لو كان مالك بن نبي عالما متخصِّصا، محشورا في زاوية ضيِّقة من زوايا المعرفة البشرية، لكان البحثُ في “مشكلة المعرفة” عنده أمرًا هيِّنا، يكفي فيه بعضُ الجهد حتى يستوي على سوقه؛ لكن، ما دام الرجل موسوعة معرفية عميقة، ومشروعا فكريا عالميا، ونسقا منهجيا متميزا، فإنَّ صياغة محاضرةٍ، أو مقالٍ، أو بحثٍ، عن نظرية المعرفة في نتاجه يصبح أمرا مستعصيا؛ ولذا لا بدَّ أن أنبِّه أنَّ هذا العمل لا يعدو أن يكون مقاربة، ومدخلا، ومحاولة، يستتبع جهودا أخرى مكثفة، أطول نفسا، وأوفر جهدا ووقتا.
بدايةً، سنتعرض لـ”مشكلة المعرفة” كما هي في المصادر المتخصصة، ثم نقيس ما أنتجه مالك بن نبي في عناوين هذه المشكلة البعيدة الغور في حقل “الفلسفة” و”نظرية المعرفة” و”الأبستيمولوجيا”؛ معتمدين على أسلوب الاستشكال أكثر من أسلوب الحكم والقطع والختم، ذلك أنَّ الحوار الفعَّال حريٌّ بإجلاء الصورة وتوضيحها، ولقد قرَّر بعض العلماء أنَّ “الاستشكال علمٌ”، وهو مفيد إذا لم يحِد عن الأمانة والانضباط والوضوح.
فلنحاول أن نكون كذلك في هذه المداخلة، سائلين الله التوفيق والسداد.
مشكلة المعرفة
يقول محمد باقر الصدر، في كتابة “فلسفتنا”: “تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادَّة، تحتلُّ مركزًا رئيسًا في الفلسفة، وخاصَّة
الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفيِّ لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تحدَّد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأية دراسة مهما كان لونها. وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، وتحاول أن تستكشف الركائز الأولية للكيان الفكري الجبار الذي تملكه البشرية فتجيب بذلك على هذا السؤال: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان؟ وكيف تكوَّنت حياته العقلية بكل ما تزخر به من أفكار ومفاهيم؟ وما هو المصدر الذي يمد الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟”.
فلا يمكن إذن أن يقيم عالم صرحا أو نظرية فلسفية دون ضبط مشكلة المعرفة؛ من هنا، وبما أنَّ ابن نبي، باتفاق الباحثين والدارسين، هو صاحب مشروع فكري حضاري فلسفي، فلا بد إذن أن يكون له حضور في قضايا “مشكلة المعرفة”، وإذا ما رمنا التبسيط، فإننا نحدد المشكلات التي تتثيرها نظرية المعرفة في الإجابة على الأسئلة الثلاثة الآتية:
“أولا: طبيعة المعرفة الإنسانية.
ثانيا: مصادر المعرفة.
ثالثا: حدود المعرفة وإمكاناتها”.
وسنحاول أن نعرِّف كل ركن من هذه الأركان على حده، انطلاقا من طبيعة المعرفة، التي هي الركيزة والمبتدأ.
طبيعة المعرفة
عن طبيعة المعرفة يبرز السؤال الجوهريُّ حول معيار الحقيقة: “هل هو الوضوح والبداهة، أم النجاح والمنفعة”… ترى الأطروحة الأولى أنَّ مصدر المعرفة من طبيعة عقلية؛ فالمعارف هي نتاجٌ عقليٌّ وليست مجرَّد نسخٍ مطابقة للواقع، ومن هذا المنطلق فإنَّ معيار الحقيقة هو العقل الذي أنتج المعرفة، وعلامة ذلك الوضوحُ والبداهة… وتعود هذه الأطروحة إلى فلسفة “أفلاطون” الذي قال في كتابه “الجمهورية”: “من الواجب على النفس الباحثة عن الحقيقة أن تمزِّق حجاب البدن، وأن تنجو من عبوديته، وأن تظهر ذاتها بالتأمُّل”.
وفي الفلسفة الحديثة اعتمد “ديكارت” في بناء الحقيقة على العقل، ورفض الحواس؛ لأنها خدَّاعة، قال في كتابه “حديث الطريقة”: “لا أتلقى على الإطلاق شيئا على أنّه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك”.. ويقول في موضع آخر: “كنت دوما شديد الرغبة في تعلم التمييز بين الحق والباطل، حتى أنظر بتبصر في أفعالي، وأسير بأمان في هذه الحياة”.
أمَّا الأطروحة الثانية فتتمثل في “المذهب البراغماتي”، وهي ترى أنَّ الحقيقة تقاس بمعيار النجاح والمنفعة، أي بمطابقة الأشياء لمنفعتنا لا مطابقة الفكر لذاته أو للأشياء الخارجية… ترتبط هذه الأطروحة بالفيلسوف الأمريكي “بيرس” الذي قال: “المعرفة كائن ما كانت لا تستحق هذا الاسم إلاَّ إذا كانت لها نتائج عملية يمكن لكلِّ إنسان أن يشاهدها إذا أراد”.. وتعمَّقت هذه الأطروحة على يد “وليم جيمس” الذي قال في كتابه “محاضرات في البراغماتية”: “الحقُّ ليس إلاَّ التفكير الملائم لغايته، والصواب ليس إلاَّ الفعل الملائم في مجال السلوك”. ويُعتبر “جون ديوي” حلقة إضافية في سلسلة المذهب البراغماتي، حيث ربط بين التفكير والمنفعة قال في كتابه “كيف نفكِّر”، مؤكِّدا أنه “يبدأ التفكير إذا اعترضت الإنسان مشكلة تتطلَّب الحل”.
ويظهر اتجاه ثالث ينظر إلى الحقيقة نظرة تكاملية تجمع العقل والواقع والمنفعة في معيار واحد؛ فالإنسان عند “ابن خلدون” ولد خالٍ من المعرفة وباتصاله بالواقع شرع في بنائها؛ فالحواس -إذن- تقدِّم مادة المعرفة، والعقل ينظِّمها ويفسِّرها من خلال فكرة الزمان والمكان والسببية والغائية (مقولات العقل)، وكما قال “كانط”: “الأفكار من دون مضمون حسيّ جوفاء، والإحساس من دون تصورات عقلية أعمى”، ومتى اتّحد العقل بالواقع تحققت المنفعة وانكشفت الحقيقة.
هذه هي المذاهب الثلاثة في تحديد طبيعة المعرفة، والسؤال المستنبط هو: ما هو مذهب ابن نبي؟ أهو عقلي، أم براغماتي، أم هو بين بين؟
أساسا، هل يمكن أن نعثر على موقف كامل، ورؤية واضحة، عند ابن نبي، في هذا الجدل الفلسفي التاريخي العميق؟
ذلك ما نحاول استجلاءه، وبدأ الغوص فيه، في مداخلتنا، تاركين التعمق والتفصيل لأوانه ولأربابه.
مصادر المعرفة
تبعا لتحديد طبيعة المعرفة، ونتيجةً لازمة عليها، انقسمت المدارس الفلسفية في تحديد مصادر المعرفة إلى مذاهب، من أبرزها:
1- المذهب التجريبي: الذي يرى أنَّ مصادر معارفنا كلَّها هي “الخبرة الحسية، ووسيلة اكتساب المعرفة هي الحواس وحدها” وينسب هذا المذهب إلى جملة من الفلاسفة على رأسهم “ديفيد هيوم”، و”جون لوك”.
2- المذهب العقلي: وهو لا ينكر الحواسَّ؛ ولكنه لا يجعلها مصدرا صادقا للمعرفة إذ “لا بدَّ من مصدر آخر للمعرفة غير الحواس. وليس ثمة مصدر آخر للمعرفة يمكن الركون إليه إلاَّ العقل، فما يصدر عن العقل صادق بالضرورة”. ويقوم المذهب على فكرتين أساسيتين، هما “الشك في قدرة الحواس كوسيلة لنقل المعارف الضرورية عن العالم، والإيمان بالعقل كمصدر وحيد للمعرفة”.
3- ومن المنطقي أن يأتي المذهب الثالث، الذي يجمع بين المصدرين المتقدِّمين، والذي يُعرف بالمذهب النقدي، ليقرِّر على لسان “كانت” أنَّ “المعرفة لا تتم إلاَّ بالخبرة الحسية والمبادئ العقلية معا، ومن هذا يتضح أنَّ المذهب النقدي قد وقف بين الواقعية والتجريبية”.
من هذا المدخل، نسأل: ما هي مكانة الحواس في مصادر المعرفة عند ابن نبي؟ هل ينحو منحى المذهب العقلي؟ أم أنَّ الجمع بين الاثنين هو الصواب؟ لكن، كيف يتم الجمع، أليس هو نوعا من التلفيق لا غير؟
أين يصنف مالك بن نبي، موضوع هذا المبحث، في هذه الاتجاهات؟
إمكان المعرفة وحدودها
هل المعرفة ممكنة؟ وإذا كانت ممكنة فما حدودها؟ هذان هما السؤالان الرئيسان في هذا المبحث. ولقد ظهر -كما هو مفترض- مذهبان رئيسان، هما:
1-مذهب الشك: وهو مذهب ينكر إمكان المعرفة، وينكر كلَّ صورة من صور المعرفة، وهو مذهب “ينفي قدرة الإنسان على الحصول على معارف يقينية” وقد نبت هذا المذهب عند السوفسطائيين، بزعامة “بروتاجوراس وجورجياس”.
2-مذهب اليقين والاعتقاد: وهو يقرر أنَّ ادعاء الشك باستحالة المعرفة ادعاء باطلٌ، ولقد قضى الفلاسفة على الشك باعتباره نظرية في المعرفة، وإن أبقوه منهجا في البحث لا مذهبا. فالشك الديكارتي مثلا هو “خطوة ضرورية… وهو منهج إلى حقيقة أولى، ووسيلة هادفة إلى يقين عقلي”. ويتوزع اليقينيون إلى عدة مدارس، ليس المجال مجال عرضها وسردها.
من خلال هذين المذهبين في إمكان المعرفة، إلى أي اتجاه يميل ابن نبي؟ وأين عبَّر عن موقفه فيما ألَّف من كتب؟ أم أنه لم يتعرَّض لهذه الإشكالات إلاَّ عرضا، بما لا يسمح بالحكم المبرهن عليه في هذا النقاش؟
لا شكَّ أنَّ البحث والتنقيب في جملة ما كتب ابن نبي، وما كتب عنه، قد يفتح لنا نوافذ للجواب عن هذه الإشكالات، ولنحاول إذن اقتحام العقبة، والغوص في المسألة.
الخصوصية الإسلامية
تعالج بحوث “التأصيل” السؤال العميق: ماذا يعني أن يكون العلم إسلاميا؟ وقد عبَّرت مدرسة “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” عن ذلك بصياغتها لمفاهيم “أسلمة العلوم” أو “أسلمة المعرفة”، وبعيدا عن الجدل الدائر في مشروعية هذه الأسلمة من عدم مشروعيتها؛ فإنَّ الأسلمة معناها: “التأصيل الإسلامي للعلوم والمعارف، أو توجيه العلوم وجهة إسلامية، أو إسلام المعرفة، أو النظام المعرفي للإسلام، أو علم العلوم والمعارف”.
وقد عرَّف الدكتور عماد الدين خليل مفهوم أسلمة المعرفة بكونها “ممارسة النشاط المعرفي كشفا وتجميعا وتوصيلا ونشرا؛ من زاوية التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة”.
أمَّا الدكتور طه جابر العلواني، أحد روَّاد المعهد ومؤسِّسيه الأوائل، فيقول: “أسلمة المعرفة تمثِّل الجانب الذي يمكن أن نطلق عليه الجانب النظريَّ من الإسلام، أو الجانب المعرفيَّ، الذي يقابل الجانب النظريَّ في سواه”.
وفي ورقتنا هذه، نطرح سؤالا دقيقا هو: ما هو مفهوم الخصوصية الإسلامية لنظرية المعرفة عند ابن نبي؟
يجتهد البعض في نقل نظرية المعرفة كما وردت في المصادر الغربية، ويحشر لها نصوصا قرآنية وحديثية، ويسمي ذلك: الخصوصية الإسلامية؛ بينما يرى آخرون أنَّ الخصوصية تعني النسبة إلى الفلاسفة المسلمين؛ يقول الصدر: “نظرية الانتزاع، وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامة”.
فهل مالك بن نبي في خصوصيته الإسلامية تبنى المنهج الأول، أم هو من رواد المنهج الثاني، أم أنه صاحب منهج مختلف عنهما؟
في فكر ابن نبي
ألَّف ابن نبي ما يربو على عشرين عنوانا، بعضُها صدر على شكل مقالات، ثم جمع في عناوين منهجية، من ذلك نذكر “بين الرشاد والتيه”، والبعض الآخر ألقاه ابن نبي على شكل محاضرات، ثم جمعه، أو جمع من بعده في كتب مستقلة، نمثل لهذا النوع بـ”وجهة العالم الإسلامي”، و”مجالس دمشق”. ومنها ما صدر مؤلفا مستقلا، اعتنى بصياغته كلية، أبرز العناوين في هذا النوع هي “الظاهرة القرآنية”، و”شروط النهضة”، و”مشكلة الثقافة”، و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”. وثمة أصناف أخرى، ليس المقام مقام تحليلها جميعا؛ ذلك أنَّ السؤال الحري بهذا البحث، هو: في أيٍّ من هذه المؤلفات عالج مالك بن نبي مشكلة المعرفة؟ وبأي نسبة؟ وما هي العناوين التي تعتبر مصدرا، وما هي تلك التي تعد مرجعا؟
لا شك أنَّ الجواب لا يملكه إلاَّ بحث متخصِّص، في وقت طويل، وبجهد مستقص، وهذا ما لا ندَّعيه، وما ينبغي لنا أن نفعل. غير أنَّ الحكم الأولي، وطول ممارستنا لمصادر ابن نبي، كلُّ ذلك يقضي أنَّ كتاب “مشكلة الأفكار”، ومن قبله “شروط النهضة”، و”مشكلة الثقافة”، هي المصادر الأساسية المعتمدة في استجلاء معالم نظرية المعرفة عند ابن نبي، وتأتي الكتب الأخرى على شكل تطبيقات، أو شروح، أو إضافات.
عن فكر ابن نبي
أوَّل ما يجمُل السؤال عنه هو: هل تمت معالجة نظرية المعرفة عند مالك بن نبي من قِبل باحثين متقدِّمين؛ سواء في دراسات وبحوث أكاديمية، أم في مقالات علمية، أم ضمن أجزاء من مؤلفات خاصة؟
لقد حلل زكي الميلاد “نظرية الثقافة عند مالك بن نبي”، تحت عنوان “نحو قراءة معرفية جديدة”، وقد تناول الباحث بالخصوص الفرقَ بين “الثقافة” و”العلم”، وخطورة الخلط بينهما في المجال الفكري، وعلى هذا الأساس “تصبح الثقافة -كما يقول- نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن قياس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم”.
غير أنَّ زكي الميلاد لم يتطرق للعناوين الرئيسة، والإشكالات الأساسية لنظرية المعرفة عند مالك بن نبي، وعلى كلٍّ ليس هذا مقصده من بحثه.
أمَّا محمد إبراهيم فقد تعرَّض في مقال له إلى “مشكلة الأفكار عند مالك بن نبي”؛ غير أنه -للأسف- نقل شذرات وومضات من فكر الرجل، لا يربط بينها رابط، والمقال مخلٌّ جدًّا، لا يرقى إلى مستوى التحليل الفلسفي العلميِّ المتخصص.
أمَّا الدكتور مصطفى عشوي، ففي مقال له بعنوان: “إنسان الحضارة في فكر ابن نبي”، فقد أبدع في عرض الجوانب الأساسية في الإنسان في فكر مالك بن نبي: “الجانب الروحي، والجانب الجسمي، والجانب الوجداني، والجانب العقلي”؛ وفي الجانب العقلي أورد بعض الملامح عن مشكلة المعرفة عن ابن نبي، وبالخصوص علاقة الأفكار بالعمل، أو ما عرف بالمنطق العملي. ويبقى المقال جادا وهاما، غير أنه ليس متخصصا في نظرية المعرفة عن مفكرنا.
ومن الضروري، كي يكتمل الحكم فيما كتب مالك بن نبي، وما كتب عنه، حول نظرية المعرفة، أن تجرى بحوث استقصائية طويلة النفس، لعلها تليق رسائل للماجستير وأطروحات للدكتوراه، في مستوى أهمية الموضوع، وأثره على مسار الفكر الإسلامي والإنساني المعاصر.
أما في سياقنا، فيكفي أن نذكر أننا لم نعثر على عمل علميٍّ واحد عالج نظرية المعرفة عند مالك بن نبي، وهذا لا ينفي وجوده، طبعا.
للإجابة على الأسئلة والإشكالات السابقة، نجد أنَّ عرض خصائص مشكلة المعرفة عند ابن نبي، ستكون مفتاحا ومدخلا للولوج إلى الموضوع بمنهجية، إذ ليست التفاصيل قادرةً على إبراز صورة شمولية مركَّبة. ومن ثمَّ، فإنَّ أبرز الخصائص التي استنبطناها، تتمثل في العناوين الآتية:
1- فكرٌ خارج التصنيف
إنَّ التصنيفات في عمومها ملزمة للمشتغلين في حقلها؛ غير أنَّها قد تتجاوز البعض، وقد يتجاوزها البعض الآخر؛ فهي تتجاوز من لم يبلغ مستواها، ولم يرقَ مراقيها؛ أمَّا العباقرة الذين خبروا ذلك المجال، وعرفوا أسراره وأغواره، فإنهم يتجاوزون -غالبا- تلكم التصنيفات، ذلك أنها مجرَّد إجراء منهجيٍّ مساير لقصور العقل، أمَا وقد رشُد هذا العقل العبقري، فما حاجته إذن لهذا التصنيف؟
ومالك بن نبي لو حاولت تصنيفه في خانة معينة، لأدركتك الصعوبة قبل أن تدركها، ولاستحال عليك الصدق في فعلك هذا؛ فهل هو تراثي أم حداثي؟ وهل هو عقليٌّ أم نصيٌّ؟ وهل هو فيلسوف أم عالم اجتماع، أم مفسِّر أم مؤرِّخ…؟ أم هو عالم إنسانيٌّ أم عالم طبيعيٌّ؟ أم هو عالم مقتصر على دوائره القريبة؟ أم هو عالمي النزعة والاهتمام والأثر؟
لو وسمته بالتراثية -مثلا- لوجدت الرجل متحكما في الوسائل المنهجية، وفي الأفكار الأكثر حداثة، تحكُّما يجعلك تعدل عن رأيك؛ ولو وصمته بالحداثة، لألفيته عالما بأصول التراث ومصادره، قادرا على استنباط أعمق الأفكار والمواقف منها، بلا عقدة ولا ادعاء.
ولو قلت إنه عقلي، لقرأت له احترامه الشديد للوحي، وقدرته على الالتزام بالنص في نصاعته؛ أمَّا إذا قلت عنه إنه نصي نقلي، فسترى أنَّ العقل عنده فاعل فعال، وأنَّه سببه إلى الفهم والإدراك والوعي.
وهو ليس فيلسوفا مصنفا ضمن المدارس الفلسفية الكلاسيكية، ولا هو عالم اجتماع، له نظريات في علم الاجتماع، ولا هو مفسر للقرآن الكريم، مشتغل به، ولا هو مؤرخ، أو فيلسوف للتاريخ؛ بل لو صنفته ضمن العلماء في العلوم الإنسانية لظلمته؛ لأن في فكره الكيمياء والفيزياء والرياضيات… ومن باب أولى لا تجد أن تدرجه مع العلماء الطبيعيين أو الرياضيين أو الفلكيين.
وفي تقديري إنَّ أبرز خاصية من خصائص مشكلة المعرفة عند ابن نبي أنها ارتقت إلى مستوى “البناء الشمولي”، و”النظرية الكاملة المحكمة”، وأنها خارج التصنيفات المعرفية المألوفة؛ فلا هو مثالي، ولا هو مادي؛ ولا هو عقلي، ولا هو حسي؛ والصفة الوحيدة التي تستوعبه هي أنه “عالم مسلم إنساني”؛ وهذا بالذات عنوان الخصوصية التي تميز الرجل عن غيره، وتجعله يفوق من سواه في هذا المضمار.
2- الرؤية الكونية ورؤية العالم عند مالك بن نبي
إنَّ “الرؤية الكونية” أو “رؤية العالم” تقع في قلب مشكلة المعرفة، ذلك أنها الطريقة التي يحدد بها العقل فهمه “للخواء” ولـ”اللامعنى” ولـ”الاغتراب في الحياة”؛ وهو المنهج الذي يرسم به الإنسان علاقته بالمعرفة وبالوجود.
يقول إنصاف حمد: “وبسبب من الاختلاف الواضح في المنهج لدى كل من المذهبين [العقلي والتجريبي]، فإنه من الطبيعي أن يكون لكل منهما نظرة مختلفة حول ماهية الإنسان، وإجابات مختلفة حول الأسئلة المطروحة على صعيد نظرية المعرفة مثل مشكلة أصل المعرفة، ودور كل من الذات العارفة والموضوع المعروف في عملية المعرفة، ومشكلة حدود المعرفة، ومعيار الحقيقة واليقين”.
وقد عالج مالك بن نبي هذه القضية بإسهاب، وإن لم يوظِّف المصطلحات المعروفة حاليا، مثل “الرؤية الكونية” و”رؤية العالم”، وذلك في كتاب “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، تحت عنوان “الإجابتان عن الفراغ الكوني”، ويوظف ابن نبي قصتين هما: قصَّة “روبنسون كروزو”، و”حي بن يقظان” ليظهر طبيعة الجواب عن سؤال الكون المختلفة بين الاثنين، فبينما ينحو الأول نحو الأشياء، وهذا ما يذكرنا في مشكلة المعرفة بالمادية وبالمذهب التجريبي الحسي، ينحو ابن طفيل في قصته إلى الجواب بطريقة عقلية تصاعدية من “المادة” إلى “الروح”، منها إلى “خلود الروح” وأخيرا إلى فكرة “الخالق”؛ وهو ما يذكرنا بالمذهب الشمولي الإسلامي الكوني.
3- العوالم الثلاثة عوضا عن مصادر المعرفة
تقدَّم أنَّ نظرية المعرفة تبحث في المصادر التي يستقي منها الإنسان معارفه، وأنَّ الفلاسفة انقسموا إلى “مذهب تجريبي حسيٍّ” و”مذهب عقليٍّ” وثالث “نقديٍّ” يحاول أن يجمع بين الحس والعقل؛ ولقد استطاع مالك بن نبي أن يتجاوز بذكاء هذا التقسيم العقيم، بل إنه تجاوز حتى نظرية “الانتزاع” التي تنسب إلى الفكر الفلسفي الإسلامي؛ واعتمد في ذلك على مناهج “الأبستمولوجية”، بخاصة ما عرف عند “جون بياجيه”، من النظر إلى مراحل نمو الطفل، حسب مباحث علم النفس والتربية، ثم تعميم ذلك على مراحل نمو البشرية، وكأنها في ذلك كائن بشري يمر بنفس المراحل التي يمر بها الإنسان.
من هنا نسب ابن نبي إلى الطفل في مرحلته الأولى “عالم الحس”، وعبر عن ذلك بـ”عالم الأشياء”؛ ثم نسب إليه في مرحلة ثانية نوعا من التجرد عن الحس وبداية الارتباط بالعقل، وهو ما عبر عنه “بعالم الأشخاص”، وأخيرا تأتي المرحلة الثالثة، مرحلة النضج، وفيها يرتبط الطفل بعالم الأفكار، إذ يبدأ من هذه “اللحظة في “تكوين راوبط شخصية مع مفاهيم تجريدية”.
ونحن نتساءل: هل هذه المفاهيم التجريدية مختلفة عن مدركات العقل، سواء في التصور أم التصديق؟
لا شك أنَّ الجواب سيكون بالنفي، وبهذا تتعدَّد مصادر المعرفة لدى البشرية، وتنمو من مرحلة “الأشياء” إلى “الأشخاص”، وأخيرا “الأفكار”؛ ولكنها قد تتقهقر وتنزل من عالم إلى ما دونه، تماما مثلما الحال للشيخ الذي يهرم، ويفقد المراحل واحدة تلو أخرى، على النحو الآتي:
1- عالم الأفكار، بفقده كلَّ قدرة خلاقة.
2- عالم الأشخاص، نتيجة اللامبالاة أو النفور.
3- عالم الأشياء، نتيجة الضعف وعدم الإقبال”.
وفكرة “العوالم الثلاثة” في تقديري هي بؤرة نظرية مالك بن نبي في “المعرفة” بل، هي محور نظريته في “الوجود”؛ وهي التي ميزته عن غيره من الفلاسفة التقليديين من جهة، والمقلِّدين من جهة ثانية. وعليها يبني الكثير من الاستنتاجات الحضارية العملية الاجتماعية.
والجدير بالذكر أنَّ أحمد داوود أوغلو، في كتابه “البراديم البديل”، ذكر أنَّ مشكلة الغرب هي مشكلة “نظرية المعرفة”، فعلى أساسها يبني صرحه المعرفي بكلِّ خصائصه؛ أمَّا الفكر الإسلامي، فمحوره ليس هو نظرية المعرفة، وإنما “نظرية الوجود”؛ ومن ثم، حتى في تناولنا لنظرية المعرفة ننتقل طواعية وضرورة إلى نظرية الوجود، ونعالج إشكالاته، ونبرهن على مستوياته. وهذا الذي لوحظ عند ابن نبي بامتياز، ودلَّ على أصالته بجدارة.
4- الفاعلية، بديلا عن النزعة البراغماتية
لم يهتم مالك بن نبي في كامل مؤلفاته بالسؤال التقليدي في نظرية المعرفة، وهو: هل المعيار الحقيقي للعلم “هو الوضوح والبداهة، أم النجاح والمنفعة”؟؛ وبالتالي لم يحشر فكره في ثنائية “العقلانية” و”البراغماتية”؛ لكنه عالج بصورة مختلفة، ذات السؤال، فوفِّق أيما توفيق، يقول في “وجهة العالم الإسلامي”: إنَّ من أبرز المشكلات التي تواجه العالم الإسلامي العجزُ عن التفكير وعن العمل، وهو في المجال النفسي يدل على انعدام الرباط المنطقي (الجدلي) بين الفكر ونتيجته المادية، فالفكرة والعمل الذي تقتضيه لا يتمثلان ككل لا يتجزأ”.
وقد عالج هذه المشكلة تحت عنوان “المنطق العملي”؛ ثم فرَّق بين الكفاءة والفعالية، وفصَل القول في العلاقة بين الفكر والفعل، وبين العلم والعمل؛ وقد استفدنا من ذلك كله في صياغة “منظومة الرشد”، التي تعنى بنقاط ثلاث، هي:
1- ذاتية اتباع الأسباب
2- حركية الفكر والفعل
3- سداد المسلك.
واضح أنَّ العمود الثاني هو محور ما نحن بصدده، وهو يقع في صلب نظرية المعرفة كلِّها، ذلك أنَّ الحاجة ماسة إلى فاعلية بلا براغماتية، أو إلى الجانب الإيجابي من البراغماتية، بعيدا عن جانبها السلبي؛ ولعلَّ مصطلح “النافعية” يكون الأنسب لذلك، وهو مسبوك من دعاء للرسول الكريم عليه السلام، يقول فيه: «اللهمَّ إني أسألك علما نافعا»، فإذا كانت النفعية تخص الثمرة المادية القريبة، فإنَّ النافعية تعالج الثمرات القريبة والبعيدة، يقول تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(الكهف:110)، ويقول: وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(محمد:35).
5- عجز العلم عن تأسيس المجتمع
مما يندرج ضمن طبيعة المعرفة السؤال عن حدِّ العلم: فهل العلم قادر وحده على إسعاد العباد، وعلى تأسيس المجتمعات وقيادة الحضارات؟ أم أنَّ للعلم مجاله الخاص به، فهو ليس من طبيعة الغايات والنهايات والقيم المطلقة؟
يجيب مالك بن نبي على هذه الإشكالية بقاعدة صاغها بعد تحليل مستفيض، اختار له عنوانا معبرا: “القيمة الخلقية”، فقال: إنَّ “الدين هو وحده الذي يستطيع أن يؤسِّس مجتمعنا، والعلم لا يستطيع تأسيس مجتمع”، وبعبارة مفسِّرة يقرِّر أنَّ الانسجام بين أفراد مجتمع ما، الذي هو أساس قيام المجتمع “لا يمكن أن يقدمه العلم، ولكن تقدمِّه الأخلاق”.
وإلى هنا، نكون قد أشرنا، مجرَّد إشارة، إلى “الخصوصية الإسلامية لنظرية المعرفة، عند مالك بن نبي”، ولقد افتتحت الشهية أمامنا، لبحوث طويلة النفس، تخرجنا من قفص الوصف الرتيب، والترجمة السردية، والعرض المعلوماتيِّ؛ إلى فضاء التحليل، والنقد، والتركيب، والإبداع؛ وهي جميعها خصائص منهجية لطالما دافع عنها ابن نبي بلا هوادة، ووفق فيها أيما توفيق.
Leave a Reply