المحنة خلق من خلق الله تعالى، يرمي به من يشاء من عباده، على يد من يشاء من عبيده. والمحنة ابتلاء يتعرض لها المصلح والمفسد على حد سواء، ويصطلي بنارها الصالحون والطالحون في كل آن، إلا أنها عند أهل الاستقامة أبلغ وأشد. وهي المحنة التي كتبها الله على أهل الحق. وأهل الحق مأمورون بأن يصبروا ويثبتوا ويستمروا. والسبيل الأعظم إلى صبرهم وثباتهم هو علمهم بما ينتظرهم عند مولاهم من جزاء وإحسان وعطاء، واطلاعهم على ما تجرّعه الأنبياء عموما ونبينا صلى الله عليه وسلم خصوصا من أشد أنواع المحن والابتلاءات التي لم تضعف همتهم ولم تكسر شوكتهم؛ بل كان صبرهم وثباتهم وتدفق همتهم هو الرد الأمثل على كل محنة أو أذى.

وفي مسيرة الدعاة والعلماء والأولياء وخاصة منهم العاملين المجتهدين تمر محن وإحن واضطرابات أساسها العداء حينا، والحسد والحقد والغيرة حينا آخر، فتشتعل في نفوس المبغضين نار تتحول إلى كراهية وأحقاد، لا تريد من الدنيا إلا أن تحرق خصمها المثابر الناجح، فيختفي عندهم ويتلاشى كل وازع ديني أو رادع أخلاقي.

تكون المحن أكثر إيلاما عندما يتعرض لها الدعاة المخلصون على أيدي إخوانهم ممن ادعوا حملهم لرسالة الإسلام.

الخدمة والمحنة

وحركة الخدمة كغيرها من الحركات الرائدة عبر التاريخ تعرضت إلى محن عديدة وشديدة من تأسيسها قبل نصف قرن من الزمان تقريبا. وكانت محنا شديدة على يد أعداء الإسلام الذين نذروا حياتهم لتحطيم كل من يسعى لنهضة الأمة من كبوتها، وكأن شعارهم “لك أن تفعل ما تريد وتدعو إلى كل ما تريد، وتتبع نهج من تريد إلا الإسلام”.

لذلك عبر سنوات الخدمة الطويلة نراهم تعرضوا لأبنائها عامة ولأستاذها خاصة، وطاردوهم من مكان إلى مكان ومن جبل إلى جبل ومن بيت إلى بيت. ثم دفعوا به إلى المحاكم، وأوصلوه إلى أقصى درجات العقاب الظالم (الإعدام)، ولكن تشاء رعاية الله تعالى أن تحرسه وإخوانه وتحوطهم.

ورغم هذا الظلم والاستكبار والقهر والملاحقة والمتابعة صبر الأستاذ وصحبه وثبتوا، وبمشروعهم العظيم نهضوا، نعم نهضوا به رغم آلامهم واضطهادهم، واستمروا ونجحوا، وكل هذا بفضل منه سبحانه وتعالى.

أشد المحن

ولكن المحن تكون أكثر إيلاما وظلما وغشما عندما يتعرض لها الدعاة المخلصون على أيدي إخوانهم من الذين ادعوا حملهم لرسالة الإسلام. لذلك ومنذ البدايات أيضا وحتى الساعة كان مشروع الخدمة محط أنظار بعض الظلمة منهم الذين امتلأت قلوبهم بالحقد والحسد والغيرة والكراهية، لا سبب إلا لأنهم نجحوا حيث أخفق الآخرون، وبذلوا وضحوا حيث سارع إلى الكسب والأنا الآخرون.

وكانت المحن الأشد تتوالى على الأستاذ وإخوانه من هؤلاء الذين تتبعوا الخدمة وأستاذها بأقلامهم وألسنتهم وأموالهم، وتعاونوا مع الشيطان والإلحاد والعسكر، وتتبعوهم من بيت إلى بيت ومن مجسد إلى مسجد، ومن مدرسة إلى أخرى.

رجال “الخدمة” أشداء مع أنفسهم، رحماء مع غيرهم، لا ينامون على ضيم، ولا يتربصون بمن تربص بهم، ولا يوجد في قواميسهم مصطلح الانتقام

ولكن الأستاذ وفلسفته مع هؤلاء الذين هم إخوانه في الدين تختلف كثيرا عن أعداء الدين، فسعى إلى مواجهة الإيذاء والاعتداء والافتراء بالتواصل والتزاور والحوار من شرق تركيا إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. أمر إخوانه ورغبته بالتواصل مع هؤلاء وزيارتهم وتقديم الهدايا لهم، ودعوتهم إلى برامج الخدمة ومناسباتها، والتجوال معهم في أنحاء تركيا والعالم تأليفا لقلوبهم والسعي لتنقيتها مما أكلها من نار الحقد والحسد، فمنهم من اهتدى ومنهم من بقي جنديا أمينا يتبع شيطانه ونفسه المتهالكة.

ملحمة وأي ملحمة

ومع توالي المحن على الخدمة وأستاذها وحتى ساعتنا هذه يأبى هذا الرجل العظيم إلا أن يسطر ملحمة من دروس الحكمة والشجاعة والصبر والثبات حتى يصل النجاح والظفر. وقد رأينا عبر الأزمان أن للناس مع المحنة أحوالا. فمنهم من ألجمتهم المحنة، فسكنوا وناموا، وبعدها تلاشوا، ومنهم من أيقظتهم وانتبهوا من رقاد، واستعدوا لما هو قادم، وهناك آخرون لم يخضعوا للمحن التي عرفوها سنة عند الأنبياء والمصلحين، ولم توقظهم أبدا لأنهم ما عرفوا الرقاد والسهاد يوما، وإنما هي ألهبت حماسهم وأججت هممهم لاستثمار وتعويض كل خسارة نتجت عن المحنة. هكذا هم جيل الخدمة، أشداء أقوياء مع أنفسهم، رحماء مع غيرهم، لا ينامون على ضيم، ولكن لا يتربصون بمن تربص بهم، ولا يوجد في قواميسهم مصطلح الانتقام لأنهم أصحاب رسالة عظيمة أولا، ثم لأنهم يدركون تماما أن الله تعلى هو المنتقم الجبار الذي يقصم ظهور الظالمين. ولا تحسبن الله عافلا عما يعمل الظالمون.

هكذا هي فلسفة الأستاذ مع المحن مهما عظمت واشتدت: امنحوا المعتدين المفترين الظالمين فرصة كي يعودوا، فإن عادوا فاقبلوهم وافتحوا لهم صدوركم، هي القوة بعينها والشجاعة مع الحكمة، لا تراجع عن رسالتنا، لا فتور لا ضعف لا وهن، ولا أحقاد في النفوس ولا رغبة في الانتقام.

هذه هي فلسفة رجل هذا الزمان، محمد فتح الله كولن، فليسمعها وليعرفها الجميع. هو الإمام المجدد، الخادم لدين الله الخادم للإنسانية، هو أضعف خلق الله بين يدي الله، وهو الأسد الغشمشم الهصور في الذود عن إرث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الشجاع الذي لا يستكين ولا يلين في الصبر على حمل رسالة رسول الله، ونشر رحمته للمسلمين والعالمين.

لك الله يا أستاذنا العظيم، لكم الله يا فرسان الخدمة الأطهار.