهي في تأرجحها بين الاحتجاب والانكشاف، وبين القبض والبسط تومئ للمستبصرين من ذوي الفكر أن يزيدوا من التفاتهم إليها، وعكوفهم عليها، إذا كانوا حقاً يبتغون لأمتهم البعث والإحياء.
أما كتابه “ونحن نبني حضارتنا” فهو واحد من أجلّ ما وعته الكتابة المعاصرة، وانطوت عليه من أسرار الروح والضمير، ومن أنصع الصفحات في تاريخ المعاني العليا التي ترفع صاحبها كواحد من روّاد الروح الإنساني الذي لا تقوم الحضارات إلا به. إنه هرم فكري وروحي يلفت الأنظار إلى أن الانبعاث الحضاري لن يتم إلا بفاعلية روحية تمتلك الشعوب، وتحرك ساكنها وتبتعث راكدها.
إن هتافه الطفولي في باكورة سنيه “لبيك يا رسول الله” ظل المُلْهِم العظيم لعقله ووجدانه. فكتاباته وأحاديثه وخطبه ومواعظه بنفحاتها العلوية إنما هي اليوم أقباس من تلك الهتفة، وذلك العهد الذي قطعه على نفسه لرسوله عليه السلام بأن ينصره وينصر رسالته ودعوته ودينه، ومنذ أن أخذ القلم وشرع في الكتابة وهو يسعى لكي يوحد العقول، ويربطها برباط الرَّبانية ويؤلف بين القلوب الشوّاقة إلى النور، ويستجيش مشاعر الجماعات لكي تكوِّن هالة نورانية تؤطر صورة الرسول عليه السلام في أفكارهم ومشاعرهم.
([1]) محمد فتح الله كولن -فكرة وسيرة-
([2]) ترانيم روح وأشجان قلب، ص:12
Leave a Reply