ثمة اثنان من التربويين على وجه التحديد يمدَّاننا بنموذجين معاصرَين مثيرَين بوسعهما حفز التغيير الذي يصب في صالح مستقبلنا بالغ الغموض، وهما الأستاذ فتح الله كولن؛ المفكر والمعلم الروحي التركي الذي يُعَدُّ رائد أحد الحركات التعليمية الأكثر إبداعية في عالم اليوم، وباركر بالمر التربوي والمُحفِّز الروحي الأمريكي الذي يُقدِّم واحدًا من أكثر النماذج التعليمية المُلهِمة في الولايات المتحدة. وستعقد هذه الدراسة مقارنةً بين نموذجي الأستاذ كولن وبالمر، موضحةً ما بينهما من أوجه التلاقي والاختلاف، وستُختتم بمناقشة النبع المشترك الذي ينهل منه كلاهما، مع اقتراح معيارٍ لتجارب مستقبلية في حقل التعليم، فضلاً عن تقديم رؤيةٍ تتسم بالشفافية حول التحول باتجاه تكوين العائلة الإنسانية. كما أنها ستتناول كلا النموذجين بالنقد؛ لأنه ما من جهدٍ يسعى إلى بلوغ نموذجٍ مثاليٍّ للتنوير البشري، إلا كان حتمًا أن يعتوره القصور.
توصلت معظمُ المنظماتِ والمؤسساتِ التي تعمل من أجل تحقيق السلام والاستقرار الاقتصادي، إلى نتيجة عامة مفادها أن التعليم هو الحل للصراعات والفقر؛ إذ لم يعد يُنظر إلى البراعة السياسية أو الصلاح الديني على أنها وسائل تنجح كُليةً في حل المعضلات البشرية الحقيقية التي تحدق بكوكبنا في الوقت الراهن، ولا حتى باعتبارها مُجديةً بالضرورة لحل مثل هذه المعضلات.
وبما أن العمل الاجتماعي لا يخلو من الفائدة، وأنه لا مفر لمساعي وقف إطلاق النار من المفاوضات السياسية، فإن الأمل والعون بعيدي المدى يتمثَّلان في أهمية تهيئة شبابنا بالتعليم، وذلك وصولاً إلى مستقبلٍ لا تكمن حلولُه في ممارسة العنف، حتى إنه يُمكننا القول بحقٍّ إن أفضل البيئات ملاءمة للتغيير تقبع في المجال التعليمي.
وثمة اثنان من التربويين على وجه التحديد يمدَّاننا بنموذجين معاصرَين مثيرَين بوسعهما حفز التغيير الذي يصب في صالح مستقبلنا بالغ الغموض، وهما الأستاذ فتح الله كولن؛ المفكر والمعلم الروحي التركي الذي يُعَدُّ رائد أحد الحركات التعليمية الأكثر إبداعية في عالم اليوم، وباركر بالمر(1)؛ التربوي والمُحفِّز الروحي الأمريكي الذي يُقدِّم واحدًا من أكثر النماذج التعليمية المُلهِمة في الولايات المتحدة. هذان العَلَمان الفكريان والروحيان يُفعمان النقاشَ الدائرَ حول ما يجب فعلُه لخلق عالمٍ تصبح فيه الحياةُ البشرية أكثرَ من مجرد تمرينٍ في البقاء بتحديات قوية وآمال مذهلة.
وستعقد هذه الدراسة مقارنةً بين نموذجي الأستاذ كولن وبالمر، موضحةً ما بينهما من أوجه التلاقي والاختلاف، وستُختتم بمناقشة النبع المشترك الذي ينهلان منه كلاهما، مع اقتراح معيارٍ لتجارب مستقبلية في حقل التعليم، فضلاً عن تقديم رؤيةٍ تتسم بالشفافية حول التحول باتجاه تكوين العائلة الإنسانية. كما أنها ستتناول كلا النموذجين بالنقد؛ لأنه ما من جهدٍ يسعى إلى بلوغ نموذجٍ مثالي للتنوير البشري، إلا كان حتمًا أن يعتوره القصور.
تتوقف استمرارية الأمم على ما تتلقاه شعوبها من التعليم ومن التوجيه صوب الكمال الروحي. وإذا لم يكن بوسعها تنشئة أجيال متطورة يُمكنها أن تعهد إليها بأمر المستقبل، فسيكون مستقبلها مظلمًا آنذاك. (فتح الله كولن)
نموذج كولن التعليمي
ينتشر نموذج الأستاذ فتح الله كولن التعليمي انتشارًا قد نعتبره مهولاً إلى حد كبير، في جميع أنحاء العالم، وبخاصةٍ مع ارتفاع معدل المدارس المفتتحة في تركيا(2) وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وألبانيا وجزر الفيلبين وآسيا الوسطى وغيرها من المناطق. وفي حين أن الدين الإسلامي لا يُدرَّس مباشرةً في هذه المدارس، إلا أنها تقوم على أساس ما يعتبره الأستاذ كولن “مبادئَ عالميةً” يؤمن أنها داخلةٌ في صميم الإسلام. وقد يُمكن للأطفال من كافة الأجناس والعقائد والديانات، أن يفيدوا من التعلم فيها رغم أن “المعلمين هم من المسلمين الأتقياء شديدي التمسك بهويتهم القومية الإسلامية التي تُشكِّل أساسَ تسامحهم” (أغاي، ص:65). (على الرغم من وجود معلمين في هذه المدارس حاليًّا من غير المسلمين، فالميل الغالب على المعلمين ميل إسلامي).
وباعتباري واحدًا ممن حظوا بزيارة كثرةٍ من مدارس الأستاذ كولن داخل تركيا، فقد اتضح لي أن مسألة وجود معايير أخلاقية رفيعة توضع لكلٍّ من طاقم المعلمين والبيئة الدراسية هي مسألةٌ بالغة الأهمية، فالتعليم المتميز هو الهدف المنشود، وهو -في مدارس الأستاذ كولن- تعليم علمي حديث.
هذا التعليم المتميز للغاية، الذي يؤكد على الأخلاق، تجري صياغته في إطار ما يسميه الأستاذ كولن باسم “القيم العالمية”، بحيث يخرج الطالب من هذه المنظومة وهو إنسان استثنائي نوعًا ما، إنسانٌ يلتزم بقيمٍ من قبيل العمل الجاد والأمانة والتواضع والتسامح والرأفة وخدمة المجتمع البشري.
إن نجاح مدارس الأستاذ كولن رهينٌ بذلك الرجل الذي تُوجِّه رؤيتُه المتعلقة بتحقيق الوِفاق البشري هذا المشروعَ الأكاديمي؛ إذ يعتقد الأستاذ فتح الله كولن، الذي يُمكن وصفه بسهولة بأنه “صوفي ذو وعي اجتماعي”، أن التعليم يُمثِّل –أولاً– نمطًا من أنماط “إصلاح الذات” الذي يؤدي –ثانيًا– إلى إصلاح أو تغيير السياقين الاجتماعي والثقافي للفرد. ولعل ما يجعل من نموذجه نموذجًا فريدًا، ويمنحه القدرةَ على إحداث التغييرات الاجتماعية والعالمية بالفعل، هو التزامه بـ”البناء الداخلي”؛ ففي مقال حول مدارس الأستاذ كولن، ذهب توماس ميشيل –في قراءته لكولن– إلى اعتقاد هذا الأخير بأن “المعلم هو شخص لديه القدرة على المساعدة في انبثاق شخصيات الطلبة، شخصٌ يرعى الفكر والتأمل، شخصٌ يؤسس الشخصية ويُمكِّن الطلاب من [اكتساب] صفات الانضباط الذاتي والتسامح والشعور بالواجب” (ميشيل، ص:75). وهكذا، فحالَ ترجمة ذلك في إطار آراء الأستاذ كولن حول التعليم، يمكن القول إن نموذجه هو نموذجُ بناءٍ داخلي (أو روحاني) يهدف إلى الظهور خارجيًّا (أو أخلاقيًّا) في البيئة المعاصرة. وإنها لَمهمةُ المعلم أن يتعهد الطالب بطريقةٍ تشجِّعه على الارتقاء من هذا النمط التعليمي الداخلي، إلى نمطٍ خارجي يتمثل في خدمة العالم.
مثل هذا التفسير لا يتماشى تماشيًا عميقًا مع القيم الصوفية فحسب بوصفها شكلاً من الأشكال الروحية للإسلام، بل يُمثِّل كذلك الجهود التي بذلها الأستاذ كولن نفسه على مدار حياته لمجابهة الرؤية الإسلامية التقليدية (وربما الصورة المنقوصة) المتعلقة بمتطلبات العيش في عالمٍ حداثي ثم في عالمٍ ما بعد حداثي كما هو الحال الآن.
وكما هو الحال عند أغلب المثقفين، فإن لكلٍّ منهم معجمًا يتغلغل في ثنايا أفكاره وكتاباته وتعابيره اللفظية. ولا يختلف الأستاذ كولن في ذلك عن أيٍّ ممن عداه؛ إذ يغلب على كتاباته وأحاديثه استخدامُ كلمات رئيسية تكشف عما يُوجِّه فكره، وبالتالي عما يُشكِّل ويؤسس للمدارس المستوحاة من تعاليمه. فاللغة الحارة للأستاذ كولن تستعمل كلماتٍ من قبيل الرحمة والتسامح والإيمان والسلام، وكذا كلمة “الحب” التي كثيرًا ما تنضح بها كافةُ تعاليمه.
إن الروحانية الإسلامية تعضد من نموذج الأستاذ كولن التعليمي الذي يتبدى عبر تدريس العلوم ومن خلال التربية الأخلاقية الملموسة، وذلك بهدف خدمة الحياة المدنية وإحلال السلام في الوجود.
ومن خلال هذه المصطلحات المهمة، يُمكن للمرء استخلاصُ فكرةٍ مفادها انشغاله بالكيفية التي تكشف بها الحياةُ الداخلية عن نفسها في كلٍّ من المعلم والطالب؛ إذ يجب على المرء –بصورة أساسية– أن يستشعر الرأفة والتسامح تجاه الآخرين، وهما شعوران ينبعان بالأساس من إيمان الفرد، وهو الإيمان الذي يتبدَّى في العالم من خلال قيمة “السلام” التي تنبثق –بطبيعة الحال– من الرأفة والتسامح. تلك هي الكلمات الأربع التي تُشكِّل حجر الزاوية في نظرة الأستاذ كولن التعليمية. (ستتعرض هذه الدراسة لرؤيته عن الحب في وقت لاحق).
إن فكرة أن يصبح المعلم أكثر من مجرد مُحاضرٍ أو ناقلٍ للمعلومات، هي فكرة مركزية في رؤية الأستاذ كولن التعليمية؛ فالمعلم –بالأحرى– هو مُربٍّ يكشف من خلال حضوره الذاتي عن إمكانيات الطالب. ورغم ما للمادة الدراسية من أهمية بالغة، فإن أهمية “حضور” الشخص الذي يتوفر على أداء هذه المادة، تكون أكبر تأثيرًا في الناتج النهائي، فوفقًا لأحد أعمال الأستاذ كولن: “ينبغي للمعلمين أن يجدوا طريقًا إلى قلوب الطلاب، وأن يتمتعوا بالقدرة على ترك بصمات لا تُمحى على عقولهم، كما ينبغي لهم اختبار المعلومات التي يُعتزم تمريرها إلى الطلبة، وذلك بتهذيب عقولهم وصفحات قلوبهم هم أنفسهم، فالحصة الدراسية الجيدة هي تلك التي تمد التلاميذ بما هو أكثر من المعلومات والمهارات النافعة، إنها تلك التي ترتقي بهم للقاء المجهول” (كولن، ص:209).
في تلك الفقرة، تتبدَّى لغة الأستاذ كولن الكلاسيكية التي تظل –رغم كلاسيكيتها– لغةً غير مألوفة في البيئة المعتادة للفصول الدراسية، على الأقل في دول العالم الأول. ففكرة أن يضطلع المعلم بدوره التربوي من خلال تعميق رحلته الشخصية داخل ذاته مستندًا إلى قلبه وعقله معًا، هي فكرةٌ تَضاد تقريبًا غايةَ التعليم المعاصر التي تتمثل في دفع الطالب باتجاه الترقي الوظيفي والاقتصادي، بغض النظر عما يعتور جوانيتَه من اضطراباتٍ أو قناعات. كما أن الاعتقاد بأن التعليم هو مسألة تتوقف على القلب والتلقين المكثف للعلوم، هو اعتقادٌ غريبٌ على البيئة التعليمية التي يألفها غالبيتنا، على الأقل في الولايات المتحدة. غير أن ذلك هو “السر” فيما يبدو، لو صح أن هناك سرًّا وراء مدارس الأستاذ كولن، السر الذي ربما يتلخص بالتحديد في عبارة واحدة تُعزى إلى الرجل: فـ”بصفة أساسية تُعتبر المدرسة مكانًا من أماكن العبادة، زعماؤها المقدسون هم المعلمون” (كولن، ص:208).
إن الانتقادات الموجهة إلى حركة كولن، تتراوح بين اتهامه بالعمل على جعل الدين الإسلامي بوابة لا بد للتعليم أن يعبر من خلالها ليتسم بالأصالة، واتهامه ذلك الاتهام الخاص عن رغبته في الإطاحة بالحكومة التركية العلمانية وإقامة دولة دينية. ورغم رفض تلاميذه الحاد لهذه الاتهامات الموجهة ضد مربِّيهم الروحي، فلا تزال نسبة الشكوك مرتفعة لا سيما في أوساط المثقفين من السكان العلمانيين”(3). ولن تتأتى البيِّنة على الدوافع وما تُضمره النوايا، إلا بمرور الزمن وبِـحَثِّ شباب الدارسين ورجال الأعمال والنساء المهنيات، على الانخراط في بيئة الحوار الضروري للحكم على مدى أصالة الحركة. وبما أن حركة كولن ليست حركة مركزية بطبيعتها، فإن المنتوج النهائي لمدارسها –وطلابها أنفسهم– سيلعبون بالضرورة دورَ العامل المحفز في عملية التغيير العالمي واسعة النطاق التي تسعى إليها، ولذا فما زال سابقًا لأوانه أن نبتَّ بالحكم.
بيد أن ما يبدو وكأنه أمر واقع رغم انعدام براهين النجاح في هذه المرحلة، هو ما يُورِده أولئك الذين احتكوا بهذه المدارس المتميزة من شهادات متشابهة نوعًا ما، مفادها أن تلك المدارس تُخرِّخ طلابًا استثنائيين.
وأنا أتذكر بوضوح تام زيارتي لإحدى مدارس الحركة بمدينة إسطنبول، حين تحلَّق الأطفال –من سن المرحلة الإعدادية– حولي ليمطروني بالأسئلة، وقد أدهشني أن تأتي جميعُها بالإنجليزية. كانوا طلابًا مُفعمين بالحياة وصاخبين ومشرقين وودودين وحريصين على اصطحابي إلى فصولهم الدراسية، واستعراض مهاراتهم في لغتي الخاصة، وإشراكي في رؤية الجوائز التي حازتها مدرستهم. وقد تساوت بينهم أعداد الذكور والإناث، سواء في طاقم الموظفين أو الطلبة. وكانت الفصول مُزدانة بأحدث المعدات، والمدرسة نظيفة بشكل فائق، والجوُّ العام ممتلئًا بالحماسة والصرامة الأكاديمية والامتياز الأخلاقي.
وعندما التقيت مدير إحدى المدارس في وقت لاحق من الأسبوع في حفل عشاء مع المساهمين(4)، سألته مباشرة “لِمَ الطلاب والمعلمون في هذه المدارس مذهلون على هذا النحو؟ هل تُدرِّسون الأخلاق في الفصول الدراسية؟” ليأتي رده – ابتداء– في صورة ابتسامة عميقة متروية، ثم أجاب بهدوء: “إننا لا نُعلِّم الأخلاق، بيد أن معلمينا هم صورةٌ لما يقومون بتدريسه متواضعون ومتسامحون وعطوفون وأذكياء”. ومن رحم هذه الإجابة البسيطة كان مولد هذه الدراسة؛ إذ تنتقي مدارس الأستاذ كولن معلمين يكونون هم أنفسهم أشخاصًا ورعين مخلصين روحانيين أذكياء متواضعين، يُمرِّرون حكمتهم الذاتية إلى طلابهم من خلال الأفعال لا الأقوال. وحيث إن الطلبة يُشمَلون بالرعاية في بيئة الرحمة والتسامح هذه، فإنهم يصبحون مواطنين عالميين واعين قادرين على التأثير في محيطهم ومستقبلهم. ولعل هذه العبارة من الأستاذ كولن تصف ذلك أبلغ وصف، إذ يقول: “تتوقف استمرارية الأمم على ما تتلقاه شعوبها من التعليم ومن التوجيه صوب الكمال الروحي. وإذا لم يكن بوسعها تنشئة أجيال متطورة يُمكنها أن تعهد إليها بأمر المستقبل، فسيكون مستقبلها مظلمًا آنذاك”. (كولن، ص:56).
يتمثل الفارق بين بالمر وكولن في فضاء التعليم، في حرص مدارس كولن على عدم إبداء الشعائر الدينية داخل الفصول الدراسية، فضلاً عن توظيفها، سواء بشكل صريح أو بشكل ضمني.
إن ثمة جانبًا من جوانب مدارس الأستاذ كولن سيُعَدُّ موضع انتقاد في الولايات المتحدة في الوقت الذي قد يُعتبر فيه داخل تركيا مكمنَ خطورة، ألا وهو الطبيعة الجماعية للمدارس والحركة، ففي حين أن حركة كولن ذاتها ليست حركة مركزية بشكل صارم كونها تجد أساسها في الدين الإسلامي والتقاليد التركية العثمانية، إلا أنها حركة جماعية بطبيعتها، حتى إن البعض قد يزعم تبنيها للنزعة الجماعاتية. وبعبارة أخرى، يُحمَل الطلاب على التفكير سويًّا أو بصورة جماعية؛ لأنهم يُدفعون -من خلال المبادئ/الإسلامية- صوب تقديم خدماتهم التعاونية للبشرية، حيث يرمي تصوف الأستاذ كولن بطبيعته إلى خدمة الإنسانية بكل ما أوتي المرء من موارد حياتية.
لقد جعلت الحركةُ من الفكرة القائلة بأنك طالما تلقيت الدعم وأنت طالب، فعليك الخروج إلى العالم لدعم الآخرين، جزءًا لا يتجزأ من تركيبتها، وبذا فإنها تعمل على إيجاد شكل من أشكال “الجماعاتية” من خلال التزامها الجوهري بالإسلام، ومن خلال توجهها العالمي.
يقول الأستاذ كولن: “الآن إذ نعيش في قرية عالمية، أصبح التعليم هو أفضل السبل لخدمة البشرية، وللدخول في حوار مع الحضارات الأخرى” (كولن، ص:198)، أي إن الأستاذ كولن نفسه يعي أن حصيلة التعليم هي خدمة الآخرين لا خدمة المصالح الشخصية فحسب، وهو ما يترتب عليه أن تكون الفرضية التي يُنتقى المعلِّمون وعلى أساسها يتعلم الطلاب، هي أولوية التوجه الروحي؛ إذ ليتسنَّى للمرء خدمةُ الآخرين لا بد أن تتكوَّن لديه نزعة روحية تربطه بالإنسانية.
إن الروحانية الإسلامية تعضد من نموذج الأستاذ كولن التعليمي، الذي يتبدى عبر تدريس العلوم ومن خلال التربية الأخلاقية الملموسة، وذلك بهدف خدمة الحياة المدنية وإحلال السلام في الوجود؛ إذ من أجل خلق عالم أفضل للجميع، وليس من أجل نفع الطالب وحده، تُقدِّم هذه المدارس خدماتها التعليمية. وهذه الغاية واضحة ومقصود إليها في آن.
نموذج “بالمر” التعليمي
ليس بالأمر اليسير أن نعقد مقارنةً بين نموذج الأستاذ كولن والنموذج التعليمي الذي يقترحه باركر بالمر. وعلى الرغم من وجود اختلافات واضحة تمامًا بين النموذجين، إلا أنه قد يتضح أن ما بينهما من قواسم مشتركة يفوق ما نتوقعه لأول وهلة.
لقد بزغ النموذج التعليمي لـ”بالمر” من الخبرة التي اكتسبها إبان سنوات عمله هو نفسه معلمًا للصف؛ إذ شحذت إخفاقاته ونجاحاته مع الطلاب إدراكَه لطبيعة العلاقة الفريدة الخاصة التي تربط بين المعلم والطالب من جهة، وبين المعرفة المكتسبة والبيئة الدراسية من جهة أخرى. وقد أثَّرت الثقافة الأمريكية أو الغربية تأثيرًا عميقًا في تشكيل نظريته التعليمية، مثلما أثَّرت الثقافة الشرقية والدين الإسلامي في تشكيل نموذج الأستاذ كولن التعليمي. كما أن فكرته عن التعليم متأثرة إلى حدٍّ كبير بأنماط تنمية الفرد وبروح البحث عن الحقيقة التي تُمثِّل نقطة ضعف الشخصية الأمريكية. وهكذا لا يمكننا فصل سياق كل نموذج من هذين النموذجين التعليميين عن الثقافة والتركيبة الاجتماعية التي نشأ في إطارهما.
وكما تأثرت حركة كولن التعليمية بالتصوف، فقد تشكَّلت نظرية “بالمر” التعليمية في إطار الديانة المسيحية؛ فرغم أنه يفصل فصلاً واضحًا بين المسيحية كدينٍ محددٍ وبين رؤيته التعليمية، إلا أنه لا يُغفِل في أعماله أهميةَ الروحانية المسيحية. ويقترب كتابه “أن نعرف كما نُعرف” من أن يكون “اعترافًا” بالدور الذي تلعبه المسيحية في مجال التعليم، بدءًا بالاستعانة بالنصوص المقدسة، ومرورًا بالصلاة والصمت، حتى الوصول إلى اعتبار التعليم شكلاً من أشكال الترقي الروحي. وعند هذا الحد، فإنه والأستاذَ كولن لا يختلفان كثيرًا على الأرجح في اقتناعهما بأهمية التأثير الروحاني لإيمان الفرد على الطريقة التي يؤمنان أنه لا بد للطلاب أن يتعلموا وفقًا لها، وللمعلمين أن يتلقوا تدريبهم على أساسها، وللفصول الدراسية أن تُدار في إطارها.
أما الفارق بين هذين الرائدين الروحيين فيتمثل فيما يلي:
ينبثق نموذج الأستاذ كولن مما يكمن داخل المعلم، بحيث تتم ترجمته ونقله إلى ذات الطالب الروحية، أي إن المعلم نموذج للذات إذا جاز التعبير. وهكذا فإنه (المعلم) يُشكِّل النقطة المحورية في نموذج الأستاذ كولن، الذي يذهب إلى القول بخروج أشخاصٍ أفضل من رحم هذه الطريقة، وإلى القول بأن هذا الأسلوب يساعد على خلق عالم أكثر إنسانية.
وعلى نحوٍ مختلف، يُركِّز نموذج بالمر على ما يكمن في البيئة التعليمية ذاتها، أي البيئة الخارجية، مما يدفع الطالب إلى المبادرة بخدمة الإنسانية. ويضيف بالمر بأن للنصوص المقدسة الماضوية وبخاصةٍ النصوص المقدسة المسيحية، أهمية حاسمة في استيعاب ما يُمكن للتقاليد أن تُسهم به في بيئة الدراسة. كما يتضمن نموذجه التأكيد على أهمية معاملة النصوص المدرسية وكأنها “نصوص مقدسة”؛ كونها تطبع في ذهن الطالب تصورات عن الذات والعالم.
إن لكلٍّ من هذين المفكرَين والمُربيَين، أهميته الكبيرة في الحوار الدائر حول التعليم من أجل المستقبل؛ لأنهما يُقدِّمان رؤى تعليمية من شأنها أن تتمخض عن إحداث تحوُّلٍ في الروح البشرية على الصعيد العالمي.
وبالمثل، يتضمن نموذج بالمر التعليمي التأكيد على تأثير الصلاة وأهميتها كوسيلةٍ لمساعدة الطلاب على “رؤية ما وراء مظاهر الأشياء، وعلى اختراق السطح وملامسة ما يقبع تحته” (بالمر، ص:19). ولذا فإنه لا ينظر إلى الصلاة باعتبارها طقسًا روحيًّا أو دينيًّا فحسب، بل أيضًا كوسيلةٍ عمليةٍ متاحةٍ داخل التعليم العلماني نفسه. وهو لا يُنادي بالطقوس الرسمية للصلاة كما تتجلَّى في المسيحية أو في أي تقليدٍ ديني آخر؛ إذ سيبدو ذلك ضرب من العبث في بيئةٍ تفصل الكنيسة عن الدولة كالبيئة الأمريكية، لكنه يعتقد أن الفصل الدراسي هو مكانٌ يُمكن لمثل هذا السياق الروحاني المُعَدِّ جيدًا من قِبل المعلم أن يُساعد فيه لا على التعلم فحسب، وإنما كذلك على الارتقاء. وبعبارة بالمر: “بتجاوزه لمظاهر الأشياء، يعقد التعليمُ الأملَ على الحقيقة والعقل، وعلى قدرة العلم على تشريح العالم إلى الأجزاء الداخلة في تكوينه. إن الصلاة والتحليل لا ينتهيان إلى نفس النقطة؛ فبينما يقصد التحليل إلى تفتيت العالم إلى عناصره، تهدف الصلاة إلى رؤية ما وراء هذه العناصر من علاقات بينية مُضمرة. غير أن كلاًّ منهما يسعى إلى إضفاء الشفافية على العالم” (بالمر، ص:19).
وبعبارة أخرى، يؤمن بالمر باشتمال التعليم السليم على كافة الوسائل الروحية التي يُتيحها للمعلم إيمانُه الخاص، وهي وسائل مسيحية في حالته، جنبًا إلى جنب ما يُسهم به العلم أو مناهج التحليل. كما يؤمن بضرورة إشراك كلٍّ من القلب والعقل في النظام التعليمي؛ إذ تعمل الممارسة الروحية على خلق البيئة الملائمة للتعلم، فيما يُشكِّل التحليل غاية المغامرة التعليمية.
ويتمثل الفارق بين بالمر وكولن في هذا الصدد، في حرص مدارس الأستاذ كولن على عدم إبداء الشعائر الدينية داخل الفصول الدراسية، فضلاً عن توظيفها، سواء بشكل صريح أو بشكل ضمني. أما بالمر، من الناحية الأخرى، فلا يُواري في تعويله على الأساليب الروحية داخل فصول الدراسة من أجل أن يصبح معلمًا أفضل؛ فهو يدرك، شأنه في ذلك شأن كريس أندرسون مؤلف كتاب “التعليم بوصفه إيمانًا”، أن نشأة النظام الجامعي الغربي، كانت نشأة دينية أو مسيحيةً على وجه التحديد.
وهكذا تبدأ طريقته في التفاعل مع الطالب بتهيئة المؤثرات الخارجية التي تجابه هذا الطالب مجابهةً مباشرة، داعيًا إلى إحداث تغيير في إدراك الطالب لذاته. كما تتطلب منهجيته من المعلم أن يُعيد تشكيل إدراكه الذاتي لما يعنيه أن تكون معلمًا، أي دليلاً ومرشدًا وصديقًا. وبذا يُمثِّل هذا النموذج تحديًا واضحًا لنمط التعليم الموضوعي الذي يجعل من المعلم وجهًا سلطويًّا ومُدرِّبًا حياتيًّا.
شأنه في ذلك شأن الأستاذ كولن، فإن لباركر بالمر معجمًا خاصًّا يبدو جليًّا في كتاباته؛ إذ تتخلل أعمالَه كلماتٌ من قبيل الحقيقة والطاعة والانفتاح والحفاوة. كما أنه يُشبِه الأستاذ كولن في كَوْن كلمة “الحب” كلمةً بالغة الجوهرية في مؤلفاته، لدرجة استحالة وضع فهرس يُشير إلى مواضعها.
وبالنسبة له، تُعتبر كلمة “الحقيقة” إحدى الكلمات ذات الثقل في نظريته، وحيث إن خلفيته لمفهوم البحث عن “الحقيقة” خلفية مسيحية، فلا ينبغي لنا أن نندهش لاختياره هذه الكلمات الأساسية.
لقد عانت المسيحية طويلاً جرَّاء إصرارها المتواصل على بلوغ الحقيقة النهائية المطلقة، غير أن البحث عن الحقيقة لا يكمن -عند بالمر- فيما يعرفه المعلم فطريًّا، ولا فيما يُمكن للطالب تعلمُه، ولا حتى في الأسرار التي قد تشتمل عليها “النصوص المقدسة” المتاحة للدراسة، بل تكمن الموضوعات التي تستحق البحث بالأحرى -وفقًا لبالمر- في صميم “مجتمع الحقيقة”، وهي التسمية التي يُطلقها على فصول الدراسة.
بيد أن هذه الموضوعات ليست مباحث ملموسةً يُمكن تشريحُها وحفظُها، فبدلاً من ذلك، يلتف مجتمع الحقيقة هذا -مثلما قد تلتف أيُّ طائفة روحية- حول ذاك الذي يحافظ على تماسك المجموعة معًا، أي “الآخر” الذي يوجد في فصول الدراسة، “الآخر” الذي يجعل من الطالب والمعلم كليهما مجرد طالِبَي علم؛ إنه “المجهول”.
ويعتمد إدراك الطلاب لأهمية هذا “الآخر” على فعالية المعلم؛ إذ “لا بد للطلاب من معرفة سبب اهتمام المعلم بالموضوع الدراسي [المحدد]، وكيفية تأثير هذا الموضوع في مجرى حياته”. (بالمر، ص:104)، غير أن المعلم في هذا النموذج لا يُمثِّل محورَ الممارسة التعليمية، بل أحد المشاركين في اكتشاف الحقيقة، شأنه في ذلك شأن الطلاب.
يرى بالمر أنه حينما يتحول الفصل الدراسي إلى مكانٍ لا يتم فيه التركيز لا على الطالب ولا على المعلم، بل على ما يربطهما معًا، أي البحث المشترك عن الحقيقة، حينئذ تتسم العملية التعليمية بالأصالة. ووفقًا له، يُعَدُّ ذلك أسلوبًا روحيًّا من شأنه إصلاح حالة التعليم والإنسانية إصلاحًا حقيقيًّا.
إن أول مكان يستشعر الطالبُ فيه بقيمة التعليم المشترَك والاحترام المتبادل هو الفصل الدراسي، وهي القيمة التي يعتقد بالمر أنها ما تلبث أن تُترجَم في صورة خدمة الآخرين؛ إذ تقع “الحقيقة بيننا، في ثنايا علاقاتنا. ويُمكن العثور عليها في تضاعيف الحوار القائم بين مَن يعرف ومَن يُعرف، أولئك الذين يُنظر إليهم كذواتٍ مسؤولةٍ رغم استقلاليتها”. (بالمر، ص:55).
وفي حين تتسم هذه المنهجية بالنجاعة في سياقها الخاص مثلما هو الحال مع نموذج الأستاذ كولن في تركيا، إلا أن نموذج بالمر نموذجٌ مغايرٌ جدًّا؛ إذ يكمن “سر” التعليم -عنده- في الوسائل الروحية التي تهيئ البيئة التعليمية للفصول الدراسية وترعى الذات الفردية، بحيث تُشكِّل العلاقات داخل هذه الفصول الدراسية، قاعدة لتأسيس مناخ من الحفاوة التي تُسفر بدورها عن إطار إنساني تدور العملية التعليمية في فلكه. وبذا يخوض الطلاب والمعلمون مغامرة تنمية ذواتهم معًا وليس بطريقة هرمية؛ لتتأتى النتيجة على هيئة تغير يُصيب جوانية الفرد الذي يقع في الصميم من الثقافة الغربية.
وهكذا يؤدي النموذج التعليمي لـ”بالمر” إلى النتيجة نفسها التي يؤدي إليها نموذج الأستاذ كولن، وهي الوعي العالمي بضرورة خدمة الإنسانية والتفكير في الآخرين، يقول بالمر: “إن التعليم يعني ما هو أكثر من مجرد تدريس الحقائق وتَعلُّم الدروس من أجل دفع الحياة صوب غاياتنا المرجوة، إنه يعني استمالتنا إلى أن نستجيب لبعضنا البعض، وأن نستشعر المسؤولية تجاه بعضنا البعض، وتجاه العالم الذي نُعتبر جزءًا منه” (بالمر، ص:15). وكما هو الأمر في حالة الأستاذ كولن، فإن بالمر لا يؤمن بأن غاية التعليم هي العَوْد بالفائدة على الطلاب وحدهم، بل تتمثَّل رؤيته في أن من شأن التعليم المتحصَّل عليه داخل مجتمعٍ يقوم على [البحث عن] الحقيقة وعلى [ما بين عناصره من] علاقات تدفع متلقيه باتجاه تبنِّي فلسفةٍ حياتيةٍ تنشد التواصلَ والتغير.
وفي عبارته المثيرة التالية، يضع بالمر أمامنا بعض أفكاره الأكثر عمقًا حول فهمه الخاص لطبيعة التعليم: “في هذه اللحظة الحاسمة، لدينا الفرصة لمراجعة التعليم بوصفه مشروعًا جماعيًّا. ففي مثل هذا النمط التعليمي، ينصهر العقل والروح في وحدة واحدة، ويدخل المعلم والطالب والموضوع الدراسي في علاقة حيوية كلٌّ مع الآخر، وينتفع العالَم الذي يحتاج إلى تضميد جراحه بشكل أمثل” (بالمر، ص:19).
أوجه التلاقي
يؤمن بالمر بضرورة إشراك كلٍّ من القلب والعقل في النظام التعليمي؛ إذ تعمل الممارسة الروحية على خلق البيئة الملائمة للتعلم، فيما يُشكِّل التحليل غاية المغامرة التعليمية.
من المهم أن نلاحظ أن أوثق ما بين الرجلين من قواسم مشتركة فيما يتعلق بما يُظهرانه من التزام تجاه التعليم، هو ذلك التصور الذي لا بد وأنه لا يبدو ملائمًا للساحة التعليمية التقليدية بكل تأكيد؛ فكلاهما يُروِّج لفكرة ضرورة الحب بالنسبة للوجود البشري، ومن ثَمَّ لأهميته الحاسمة بالنسبة للعملية التعليمية.
ومع أن نقاش فكرة الحب قد يبدو غريبًا في ضوء النماذج التعليمية المبتكَرة، إلا أنه -أي الحب- يُمثِّل القاعدة التي يؤسس عليها كلٌّ منهما نظريته التربوية، رغم عدم توظيف أيهما للكلمة باعتبارها شكلاً من أشكال الشعور الرومانسي أو العاطفي.
ويُوضح بالمر الصلة بين الحب والمعرفة حين يقول: “إن المعرفة التي تنبع من الحب تزجُّ بنا في شِباك الحياة. إنها تحيط العارف والمعروف بشكل من التعاطف، وتدعونا إلى الالتزام والمشاركة والمسؤولية” (بالمر، ص:9)؛ أي إن بالمر يعتبر المعرفةَ فعلَ حب؛ فكونك تعرف وتُعرف يقودك إلى التعاطف الذي يبذر -بدوره- بذور الترابط المجتمعي والعالمي. وهكذا يبين بالمر -من خلال تقاليده الدينية المسيحية- أن أصولَ المعرفة ترجع إلى المحبة، ولذا يجب علينا أن ندرك أن نموذجه التعليمي لا يُؤتي أُكُله إلا في قلبٍ “تعرف المحبةُ والحقيقةُ اللتان تَشكَّل في أتونهما أول مرةٍ طريقهما إليه” (بالمر، ص:108). وبعبارة أخرى، فإن إدراكه الروحاني للخليقة ولأصول المعرفة والمحبة، يمهد الطريق للتجربة التربوية.
أما الأستاذ كولن فيتحدث بحرارة شديدة عن الحب في كتابه “نحو حضارة عالمية من المحبة والتسامح”، يقول: “الحب كالإكسير؛ فبه يحيا الإنسان، وبه يَسعد، وبه يُسعِد مَن حوله. وفي قاموس الإنسانية، نجده مرادفًا للحياة. إننا نحس ونستشعر بعضنا بعضًا بالحب. والله لم يخلق علاقة أقوى من الحب، تلك السلسلة التي تربط البشر أحدهم بالآخر. لقد أضحينا شديدي الارتباط بالحب لدرجة أن أصبحت حياتنا تعتمد عليه بشكل كامل وأصبحنا نكرس أرواحنا له؛ فحين نحيا نحيا بالحب، وحين نموت نموت بالحب، وفي كل نَفَسٍ من أنفاسنا نستشعره بكامل وجودنا، إنه دفؤنا في الصقيع، وواحتنا في الهجير” (كولن، ص:4).
تتجلَّى رؤية الأستاذ كولن حول المحبة في كل درسٍ يُعلمه لتلاميذه وأتباعه. وبعد أن التقيتُه أنا نفسي، صرتُ على وعي بأنه أحد أولئك الأشخاص النادرين الذين يُمثِّل حضورُهم نفسُه شكلاً من أشكال الحب المتجسد. وأثناء محادثة أجريتها معه على مائدة العشاء، سألته بشكل محدد عن الحب، مُوضحًا أنماطَه الأربعة التي روَّج لها معلمُنا المسيح، ليجيبني على نحو بالغ الإيجابية قائلاً: “إن الحب يقع في صميم الوجود البشري، وإن تعاليمه في معتقداتنا المختلفة -الإسلام في حالته، والمسيحية في حالتي- هي المرشد لأفهامنا وأفعالنا”. وبعبارة أخرى، فإن الحب -عند الأستاذ كولن- ليس مقولة نفسية، بل مسارًا روحيًّا.
ولعله قد أمكنَ لهذا المؤلف الذي يكتب عن الإيثار الصوفي، أن يوضح منبع شعور الأستاذ كولن الملموس بالحب حين قال: “لِنَعْبُدَ اللهَ مخلصين بتَوَجُّهٍ غيرِ منقوص؛ علينا أن نُفرِغ قلوبَنا من حب كل ما عداه” (هومرين، ص:80). ولذا، فللخروج بأيٍّ من التقييمات التي يُمكن طرحها حول نموذجه التعليمي، سواء بالسلب أو بالإيجاب، علينا أن نعي أنه لا يُمكننا استيعاب حركة كولن ما لم نتفهم عنصر الحب الذي يحافظ على تماسك أجزائها معًا، وكأنه عروة لا تقبل الانفصام.
إن العمق الروحي هو أساس النموذجين التعليميين اللذين يُقدِّمهما هذان المعلمان للعالم، والأمرُ كذلك لأن الحب لا ينبثق إلا من خلال العمق الروحي. ولن يُمكن اعتبار أي معلمٍ مُربيًا ما لم يتوافر لديه الوعي الروحي والعالمي؛ فتغيُّر البشرية -من وجهة نظر هذين العَلَمين التربويين- مرهون بهذه المسألة.
خاتمة
وختامًا، فمن دراستي وقراءتي لهذين المعلمَين، أعتقد أن بوسعي طرح التعقيبات التالية:
• نموذج كولن التعليمي:
1- رغم أن النموذج التعليمي للأستاذ كولن هو نموذجٌ استثنائي ولديه القدرة على إحداث تأثيرات عميقة في كلٍّ من الثقافتين الشرقية والغربية، إلا أنني لا أعتقد أنه سيترسخ في الغرب بطريقة معتبرة حتى تُحل إشكالية الفردية؛ إذ يُركِّز هذا النموذج على الجانب الجماعي للتعليم، مُستقيًا أخلاقياته وممارساته من الدين الإسلامي. كما أن حركة كولن هي حركة جماعية للغاية، سواء في تركيبها أو في مقاصدها. وهكذا ففي حين يُوجِّه نموذج الأستاذ كولن انتقادًا بالغ الجوهرية لمنهجية التعليم في الولايات المتحدة باعتباره -أي نموذج كولن- نموذجًا جماعيًّا فائقًا، إلا أنه يُنكر أو يُغفِل -في الوقت نفسه- أهمية الفرد على ما يبدو. وبما أن الروح الغربية تتمحور بصفة أساسية حول حرية الفرد، فلا بد من أخذ ذلك بعين الاعتبار إذا كان الهدف هو تبادل هذا النموذج التعليمي مع الغرب بأي طريقة يكون من شأنها أن تُحدِث تأثيرًا اجتماعيًّا.
2- من وجهة نظر غربية، يُمكن للمرء كذلك أن ينتقد نموذج الأستاذ كولن في أن ثمة نية خفية لزرع المـُثُل والقيم الإسلامية في الفصول الدراسية لكافة المدارس، بغض النظر عن الدولة التي تقع على أرضها هذه الفصول(5). وتتمثَّل حجة الأستاذ كولن في هذا الصدد في أن القيم والأخلاق الإسلامية، هي قيم وأخلاق عالمية؛ بيد أنه لو كان للرجل أن يُجادل يهوديًّا أو مسيحيًّا بخصوص هذه النقطة، فربما اكتشف أنه رغم إمكانية اتفاق هذه الديانات الإبراهيمية حول فكرة القيم العالمية، إلا أنها قد تختلف فيما بينها في تحديد هذه القيم. وعلى سبيل المثال، يوشك تأكيد الأستاذ كولن على التسامح باعتباره قيمة إيجابية بين المسلمين الأتراك أن يتحول إلى مصطلح سلبي داخل الثقافة الغربية، لا سيما في إطار نقاشات المجتمع التعددي؛ فمن وجهة النظر التعددية يعني التسامح أن تُوْلي الآخرين الحد الأدنى من الاهتمام ولا تُبالي بهم تقريبًا.
3- يتطلب نموذج الأستاذ كولن التعليمي وجود ماكينة ضخمة وسَمْحَة من المساهمين والداعمين وراء الكواليس للإبقاء على استمرارية هذا المشروع التعليمي. ومرة أخرى، فإن الوسائل التي تعمل بها الكيانات الاقتصادية في الغرب اليهودي المسيحي، لا تُناسب نموذج الأستاذ كولن لتمويل المدارس؛ إذ إن نموذجه -كما سبق أن أشرت- نموذج جماعي، بينما يعتمد الغرب على نمط فردي محدد لمنْح المال واستخدامه. ورغم أن الثقافة اليهودية المسيحية تتسم بالسخاء في جوهرها كالثقافة الإسلامية، إلا أن المدارس الخاصة تُموَّل إما من قِبل الشركات أو من قِبل المنظمات الدينية وليس من قِبل الأشخاص المتدينين إجمالاً. وأخيرًا، فحتى يتسنَّى لمدارس الأستاذ كولن أن تنتشر في الولايات المتحدة دون إثارة شكوكٍ لا داعي لها وسط مناخ الانهيار الحاد الذي أعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن ذلك سيتطلب عناية فائقة بوسائل جمع التمويل وإنفاقه على إنشاء وصيانة هذه المدارس.
• نموذج بالمر التعليمي
1- رغم مناقضته للمنظومة التعليمية الأمريكية نفسها بسبب طبيعته التي تصطبغ بالروحانية أكثر من اصطباغها بالعلمانية، إلا أنه لا يُمكن لنموذج بالمر التعليمي أن يزدهر في تركيا على الإطلاق؛ إذ من شأن الالتجاء إلى الممارسات الدينية والروحية -ولو كانت مُقَنَّعَة- أن يُثير الاستنكار الحاد داخل منظومة المدارس العامة في تركيا. كما أن نموذجه لن يَصلح لمدارس الأستاذ كولن التركية على الأرجح، بسبب تركيزه على الفرد أكثر من تركيزه على المجتمع.
(لأنه ما من مدارس تتبع بالمر [على غرار مدارس كولن]؛ كَوْن أفكاره تُمثِّل فلسفة في التعليم وليس حركة؛ فإنه من الصعوبة بمكان أن ندرس بشكل دقيق ما كان يُمكن أن يحدث لو شاد بالمر مدارسَ تستند إلى نموذجه. وهكذا فليس بوسعنا عقد مقارنة معتبرة بين هذين النموذجين التعليميين يُمكنها أن تمدنا بالمعلومات حول مدى فاعلية إحدى مجموعتي المدارس في مقابل الأخرى).
2- يُمكن لنموذج بالمر أن يتعرض للانتقاد حالَ مقارنته بنموذج الأستاذ كولن، بسبب عدم اهتمامه بالعولمة؛ فرغم تركيزه على المجتمع، إلا أنه لا يمتد ليشمل مدى عالميًّا كالذي يدأب منهج الأستاذ كولن على شموله. ولذا، ففي حين يلتزم بالمر التزامًا صريحًا بالطبيعة الجماعية للتعليم، إلا أنه لا يرى عن قُربٍ ما لنموذجه من أهمية في إحداث تأثيرات عالمية، أو ما يتضمنه من إمكانيات.
3- وبالمثل، يُمكن لنموذج بالمر التعليمي أن يُنتقَد بسبب تشديده البالغ على استخدام الوسائل الروحانية المسيحية؛ فهو يقع -بدرجة ما- في الخطأ عينِه الذي يقع فيه نموذج الأستاذ كولن، حين يفترض إمكانية تعميم الأساليب الروحانية المسيحية؛ إذ قد ينظر طالب بوذيٌّ إلى تعويل بالمر على الصلاة أو النصوص المقدسة -ولو بشكلٍ مُقَنَّع- على أنه نوع من التبشير. ولذا فقد يكون من الحكمة أن يعمل بالمر على تعميق إدراكه لما يُمكن استغلاله من الوسائل الروحانية لمختلف الديانات الموجودة في العالم بصورة فعالة داخل الفصول الدراسية، والتي يُنظر إليها في الوقت نفسه على أنها عالميةُ الطابع.
4- وأخيرًا، فإن نموذج بالمر التعليمي، يُركِّز على استخدامات عدة للفظة “الحقيقة”؛ فهو يؤمن إيمانًا عميقًا بأن التعليم متعلق بالبحث عنها، ولذا فإنه يعتقد بأن بوسع التعليم -على الأقل- أن يُمهِّد طريقًا لبلوغها. غير أن هذه الحقيقة التي يُتوصَّل إليها، عادةً ما تكون حقيقة فردية رغم أن الشخص ما يلبث أن يبادر إلى تطبيقها على السياق الجماعي، ولهذا خطورتُه البادية. وهكذا يُمكن لـ”بالمر” أن يفيد من الطبيعة الأكثر اتسامًا بالجماعية في بلوغ الحقائق الشاملة من نموذج الأستاذ كولن، مثلما يُمكن لنموذج هذا الأخير أن يفيد من الإمكانيات الأكثر اتسامًا بالفردية في بلوغ الحقيقة التي يُتيحها نموذج بالمر.
وفي الأخير، فإن لكلٍّ من هذين المفكرَين والمُربيَين، أهميته الكبيرة في الحوار الدائر حول التعليم من أجل المستقبل؛ لأنهما يُقدِّمان رؤى تعليمية من شأنها أن تتمخض عن إحداث تحوُّلٍ في الروح البشرية على الصعيد العالمي، وأن تدعم هذا التحوُّل مهما كانت محدودية تلك الرؤى. ولعل هذه المهمة ليست باليسيرة، ولذا فإنهما جديران بالثناء؛ نظرًا لمحاولاتهما المتبصرة لإصلاح حال التعليم ومن ثَمَّ حال الأسرة الإنسانية.
الهوامش
(1) باركر جي. بالمر (Parker J. Palmer) (ولد في 28 فبراير 1939م في شيكاغو، إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية) كاتب وتربوي وناشط يركز على قضايا التعليم والمجتمع والقيادة والقيم الروحية والتغيير الاجتماعي من خلال المناهج التعليمية، وهو المؤسس والشريك الرئيسي لمركز التجديد والشجاعة الذي يشرف على تأهيل المعلمين في المراحل التعليمية قبل الجامعية في كافة أنحاء البلاد.
(2) للأسف الشديد أغلق الحزب الحاكم مدارس الخدمة في تركيا بعد الانقلاب المزعوم في 15 يوليو/تموز 2017م دون أيّ مبرر قانوني، وطرد نحو 25 ألف من معلّمي هذه المدارس، ثم تشرَّد الطلاب إلى مدارس أخرى. (المحرر)
(3) رغم اعتماد هذا الدليل على التقدير الشخصي [أكثر من اعتماده على الحقائق أو البحث]، فقد خضتُ نقاشًا موسعًا نوعًا ما حول حركة كولن مع الكاتب التركي الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق الذي أفصح في الواقع عن رأيٍ سلبيٍّ حادٍّ تجاه الحركة. كما تحدثت بالمثل إلى بضعة أتراك يقيمون في الولايات المتحدة ويعارضون الأستاذ كولن وحركته.
(4) المساهمون هم أولئك الأشخاص الذين يُعاونون في بناء المدارس ويدعمون الحركة بمواردهم المالية وجهودهم المهنية.
(5) على سبيل المثال، في أثناء حصة موسيقى بأحد الفصول الدراسية في إحدى المدارس التي زرناها داخل تركيا، كان الطلاب يغنون أغنيةً عن النبي “محمد”.
المراجع
(1) أندرسون كريس، التعليم بوصفه إيمانًا، مطبعة جامعة بايلور، واكو، تكساس، 2004.
(2) كولن م. فتح الله، نحو حضارة عالمية من المحبة والتسامح، ذا لايت للنشر، نيو جيرسي، 2004.
(3) كولن م. فتح الله، الموازين أو أضواء على الطريق، المجلد 1، لندن، تروستار، ص:36.
(4) نوسنر، يعقوب وشيلتون، بروس، محرران، الغيرية في الديانات العالمية، مطبعة جامعة جورج تاون، واشنطن العاصمة، 2005.
(5) بالمر باركر، أن نعرف كما نُعرف: التعليم بوصفه رحلة روحية، هاربر/سان فرانسيسكو، 1993.
(6) بالمر باركر، الشجاعة على التعليم، جوسي-باس، سان فرانسيسكو، 1998.
(7) يافوز م. حقان وإسبوزيتو، جون ل. الإسلام التركي والدولة العلمانية، مطبعة جامعة سيراكيوز، سيراكيوز، نيويورك، 2003.
(8) دراسة: مقدمة من الدكتورة باربرا س. بويد، برنامج الدراسات الدينية، جامعة أوكلاهوما، خريف 2006.