معرفة الله تعالى والالتزام بعبادته عمل ارتقائي، يرتقي بالنفس الإنسانية نحو أعالي الفكر والحس والشعور، ويصحب هذا العمل الارتقائي أخلاقية استعلائية على الانحدار السلوكي الذي يمكن أن ينحدر إليه الإنسان خلال حياته المعيشية اليومية؛ لذلك يستصعبه ذوو الأرواح الأرضية التي ليس لها استشراف آفاقي “ماورائي”، وينأى عنه أصحاب الهمم القاصرة والمطامح الهابطة.. ومما يزيد الأمر صعوبة افتقادهم الأمثلة العليا، والنماذج المثلى من الذين يرسمون لهم الطريق ويؤشرون على خارطة النفس معالمها وشعابها.
وإنه لمِن دواعي غبطتنا أن يوجد بين ظهرانينا اليوم واحد من أعظم أصحاب الروح، وهو الأستاذ فتح الله كولن… هذا الرجل الذي وقف قلمه على تبديد ما نعاني منه من إحباط في علاج ضمورنا الفكري والروحي.. فقد أوتي القدرة على تَخَطُّف أرواحنا، وامتلاك أفئدتنا، ثم السريان بها إلى سماوات المعاني وفضاءات الأفكار السامية على المتطلبات الأرضية، باعتبارنا أغصانًا من شجرة الحياة الأبدية التي تخلو الحياة من معناها إذا هي لم تعتصم بها، أو تستظل بظلّها.
لقد هالَ الرجل أَنَّ الأمة شرعت منذ قرنين من الزمن تجهز على خلايا نفسها بنفسها، وتُعْمِلُ معاول الهدم في تحطيم منظم لأركان وجودها، ومن غفلتها تحتفل بقضاء ذاتها على ذاتها، وبالانسلاخ عن نفسها، فينتابه ألَم شديد، ويزفر تلك الزفرات المحرقة، ويطلقها مع مرسلات الريح، ثم لا يلبث أن يستلَّ قلمه ليعبّر عن آلامه التي هي آلام أمة بأسرها، غير أنَّ إيمانه بأمته لم يتراجع لحظة واحدة، واعتقاده بأنها قادرة على الانتباه على نفسها، ومراجعة ذاتها ظلَّ قائمًا في فكره… وبمرور الأيام بدأت روحه تمتلئ بسحائب عظيمة من المحبّة، وسرعان ما أمطرت فلم يبتلَّ بها إلاَّ الصفوة من شباب هذه الأمة، فأقبلوا يتنادون أنْ “هلمّوا إلى الرِّيّ، وتعالَوا إلى الظل الظليل..!”. فرأى فإذا بنظراتهم تنمّ عن الإقدام، ووجوههم عن البراءة والصفاء، واختبر رأيهم فوجد أن رأيهم في أنفسهم أكرم عندهم من أن يتسفل إلى سخافات من الفكر تتخبّط أذهانهم، وتفسد عليهم ألقَ عقولهم.
إنَّ مسحة من عظمة الذات ترتسم على محياهم، وتدور في دواخلهم، مولدةً أنزه الخواطر، وأنفس الأفكار… إنهم جاءوا يطلبون رضا ربهم، ويبتغون لأرواحهم سلالم تصلهم بأسباب السماء، لأنها سئمت لبثها عند مشارف الأرض، فوصلوا من الإدراكات إلى أعلاها، ومن الفهوم إلى أذكاها…
Leave a Reply