مرة أخرى يطفو موضوع الأمهات المعتصمات على الساحة السياسية في تركيا؛ حيث تواصل الأمهات، اللاتي يقلن إن أبناءهن ذهبوا إلى الجبال للمحاربة في صفوف حزب العمال الكردستاني، الجلوس للأسبوع الثاني على التوالي أمام مبنى حزب الشعوب الديمقراطي في ديار بكر. ويحظى هذا الإجراء من جانب الأمهات بدعم قوي من قبل الوزراء، ومسؤولي الدولة، والسياسيين من مختلف الأحزاب، بالإضافة إلى وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية، التي دعمت، هي الأخرى، موقف هؤلاء الأمهات.

ومع ذلك، فالمتابع لسير الأحداث يدرك أن ما تقوم به الأمهات أمام مبنى حزب الشعوب الديمقراطي لم يكن السابقة الأولى لمثل هذه الفعاليات؛ فقد تجمَّع صباح أمس، أمام مبنى حزب العدالة والتنمية، في سوتلوجه أيضاً، عدد من الأمهات اللاتي كان أبناؤهن يدرسون في الأكاديميات العسكرية، وتم القبض عليهم في أعقاب محاولة الانقلاب التي وقعت في 15 يوليو، وحُكِمَ عليهم بالسجن المؤبد. الأمر المختلف هذه المرة هو أن السلطات لم تُقدم الدعم لهؤلاء الأمهات كما فعلت مع الأمهات اللاتي اعتصمن أمام مبنى حزب الشعوب الديمقراطي.

قالت لهم الشرطة في البداية “في إمكانكن الجلوس” .. ومع الاهتمام المتزايد من جانب وسائل الإعلام بالأمر، عدلت عن رأيها، وطلبت منهن مغادرة المنطقة المحيطة بمبنى حزب العدالة والتنمية. حاولت تلك الأمهات الذهاب إلى الحديقة العامة في سوتلوجه، لكن الشرطة لم تسمح بذلك أيضاً، ولم تكتف مجموعة من رجال الشرطة بهذا، بل قاموا بتعقب الأمهات حتى محطة المتروباص (حافلة سريعة في إسطنبول تجمع بين قطارات الأنفاق والحافلة العادية، وتسير في مسار مغلق). وبالفعل استقلت الأمهات المتروباص، وانتقلن إلى حي تشاغليان.

من ناحيتنا، تحدثنا إلى عدد من الأمهات اللاتي اعتصمن عند مبنى حزب العدالة والتنمية عن موقف الدولة المتباين، وعدم معاملتهم نفس معاملة الأمهات المعتصمات عند حزب الشعوب الديمقراطي.

تحدثتُ في البداية مع السيدة آيتن غولَشجي. بدأت غولَشجي، التي قدمت من منطقة دنيزلي، حديثها معي  بالتأكيد على براءة ابنها، وأنه لم يرتكب جُرماً يُعاقب عليه. حكت غولَشجي أن ابنها ياسين لم يكن قد تجاوز عشرين عاماً عندما وقع الانقلاب، وأنه كان يدرس حينذاك في الصف الثالث في أكاديمية القوات الجوية. تقول غولَشجي إن ياسين كان موجوداً في المعسكر في يالوفا وقت وقوع محاولة الانقلاب، بمعنى أنه لم يضر أحداً، بالإضافة إلى أنهم لم يجدوا نقصاً في عدد طلقات الرصاص التي في عهدته.  وعلى الرغم من أنهم تقدموا إلى المحكمة بهذه الأدلة، إلى جانب عدد آخر من المستندات التي تثبت براءته، إلا أن هذا لم يُثني المحكمة عن اتخاذ قرارها ضده. وتضيف أنهم كانوا يلتقون ابنهم في العطلات، أما الآن فلا يستطيعون رؤيته إلا في الأوقات المخصصة للزيارة في السجن.

تقول غولَشجي “سلَّمنا ابننا إلى الدولة. إذا كان القادة هم الذين يفعلون هذا السوء بهؤلاء الشباب، فلا نلقي باللوم إذن على أبنائنا.

لقد قاموا بإطلاق سراح بعضاً منهم؛ لأنهم كانوا يتدربون على القفز بالمظلات في تلك الفترة. خرج حوالي 60 طالباً، وأصدرت المحكمة حكماً بالسجن المؤبد على 259 شخصاً آخرين”.

وعندما سألتها كيف اتخذت الأمهات القرار بالتوجه إلى مبنى حزب العدالة والتنمية في المنطقة، جاء ردها على النحو التالي:
“تقوم بعض الأمهات في ديار بكر في الوقت الراهن بعمل مماثل لما نقوم به، ومع ذلك يقدم لهن الجميع الدعم. قلنا لهم “نحن أيضاً أمهات، لدينا حقوق مثلهن”. لم نخطط مطلقاً للاعتصام أمام مبنى العدالة والتنمية. لقد جاء الأمر عفوياً. قرأتُ في الطريق مشاركة على موقع تويتر كانت تتحدث عن “البدء في التجمع أمام مبنى حزب العدالة والتنمية”. وجدنا ضالتنا في هذا الخبر، وتوجهنا على الفور، وانضممنا إلى هاتين العائلتين. بعدها جاء إلينا المراسلون الصحفيون، وقلنا لهم إننا نطالب بالعدالة والحرية لأبنائنا المسجونين. وفي المقابل، قامت الشرطة بسحب هوياتنا، وقاموا بالتحري عنا. في البداية قالوا لنا “اجلسن”، وبعدها تشددوا معنا، وقالوا “غير مسموح لكنَّ بالجلوس هنا”. هذا ما حدث”.

تقول غولَشجي إنهن أردن من وراء الجلوس أمام مبنى العدالة والتنمية أن تتاح لهن الفرصة للتحدث إلى أي من المسؤولين، ولكن أحداً لم يعرنا اهتمامه، وتضيف “الجميع يقول لنا “نعلم أن أبناءكن غير مذنبين”، ولكنهم لا يفعلون شيئًا. نريدهم أن يتحركوا لنجدتنا. سنظل ندافع عن حقوق أبنائنا اليوم وغداً وكل يوم”. تؤكد الأمهات أنهن سيواصلن الاعتصام يوم الأربعاء، ويتوقعن من الجميع دعمهن.

ومن جانبها، ذكرت والدة بيرات، السيدة مهمورة دَرالي التي قدمت من كاستامونو، أنهن عوملن بشكل سيء للغاية، كما لو كنَّ ليسوا مواطنات في هذا البلد. وتحكي دَرالي كيف كان ابنها يحلم أن يصير طياراً منذ أن كان في سن الرابعة، ولشغفه بهذا كان يصنع طائرات من الورق منذ أن كان طفلاً. وعلى الرغم من حصول بيرات على هندسة الكمبيوتر، إلا أنه فضل الالتحاق بأكاديمية القوات الجوية. وتحكي دَرالي عما حدث ليلة الانقلاب بقولها “كنا نعلم أن إبننا في المعسكر في تلك الليلة. بعدها طلب منا رئيس الجمهورية النزول إلى الشوارع، وبالفعل خرجنا. سمعنا بعد يومين أنه تم نقل إبننا إلى مركز الشرطة في أورهانلي، ومن هناك تم نقلهم مرة أخرى إلى تشاغليان، هذه هي رحلتنا إلى سيليفري”.

أما السيدة فاطمة أوكا، والدة بوراك أوكا، فقد بدا عليها الأسى الشديد لما حدث لابنها. حصل  بوراك، من مواليد 95، على المركز الأول في دراسته في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. كانت لديه الرغبة في البداية في أن يصبح طبيباً، لكنه ما لبث أن فضَّل أن يكون جنديًا حتى يخدم الأمة والوطن بشكل أكبر. وبالفعل التحق بأكاديمية القوات الجوية. وعلى الرغم من أنه كان يستطيع الدراسة في جامعة أق دنيز، إلا أنه فضل الأكاديمية على كل هذا.

اجتاز بوراك سنوات دراسته في الأكاديمية بنجاح حتى الصف الثالث. تقول السيدة أوكا “كانوا يخدعونهم عندما قالوا لهم  ليلة الانقلاب إنهم ذاهبون في مناورة عسكرية”. كانت أوكا تكرر باستمرار أن إبنها بريء، وأنه لم يمس أحداً بسوء. وتحكي عن أحداث نقله، هو وأقرانه، إلى سيليفري على النحو التالي: “قالوا لنا وقتها ‘إن أبناءكم غير مذنبين، وأن ما حدث هو إجراء احترازي” وأنهم “سيخرجون بعد أسبوع أو شهر على أقصى تقدير” ثم عادوا ليقولوا “سيخرجون بعد ثلاثة أشهر” ثم قالوا “بعد ستة أشهر”، وهكذا حتى مر الآن أربعة أعوام. أُحيل ملف القضية الآن إلى محكمة الاستئناف. لا يمكننا فعل أي شيء الآن”.

تقول أوكا إنهم جربوا العديد من الأساليب حتى الآن للإفراج عن أبنائهن؛ فقدموا التماسات، ولجأوا إلى الحكومة، وتوجهوا إلى المعارضة كذلك. لم يتركوا باباً إلا طرقوه، ومع هذا لم يعيرهم أحد أي اهتمام، وتضيف “رأينا مؤخراً ما تقوم به الأمهات في ديار بكر. كنا سعداء للغاية بهن. قلنا إن الحكومة تدعمهن، وتتجاهل مطالبنا على الرغم من أننا أيضا أمهات مثلهن تماماً. أخذ حزب العمال الكردستاني أبناءهن. أما نحن، فقد سلَّمنا أبناءنا إلى الدولة. كنا نظن أنهم سيدعموننا، ربما بشكل أكبر من دعمهم للأمهات الأخريات. قصدنا باب الحكومة، ورجونا الدولة، ولكنهم طردونا من هناك.  لم نجد أمامنا سوى الذهاب إلى الحديقة، والاعتصام بها، ولكنهم أخرجونا من هناك أيضاً”.

مريما سالك، هي إحدى السيدات اللاتي قدمن من فان. تقول مريما إن ابنها اختار الالتحاق بالجيش برغبته. ذكرت سالك المكلومة بفراق ولدها أن ابنها محكوم عليه الآن بالسجن المؤبد، على الرغم من أنه لم يرتكب جُرماً يُعاقب عليه، وتضيف أن ابنها لم يكن يفكر في شيء آخر سوى خدمة وطنه فقط. تؤكد سالك أيضاً أن ابنها كان متفوقاً في دراسته، وأن رغبته في أن يصبح طياراً هي التي دفعته إلى اختيار هذه المهنة. تُشدِّد مريما  كذلك على أن قلوبهن تحترق لفراق أبنائهن بنفس القدر الذي يشعر به الأمهات المعتصمات في ديار بكر، وتضيف “أبناؤنا كانوا طلاباً في مدرسة عسكرية. قال لي ابني في زيارتي له “حتى لو خرجتُ من هنا، فسأقف خلف وطني مدافعاً عنه من جديد”. إنه يظن أنه سيخرج من هناك”.

استهلت السيدة خديجة أرين، التي سُجن ابنها منذ ثلاث سنوات ونصف، حديثها معي بالتأكيد على براءة ابنها تاج الدين من كل التهم التي وجهت إليه بقولها “أمرهم هؤلاء القادة الخائنون بالنزول إلى الشارع، تحت زعم أن هناك تدريبات. لقد ساقوا ابني إلى الموت”، وتستطرد في قص حكاية ابنها قائلةً “كان متفوقاً في دراسته، والتحق بأكاديمية القوات الجوية؛ تلبيةً لرغبته في أن يصبح طياراً. عارضتُ قراره هذا في البداية، ولكني لم أرد أن أقف عائقاً أمام تحقيق حلم طفولته. أذكر أنني عندما ذهبتُ به للمرة الأولى إلى مدرسة الطيران الثانوية، وكان لا يزال في الثالثة عشرة من العمر، ورأيته وهو يرتدي الزي العسكري، ظللتُ أبكي يومها حتى عدتُ إلى قيصري، لم أكن أتصور أنني سأتركه هناك، وأغادر”.

تقول أرين إنها وثقت في الدولة، وسلَّمتها ابنها، ولكن الدولة خانت هذه الثقة، وتضيف “نريد محاكمة عادلة. ليتهم يبثون وقائع المحاكمة على التليفزيون كذلك. خرج الجنرالات خلال ستة أشهر أو سبعة. وبقي الطلاب في السجون يحملون وزر محاولة الانقلاب. كان الجنرال، الذي كان في السجن مع ابني، يقول له ستخرج من هنا خلال أسبوع، أما أنا فلن يدعوني أخرج. ولكن ما حدث أن جميع الجنرالات خرجوا… قصدنا باب دولتنا، من غيرها يمكنني أن أطلب ابني منه؟! لماذا لا يصغي حزب العدالة والتنمية، الذي يحكم تركيا الآن، لأصواتنا؟ أصبحنا غرباء في بلدنا. توجهت كذلك أربع مرات أو خمس إلى نواب البرلمان في يالوفا وقيصري، لكن لم يساعدنا أحد”.

تقول أرين إن الفنانين سارعوا بدعم الأمهات في ديار بكر، أما نحن فكانوا يفرون منا، كما لو كنا مصابين بالطاعون. وتشير إلى حجم الظلم الذي وقع على أبنائهن أثناء محاكمتهم بقولها “عندما ذهبنا إلى هناك، تحدث معنا في البداية نواب من البرلمان، وقالوا “سيتم إطلاق سراح كل من لم يصوب سلاحه إلى الدولة، وكل من لم يطلق رصاصة من بندقيته”. بل ووصل الأمر إلى قول أحد الجنرالات  في إحدى جلسات المحاكمة “لا تحاكموا طلاب الأكاديميات العسكرية معنا. ماذا بإمكان هؤلاء أن يفعلوا، إنهم ينفذون ما يؤمرون به”. لو أنهم تحروا العدالة في محاكمتهم، لما ظلوا هناك ثلاث سنوات”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: موقع أحوال تركية