يُقيم الإسلام التوازن بين العقل والقلب، لكن في تديّن المسلمين النسبي وتفاعلهم الكسبي، كثيرًا ما يكون التعمّق في المفردات العقلية على حساب القلب والروح، وكثيرًا ما يكون التوسّع في الشؤون الروحية على حساب العقل.
أما في دعوة فتح الله كولن، فإن حضور الروح فيها يُظهرها لأول وهلة كأنها حركة صوفية بحتة، حيث يتّسع الحديث عن الروح أُفُقيًّا، ويتعمّق رأسيًّا في كتاباتِ ومحاضراتِ وخطبِ ومناشطِ كولن، وهذا واضح حتى من عناوين كتبه المترجمة إلى العربية، مثل: “التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح”، “ونحن نقيم صرح الروح”، “القلوب الضارعة”، “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”، “ترانيم روح وأشجان قلب”.
نجح كولن في إيجاد ميزان دقيق لحركته بين العقل والقلب، بين المعرفة والعرفان، فتشكّل لهذه الحركة جناحان طارت بهما إلى آفاق العلو، وهي ما تزال تصعد بقوّة.
وأما مكانة الفكر في دعوة فتح الله، فهو من القوّة بمكان، بحيث أن اهتمامها بالفكر يجعلها حركةً فكريّة من طراز رفيع، ولاسيما أن صاحبها قام بحرث الأرضية الثقافية للفكر الإسلامي، مستخرجًا منها نقاط القوة لتعزيزها وتجسيدها، ونقاط الضعف لتجاوزها أو تقويتها إن أمكن، وركز على الموضوعات التي يكثر فيها اللبس، ويشتد الفهم المغلوط فيها، مثل موضوع القدَر الذي ناقشه في كتاب كامل: “القدَر في ضوء الكتاب والسنّة”؛ وموضوع الجهاد الذي تحوّل إلى برميل بارود عند أعداد غير قليلة من المسلمين، بسبب سوء الفهم، حيث عالجه بطريقة راقية في كتاب رائع سمّاه: “روح الجهاد وحقيقته في الإسلام”؛ ولما كانت الداروينية هي الأرضية التي مكّنت لموجات الإلحاد التي انتشرت في أوساط شباب تركيا في العقود القليلة الماضية، فقد ألّف كتابه القيم: “حقيقة الخلق ونظريّة التطور” وناقشها نقاشا علميًّا مستفيضًا.
أما الأسئلة القلقة والموضوعات الملتبسة فقد ناقشها كولن مع تلاميذه، وجمع بعض تلاميذه خلاصة كلامه في هذه المسائل في كتاب عنوانه “أسئلة العصر المحيِّرة”.
ولأهمّية القرآن في إرساء الفهم الفكري المستنير والموقف الروحي السليم، فقد ظل كولن يدارسه مع تلاميذه، ومرة أخرى جمع تلاميذه بعض ما سجّلوه في كتاب خاص اسمه “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”؛ وفعل شيئًا من هذا القبيل في كتابه الآخر “طرُق الإرشاد في الفكر والحياة”، وقريب منه كتاب “الموازين أو أضواء على الطريق”.
وفي كل هذه الكتب، وفي كل المقالات والخطب والمحاضرات، نجِد الدمج الكامل بين الروح والعقل، بين الأفكار والمشاعر، بتوازن دقيق أثبت نجاعته وفاعليته، فالعقل يوضح الطريق والقلب يوفر الزاد للمسير، وكلاهما يؤدّي إلى العروج في سماء الرقي الحضاري بفاعلية مشهودة.
اهتمام حركة كولن بالفكر يجعلها حركةً فكريّة من طراز رفيع، ولاسيما أن صاحبها قام بحرث الأرضية الثقافية للفكر الإسلامي، مستخرجًا نقاط القوة لتعزيزها، ونقاط الضعف لتجاوزها.
ونتيجة تخوف كولن من حدوث اختلال في مقادير العقل والقلب، وما ينتج عن ذلك من تداعيات، فإنه يلحّ على الدمج بين الأمرين، بحيث يجعلهما وجهين لعمْلة واحدة، بل يجعلهما جناحَين لبُراق الرقي الحضاري، ولو قرأنا كتابه “الموازين أو أضواء على الطريق”، لوجدنا مثل هذا التأكيد في عشرات المواضع.
وهكذا، نجح كولن في إيجاد ميزان دقيق لحركته بين العقل والقلب، بين المعرفة والعرفان، فتشكّل لهذه الحركة جناحان طارت بهما إلى آفاق العلو، وهي ما تزال تصعد بقوّة، متجاوزة العديد من الحركات التي سبقتها بسنوات طائلة. والسر الجوهري هو التوازن في كل شيء، بما في ذلك الأزمنة الثلاثة.
المصدر: كتاب “عبقرية فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ2، 2013م، ص71.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانية من تصرُّف محرر الموقع.
Leave a Reply