عرف “كولن” أن الحركة التي وفَّقه الله إلى استحداثها عشية تلك الانعطافة، والتي بدأ في التجهيز لها على مدى عقود حالكة اشتدت فيها قبضة الطغيان، تُضيقُ الخناقَ على الإيمان، وتحارب رموزَه، كانت حركةً دفَعَ بها الله إلى الوجود ولا رادّ لأمر الله. ذلك لأن “كولن” يعتبر أن خطته الخدمية هي حراك مسترسل في الزمن، وإن خفي عن الأعين، انتهت إليه موجة الدفع المنبعثة من أعماق التاريخ، فأنعشته وبعثت فيه الروح.. تلك الموجة الولود التي حصلت على يد صاحب الرسالة الأشرف صلي الله عليه وسلم، وصحابته المكرمين، وشاء الله لها أن تستمر في الزمان، تتجدد على يد الأجيال المتلاحقة كلما تهيأت أسباب اليقظة وانتهت إليهم مدود الروح المنبعثة من عهود العز، فينهضون ويستأنفون السير، ويمضون على سبيلٍ يشاء الله أن يوطّده لدينه ولأمته خادمة الإنسانية.

 يعتبر “كولن” أن حركته الخدمية هي حراك مسترسل في الزمن.

 أفلح “كولن” بينما أخفق غيره

سدّد “كولن” حيث أخفق الماديون والإستراتيجيون المغترون بأيديولوجياتهم، والعَمُون بقوانين الجدلية والحتمية، وبتوهمات دوغمائية ربطوا بها فهمهم للتاريخ، فلم يعودوا معها يلتفتون إلى “الأبعاد القدرية” التي هي جزء راسخ في ماهية الوجود وحياة البشر وسير الأحداث وأطوار التاريخ.

لقد ظل كولن متيقنًا من أن حركته الدعوية التي بدأت بسيطة، وغِرَّة، وغير ذات طَوْل، سيترتب عنها النماء المتزايد، والتوسع المتسارع، والبركات المترادفات التي ستغدو بها قوة بنائية تشق طريقها بالدعوة، وستطال روافدها الخيرية كل صقع وبقعة من العالم.

 تيقن “كولن” من أن حركته الدعوية سيترتب عنها النماء والتوسع المتزايد، والبركات المترادفات، وستطال روافدها الخيرية كل صقع وبقعة من العالم.

 فرسان الخدمة في الديار العربية والإسلامية

لما حلت بالديار العربية والإسلامية الأفواج الأولى من رجال الخدمة، وانطلقت حركة تعمير يديرها فرسان آتون من ديار الآسِتانة، والتقاهم الناس في الورشات وأماكن العمل، وتعرفوا عليهم في المساجد والبيوت، وانعقدت شراكات اقتصادية وتجارية ساهمت في الانتعاشة، وفُتحت مدارس ومؤسسات تعليم سرعان ما عرفت التزاحم على أبوابها، وطابت نفوس شباب أتراك ممن نزلوا عمالاً ومتدربين (على الخدمة)، ولمسوا الطبع المشترك والأخلاق المتقاسمة مع من حلوا بينهم من إخوة الدين والملة، فانفتحوا على البيئة وتعددت القرانات.. طور آخر تتجدد به حياة مشتركة عاشها العرب والأتراك قرونًا متلاحقة تحت راية واحدة  يسدون الثغور حماية للبيضة والشرف.

لم ير أولياء الأمر عقليةَ الإجرام وثقافةَ المافيا تنتقل مع هذه الأفواج التركية إلى الوطن، ولا رأوا تصعيدًا لموجة فتح مقاصف ومرافق سياحة تفيض على المجتمع بمبيعاتها من الخمر، وبأخلاقها من الخلاعة والتردي المعنوي.. وبدل من ذلك رأوا رجالاً يستغرقهم العمل، وأخلاقًا تسمها العفة، بل رأوا حركة ثقافية تجارية مرشَّدة تتزايد، وأواصر إخاء تنعقد، ووشائج قربي تتوطد.

الطرق التي فتحتها الأنظمة تجاه تركيا، والمواصلات النشطة معها، والتسهيلات التي باتت تتيح للآلاف من الشباب والرجال والنساء أن يزوروا تركيا، بل وأن ينزلوها مسترزقين من تجارة الشنطة، لم تُشعْ في المجتمع ما أُمِّل لها أن تشيعه من أخلاق لادينية، وتحرر متغرب، وميوعة متسفلة، وإنما رأوها تنقل إلى الناس سلوكًا يجسّد الهمة في العمل، ومعاني الكفاح، وحسن التصرف، والاعتماد على النفس، وهي قيم تفتح أمام الفرد والجماعة باب التقويم البنّاء، والنقد الذكي، والوعي بحقيقة الانغلاق الاقتصادي والتجاري والسياسي الذي عليه المجتمع والوطن.

 كان العرب الذين يزورون تركيا يلمسون حقيقة التغيير والنهضة والاعتداد بالنفس الذي يسود بلاد الأناضول، وهي أحوال بقدر ما تُبهِج الأفئدة، تثير الحسرة والتوجع لغيابها في أوطانهم.

ولم يَفُتْهم إدراك أن السياسة في تلك البلاد صنعت كل يوم إنجازًا، ويديرها أحزاب منتخبة، وكان الإسلام من خلال رموز الدعوة والإصلاح يتصدر الحراك الاجتماعي، وكان الساسة المسلمون يحققون من النجاحات والرهانات ما تخجل به القوى المتغربة التي طالما عَزَتْ إلى العنصر المسلم العجز والتخلف، بل وطفقت ترميه بالتحجر ومعاداة المدنية.

——————————————–

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ129-132.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.