قضية العنف عند كل من النورسي وكولن (٥)
إن معالجة “معضلة العنف” عند فتح الله كولن تبدأ من الفكر قبل أن تصبح حركة؛ تنطلق من الفكر لتحيي مواته وتُقوِّم اعوجاجه أولا، وبعد إحيائه تأتي مرحلة البناء عبر الـتأمل في حركيته، والعمل على توجيهها وفق الرؤية العامة ضمن مخطط شامل ضمن برامج واضحة. فمن لم يمر بهذه المراحل فهو إنسان ميت في نظر فتح الله كولن؛ وذلك من خلال قوله: “فالذين يعيشون من غير فكر هُم دُمى تُمثِّل فلسفة حياة الآخرين، هؤلاء يلهثون من شكل إلى شكل ولا يملُّون تبدل قوالبهم ويضطربون ما عاشوا في الانحراف بين الشعور والفكر والانزلاق في الشخصية والتمسح بين الصورة والسيرة … يُشْبهون بِرَك الماء العقيمة المحرومة من البركة، الخامدة المعرضة إلى الأسون فلا يبعد أن يتحولوا بمرور الزمان إلى مجمع الفيروسات ومأوى للمكروبات”[1]
إن فتح الله كولن يعتبر الفكر شجرة والحركة ثمرة، وشتان بين شجرة مثمرة وأخرى لا ثمار لها.
من هنا يبدأ منهج الحفر عند فتح الله كولن، لطرد كل العوامل الملوِّثة لسلامة الفطرة، أو المسببة لولادة العنف أو المساعدة عليها، حتى تكون ولادة الإنسان ولادة طبيعية خالية من كل صفات العنف أو مظاهره. وغير هذا المنهج لا يمكن إلا أن يشبه ولادة” قيصرية” عسيرة، تنتج لنا إنسانًا ملوَّثًا أو مريضًا بشيء من مظاهر العنف وصفاته.
من أجل ما سلف يركز فتح الله كولن في منهجه على تربية الإنسان في حظيرة الحب والسلام واللاعنف. فتأمل قوله في صاحب الفكر الذي يُعدُّه: ” إن رجل الفكر بطل للحب قبل كل شيء؛ فهو يحب الله حبًّا كحب المجنون، فيحس في ظل أجنحة الحب هذا بوشائج وثيقة تربطه مع الكائنات، فيحضن بشفقة كل إنسان وكل شيء …ويضم إلى صدره إنسان الوطن بحب يبلغ حد العشق… ويداعب ويشم الأطفال كبراعم للمستقبل… وينفث في الشباب الاستحالة إلى إنسان مثالي، إذ يباريهم في بلوغ المقاصد السامية… ويُشرّف الشيب بأخلص التوقير والاحترام…ويفتح سبيلاً للحوار مع الجميع… ويقارب بين شرائح المجتمع المختلفة بمدِّ جسورٍ مبتكرةٍ فوق المهاوي السحيقة الفاصلة بينها … “[2].
هكذا يُعِد فتح الله فسائل جيل المحبة والسلام واللاعنف، ليواجه ثقافة الكراهية والعنف. إن فتح الله كولن يعتبر الفكر شجرة والحركة ثمرة، وشتان بين شجرة مثمرة وأخرى لا ثمار لها. وشتان ما بين هذا المنهج ومناهج أولئك المساكين الذين يلهثون وراء برامج قصيرة المدى فرحين بما عملوا طامعين في مواجهة معضلة العنف؛ ويتعاملون مع هذا الإنسان العظيم وكأنه آلة صماء يمكن برمجتها وفق الأهواء في أيام معدودات، أو بالتعويل على الأفكار الميتة أو الوسائل المادية. شتان ما بين منهج التلاوة والتزكية والتعليم والحكمة، وبين مناهج غربية أو شرقية تائهة لا لون ولا طعم ولا رائحة لها.
من خصائص رجل الفكر عند “كولن” أن يكون مجنون حب، وحبيب الناس والوطن وكل الكائنات، بل ويذوب في ذلك الحب إلى درجة العشق.
ويظهر لنا كل ذلك من خلال الحفر في قضية الفكر عند فتح الله كولن، وهذا قبل التأمل في الشق المتعلق بالحركة، حينها نستبين منهج الرجل كاملاً في مواجهة قضية العنف والتشدد التي حيرت العالم المعاصر اليوم.
إن معالجة هذه الظاهرة عند كولن تعتبر قضية مركزية في مشروعه، كما بدت لنا ملامح ذلك من خلال التأمل في الشق الفكري المؤسس لرؤيته الإصلاحية، فهو ما لم ينقل الإنسان من عالم الأفكار الميتة أو المحرفة أو المشوهة إلى حقائقها البانية، لا يأمن التعويل على أي نوع من الناس في القيام بدوره الريادي الذي ينشده من رجل الفكر في رؤيته، بل من خصائص رجل الفكر الذي يريده “كولن” أن يكون مجنون حب، وحبيب الناس والوطن وكل الكائنات، بل ويذوب في ذلك الحب إلى درجة العشق. فأين نحن من أحلام المتهمين لهذا الرجل وحركة الخدمة بالعنف؟
إن الأستاذ كولن لم يقنع بمواجهة العنف، بل لقد تجاوز ذلك إلى اجتثاثه من منابعه عبر تبديل “فسائل العنف” وأخواتها بـ “فسائل المحبة والسلام”.
هذا غيض من فيض رؤية فتح الله كولن لقضية العنف في شقها الفكري، والتي شاركه فيها كثير من أهل الحل والعقد في زماننا المعاصر، إلا أن الرجل لم يتوقف عند الجانب النظري الفكري كما فعل كثير من المنظرين، بل اقتحم الصعاب منفردًا ليتحمل تبعات جرأته في الفكر، ويزيدها جرعات قوية في الجرأة على الحركة والفعل القاصد الموزون الذي غاب أو يكاد في هذا العصر.
لم يقنع كولن بمواجهة العنف، بل تجاوز ذلك إلى اجتثاثه من منابعه عبر تبديل “فسائل العنف” وأخواتها بـ “فسائل المحبة والسلام”.
فما هي معالم هذا الفعل الحضاري وهذه الرؤية الحركية؟ وكيف استطاع فتح الله كولن أن يترجم الفكر إلى حركة في مواجهة معضلة العنف؟ ذلك ما سنحاول بيانه في الأيام المقبلة إن بقي في العمر بقية، بإذن الله. (يتبع)
[1] . ونحن نقيم صرح الروح 120، ط4 دار النيل 2008م.
[2] . المصدر السابق 111.
Leave a Reply