كثيرون منا لم يسمعوا بالشيخ محمد فتح الله كولن قبل تداعيات ما سمي بالانقلاب الفاشل في تركيا، ولكن هذا السماع كان للأسف سالبًا نتيجة الحرب الشعواء التي شنها الإعلام التركي تجاه الرجل وحركته الدعوية الاجتماعية المعروفة بحركة الخدمة، وهي حركة تبدو فريدة في تقديم الوجه الوسطي المشرق للإسلام من خلال إنجازات على الأرض، بدأت في تركيا وعبرت الحدود بهدوء لمختلف أنحاء العالم، بالتعليم وتقديم الخدمات الإنسانية عبر منظمتها الشهيرة (هل من أحد؟)، ووضعت بصمتها الخاصة، وذلك بفعل نظرية أبدعها الأستاذ المؤسس فتح الله كولن الداعية والمفكر التركي صاحب عشرات المؤلفات الرصينة في مختلف العلوم مثل: ونحن نبني صرح الروح، والتلال الزمردية، ونحن نبني حضارتنا، وكتابه الشهير في السيرة النبوية (النور الخالد) وغيرها.

سر تميز مدارس حركة الخدمة هو أنها لا تدرس الإسلام من خلال المنهج الدراسي، بل تربي على الفضيلة من خلال سلوك شباب الخدمة وشيوخها الذي يشرح الإسلام.

يُعتبر الشيخ فتح الله كذلك هو العمود الفقري للإسلام الاجتماعي في تركيا، وقد اختارته مجلة التايم في طليعة قائمتها للمئة شخصية الأكثر تأثيرًا في العالم في عام 2010، وخلال سنوات خلت تمكنت حركة الخدمة من بناء منظومة متكاملة من المشروعات، تشمل مختلف جوانب الحياة التعليمية والثقافية والتربوية والإعلامية والاقتصادية والخيرية والخدمية، تدار بأساليب حضارية متقنة، تسعى لهدف واضح هو صناعة جيل مسلح بأخلاق عالية، يحمل لواء الإسلام المتصالح المتسامح، استفاد منها الشعب التركي وشعوب العالم كله، بل حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان نفسه.

التعليم فلسفة الخدمة

تكمن فلسفة حركة الخدمة في الاهتمام بالتعليم؛ فالشيخ فتح الله يرى أن التعليم هو رافعة التغيير، وحتى قبل قرارات الطوارئ الأخيرة كانت تمتلك الحركة 15 جامعة، وأكثر من ألفي مدرسة في تركيا منتشرة في 81 مدينة، وفي كل عام يتم إنشاء 200 مدرسة جديدة، وتوجد نحو ألفي مدرسة في خارج تركيا منتشرة في 165 دولة، وهدف التوسع لهذه المدارس هو تأكيد عالمية الإسلام، وكانت بداية حملة فتح المدارس في الخارج، في آسيا الوسطى والبلقان بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونظام جوزيف تيتو في يوغسلافيا. وفي ذلك دلالات، حيث أوصى الشيخ فتح الله باستثمار الحركة للواقع الجديد، لإزالة الآثار الأحادية التي خلفتها الشيوعية، في حياة وثقافة مسلمي تلك المناطق، فكانت بداية الحملة في قازاقستان، حيث تم فتح أكثر من 30 مدرسة حتى الآن، ثم امتد توسع مدارس الحركة إلى بقية دول آسيا الوسطى فبقية القارات.

وانطلاقا من إدراك فتح الله لأهمية الثقافة والإعلام في العصر الحديث، أقامت الحركة كذلك منظومة إعلامية ثقافية متكاملة، بهدف تربية جيل على أساس علمي إيماني، بأسلوب يحترم عقل المتلقي، عبر مجموعة “درب التبانة” الفضائية تتكون من عشر قنوات تلفزيونية بين إخبارية وثقافية – دينية، ودرامية ووثائقية واجتماعية وأطفال، و3 إذاعات و30 موقعا إلكترونيا، أسست عام 1993يعمل فيها 600 شخص، و400 في الخارج، وللمجموعة مراكز في أوروبا وأميركا وأفريقيا، عبر فلسفة تركز على الإنسان من الطفولة إلى كافة مراحل الحياة.

استغل أردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة لتصفية حسابات شخصية، فلا يمكن أن يكون ألوف من ضباط الجيش والشرطة ومعهم ألوف القضاة والادعاء العام ينظمون محاولة انقلاب، ولا تعرف السلطات شيئًا عن مؤامرتهم.

كما أنشأت حركة الخدمة ذراعها الطوعي الإغاثي وهو منظمة “هل من أحد؟” الخيرية، التي تتولى تنظيم الأنشطة الإنسانية لمساعدة المحتاجين داخل تركيا وخارجها، وهي تقدم اليوم مساعدات لنحو 80 ألف شخص ولها 29 فرعًا داخل تركيا، ولديها أنشطة خيرية في نحو 60 دولة، حيث تشكل جسرًا بين المتبرعين والمحتاجين. وبالإضافة إلى تقديم مساعدات عينية فإنها تقوم بدورات تدريبية مهنية للفقراء، وتمول مشاريع صغيرة مُدرَّة للدخل، وخلال عدة أشهر جمعت نحو 40 مليون دولارًا في إطار برنامج دعم أفريقيا، وكان للسودان نصيب كبير من هذا العمل، سيما في دارفور، ولهم تجربة جميلة وغريبة في هذا المجال، حيث إنه قبيل عيد الأضحى من كل عام يسافر المتبرعون من الأتراك إلى نحو 75 دولة لتوزيع الأضاحي على الفقراء بأنفسهم وحضور العيد في تلك البقاع النائية.

تدريس الإسلام سلوكًا

هذا ما عرفناه ولمسناه عن الشيخ فتح الله وحركة الخدمة، وهي بحق نموذج نجاح يمكن أن يكون قدوة في الحياة، فعندما تتوفَّر الفكرة والرؤيا الواضحة والإرادة القوية وثقافة التطوع بالعمل والمال والجهد والغربة عن الديار، في سبيل النهوض بالمجتمع يكون النجاح والتميز. وهناك سر لتميز مدارس الحركة وهو أن المدارس لا تدرس الإسلام من خلال المنهج الدراسي، بل تربي على الفضيلة، وسلوك شباب الخدمة وشيوخها يشرح الإسلام، وهذا الوضوح والشفافية كان خير وسيلة لكسب ثقة الطلبة وأولياء أمورهم لاختيار هذه المدارس. وكل من تلقاه من قادة ونشطاء الحركة في مختلف مواقعهم تجدهم يتحدثون برؤيا واحدة ومنهجية واضحة هي المعاملة بالحسنى والتسامح.

انقلاب أردوغان على مشروع الخدمة

كل هذه السيرة العطرة تعكرت بعد أجواء الانقلاب الفاشل في تركيا، حيث اتهم الشيخ فتح الله وهو رجل سبعيني بأنه وراء الانقلاب، ثم توالت الأحداث المؤسفة بعد إعلان حالة الطوارئ، كان أول مرسوم يوقعه أردوغان هو أمره بإغلاق 1043 مدرسة خاصة و1229 جمعية ومؤسسة خيرية و19 نقابة عمالية و15 جامعة و35 مؤسسة طبية يشتبه أن كل هذه المؤسسات لها علاقة بالشيخ فتح الله. ورغم أن الأمر ما زال في طور الاشتباه جاءت قرارات الإغلاق التي سيكون ضحيتها آلاف الطلاب الأبرياء والأساتذة والأسر التي ستفقد من يعولها، وستزيد مثل هذه القرارات من حدة الاستقطاب داخل تركيا، وهو ما جعل الصحفي الشهير جهاد الخازن يقول: “إن أردوغان استغل المحاولة الفاشلة لتصفية حسابات شخصية، فلا يمكن أن يكون ألوف من ضباط الجيش والشرطة ومعهم ألوف القضاة والادعاء العام ينظمون محاولة انقلاب، ولا تعرف السلطات شيئًا عن مؤامرتهم. وقال:” قرأت أن أردوغان سكت عن محاولة الانقلاب ليستغل فشلها عذرًا لبناء السلطنة التي يريدها. لا أصدق شخصيًا نظريات المؤامرة، وإنما أرى أن محاولة الانقلاب نظمها هواة دفعوا الثمن مع الشعب التركي كله. وقد أعلن أردوغان قانونًا للطوارئ لثلاثة أشهر تكفي ليتخلص من معظم خصومه السياسيين”، ومضي الخازن يقول:” المهم الآن المستقبل، وأرى أنه لا يبشر بخير على المدى القصير. تركيا اليوم في طريق سلطنة عثمانية بعد أن ضيع أردوغان طريق الديموقراطية”.

الخارجية التركية وتشويه الخدمة

ولم تكتف تركيا بأعمالها المختلفة من اعتقال وإغلاق ضد حركة الخدمة، بل تعدى الأمر إلى الخارج حيث طالبت السلطات التركية الدول التي تضم سفارات لها بإغلاق المدارس التابعة لحركة الخدمة، باعتبار أن هذه المدارس تابعة لحركة الخدمة الإرهابية على حد وصفها، وركزت الخارجية التركية في حملتها هذه على الدول العربية والإفريقية والجمهوريات السوفيتية السابقة، ولكن جاء الرفض من أغلب هذه الدول واحدة تلو أخرى، حيث أكدت معظم تلك الدول أن طلب تركيا هذا يعتبر تدخلاً في شؤونها الداخلية. وعلى رأس هذه الدول كازاخستان، قيرغيزستان، كردستان ونيجيريا.

لم تكتف تركيا بأعمالها المختلفة من اعتقال وإغلاق ضد حركة الخدمة، بل تعدى الأمر إلى الخارج حيث طالبت السلطات التركية الدول التي تضم سفارات لها بإغلاق المدارس التابعة لحركة الخدمة.

حيث أكدت سلطات قيرغيزستان أن تركيا هي دولة شقيقة لكن على الرغم من ذلك يجب أن يتذكّر الجانب التركي أن دولة قيرغيزستان دولة مستقلة ولها سيادتها وقادرة على التمييز بين ما هو في صالحها وما هو عكس ذلك، مؤكدة أنه من الخطأ أن يحدد وزير خارجية دولة ما القرارات التي ينبغي على دولة أخرى اتخاذها بلغة تحذيرية وابتزازية. وأضافت سلطات فيرغيرستان في بيانها: “تلقينا طلبًا من الجانب التركي بشأن مدارس الخدمة الخاصة التي تعمل على أراضينا، نحن ندرس الطلب بعناية وسنتخذ إجراءات مهمة إن استدعى الأمر، ونريد أن نؤكد مرة أخرى أن هذا النوع من القضايا هو شأن داخلي يعني قيرغستان وحدها”.

كما صرح أمين سليمان رئيس لجنة التعليم العالي بالبرلمان النيجيري أن تركيا عليها الاعتذار من نيجيريا لوصفها طلاب نيجيريا بالإرهابيين. كما أعلنت وزارة التعليم الكازاخستانية في بيان لها أنه لن يتم إغلاق المدارس التركية داخل أراضيها قائلة: “ستواصل هذه المدارس عملها كما كانت من قبل، فالمدارس التركية في كازاخستان غير مدعومة من قبل الحكومة التركية لذلك ليس من حق تركيا المطالبة بإغلاقها”.

وقد اتخذ السودان خطوة وسطى حيث أمَّم هذه المدارس، وهي مدرسة وحيدة بالمناسبة، في حي كافوري ببحري؛ فصارت المدارس السودانية التركية بعد التأميم مدارس الصحابي عبد الله ابن أبي السرح رضي الله عنه، الصحابي الجليل صاحب الفضل في دخول الإسلام للسودان، ولعل هذا أيضًا يدعونا لنطلب من الحكومة ووزارة الثقافة خاصة  أن تتعامل بنفس التعامل مع مركز حراء الثقافي والمراكز التركية المغلقة، وذلك بأن تكون مراكز سودانية، أي تأميمها، بدلاً من الإغلاق الذي لم يتضرر منه أحد سوى الشعب والشباب السوداني؛ فمركز حراء كان واحة نشاط علمي وفكري مفيد، ولم يَشْكُ منه أحد، وأتحدى وزارة الثقافة أن تبرز مخالفة واحدة لمركز حراء، ولكنها السياسة – قاتلها الله-.

فلاشات

التصنيف: الملف التركي، مشاريع ومنجزات

Leave a Reply

Your email address will not be published.