هل يوجد مبرِّر لانتهاك القانون والفساد؟!
29 ديسمبر/كانون الأول (2014م)
لقد عرَّف “سنتوريا (J.J.Senturia)” الفساد بأنه: “مجموعة من الإجراءات غير القانونية تهدف تحقيق مكاسب للإداريين في السلطة العامة”.
إنني أرى أن هناك فرقًا بين “القانون” و”الحقوق”، فالحقوق مصدرها الشريعة الإسلامية المنزّلة، فإذا كانت الأحكام التي توافق عليها الفطرة السليمة والعقل السليم لا تتعارض مع الأحكام المنزلة فحينها يمكن اعتبارها “حقوقًا”، إذ من الممكن أن يضع الناس مجموعة من القوانين المخالفة للحقوق أو يقومون بتطبيقها بما يتنافى مع الحقوق.
وإن خير مثال على وجوب عدم مخالفة الحقوق للشريعة المنزلة هو أن الفساد يمكن تفسيره بشكل قد يقبله العقل، فبذلك التفسير يمكن اعتبار الفساد مقبولًا من وجهة نظر العقل في حين أنه غير مشروع من الناحية الحقوقية، فكاتب شلبي يتناول مسألة الرشوة من وجهتين مختلفتين: أولاهما: رشوة يُمنع قبولها وتقديمها، وثانيهما: فهي رشوة يُمنع قبولها فقط، فهو يرى أن النوع الثاني من الرشاوي يمكن إباحتها في حالة إذا كانت الغاية من قبولها هي دفع الضرر، وهو يفضل الرشوة التي تدفع الضرر على التي تجلب المصلحة، لأن الرشوة المقصودة هنا هي التي تدفع الضرر، وفي عصرنا هذا ثمة أناس يزعمون أن ظواهر الفساد ليست سيئة بالجملة، كما يرون أنها تلعب دورًا في تسهيل التطور الاقتصادي والنهضة والتنمية.
ويرى “سبيرو (Spiro)” و”وينر (Weiner)” أن ظاهرة الرشوة ليست مدمرة إلى الحد الذي تبدو في الظاهر، فهي تمنح للكوادر الإدارية المرونة في شؤونهم الإدارية وصلاحية في اتخاذ القرارات، والذين يؤيدون هذه الفكرة نراهم يبررون لجوءهم إلى تقديم الرشاوى إلى المسؤولين بأن القوانين التي تنظم العمل الإداري في مؤسسات الدولة تتضمن شروطًا مضنية ولا داعي لها، مما يجعل تنفيذ هذه الشروط شبه مستحيل، وهذا ما يؤدي إلى اللجوء إلى الرشوة من أجل تسيير الأعمال الإدارية، والجانب المهم في هذا الصدد هو تردد بعض التساؤلات في بعض أوساط المجتمع عن “إذا كان الالتزام بالشروط والقوانين الإدارية في تسيير الأعمال الإدارية يؤدي إلى عرقلتها وعدم إنجازها فلم لا نتخلى عن تطبيق هذه الشروط والقوانين وتكون التنمية والتطور من أولوياتنا؟”
وقد ظهرت في تركيا في الآونة الأخيرة فئة تؤيد فكرة “أن انتهاك القانون في تسيير الأعمال لا يعتبر فسادًا” وذلك استنادًا إلى الأحكام المضنية والقوانين السخيفة غير المجدية التي عرقلت الكثير من الأعمال التي كانت ستصب في صالح المجتمع على حد زعمهم.
وفي هذا الصدد يعتقد المتورط في أعمال الفساد أنه يحصل على ما يستحقه، ويرى كذلك أنه إذا لم يقدم على الفساد سيحرم من حقه، بل إنه يعترف بجريمة الرشوة من الناحية القانونية والدينية غير أنه يزعم أن إلباس هذه العملية غطاء شرعيًّا سيرفع عنه الجرم والحرج فيبقى هناك إثم من الناحية الدينية يتحمله المرتشي بمفرده.
إن من يؤيدون الفساد يؤكدون على أن التورط في أعمال الفساد أولى من تعرقل أعمالهم الروتينية التي تخدم المصالح العامة باعتبارها أخف الضررين على حد زعمهم، لكن الحقيقة خلاف ذلك تمامًا حيث إن الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو عن النبي ليس موجَّهًا إلى طرف معين دون ذكر الطرف الآخر في عملية الرشوة بل يشمل جميع الأطراف المتورطين في هذه الجريمة إذ يقول النبي : “الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ” ، والسبب في ذلك هو التأكيد على أن السماح بمسألتي الرشوة والفساد سيؤدي لا محالة إلى الانحلال الأخلاقي للمجتمع الذي سيدفع الثمن المضاعَف في كل عمل يتم من خلال الرشوة، فعلى سبيل المثال أفادت بعض الجهات المعنية في تركيا أن كل مواطن تركي خسر 3.273 ليرة تركية -ألف دولار أمريكي تقريبًا- جراء أعمال الفساد الذي تم الكشف عنها في 17-25 ديسمبر/كانون الأول عام (2013م)، هذا وقد نرى في هذه المرحلة إجراءات تهدف لمعاقبة الموظفين الحكوميين والإداريين، وأفراد الأمن الذين يعرفون بالإخلاص والنزاهة في أعمالهم من خلال إبعاد بعضهم عن مناصبهم وإعتقال الآخرين فضلًا عما نشاهده اليوم من انحلال أخلاقي في تركيا، فمن المعلوم أن المجتمع الذي ينجز عمله عن طريق الرشوة لا يحترم حكامه، ويفقد إيمانه وثقته بالنظام الإداري؛ كما أنه بمرور الزمان يتقبل جرائم الفساد والانحلال الأخلاقي على أنها نمط حياة معتاد لا يمكن الانفصال عنه.
وعندما ننظر إلى التطورات الراهنة على الساحة التركية في الآونة الأخيرة يخطر ببالنا سؤال مفاده؛ كيف لإداري أو سياسي ينعت نفسه بـ”المتدين” يصبغ أعمال الفساد بصبغة شرعية؟ ففي هذه النقطة نرى أن الإداري المتدين يسير على نفس المنوال الذي يسير عليه إداري علماني حيث إن كلًّا منهما يتبنى فكرة: “يمكن انتهاك القانون من أجل تسيير الأمور الهامة لأن تنفيذ القوانين في غاية الصعوبة”، ولكن الإداري المتدين يختلف عن العلماني، حيث إن الإداري المتدين يرى أنه يحمل على عاتقه “قضية كبرى”، إذ يؤمن بأن المسلم يجب أن يكون ذا قوة وبأس في جميع مجالات الحياة، ومن ثم فإن المسلم الذي يتحمل على عاتقه قضية كبرى كهذه يجب ألا يبطئ خطاه في “مسيرته المباركة!” منشغلًا بالقوانين التي تتضمن شروطًا مضنية، وعليه يرى أن انتهاك القانون لا يعد ضمن جرائم الفساد بل إنه يعتبر انتهاك القانون قوة دافعة لإنجاز “القضايا الكبرى” وإزالة العقبات التي تحول دون تحقيقها، ومن ثم يصير عملية انتهاك القانون هو القانون نفسه، وهكذا يتم إلباس ممارسات الفساد غطاءً شرعيًّا عن طريق إعمال العقل والمنطق.
وأرى أن الحل الأمثل والجذري لممارسات الفساد والرشوة المنتشرة في مؤسسات الدولة يكمن في وضع قوانين صارمة تحول دون وقوع مثل هذه الممارسات، وأما الحكام والأطراف السياسية إذا لم يقدموا على إصدار مثل هذه القوانين؛ هذا يعني أن هؤلاء ليسوا مخلصين في حل هذه المشكلة بل إنهم راضون عن ممارسة الفساد.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى تدفع المتدين إلى ممارسات الفساد بأنواعه بجانب ما ذكرناه آنفًا…
لماذا هذه التبرئة السياسيّة… وإغلاق ملف وزراء الفساد؟!
26 يناير/كانون الثاني (2015م)
لم يمثُل الوزراء الأربعة السابقون المتهمون بالتورط في فضيحة الفساد والرشوة أمام المحكمة العليا وذلك بفضل أصوات نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ولكن النقاشات المتعلقة بهذا الموضوع لم تنته بعد، فما زالت الادعاءات تشغل الرأي العام بحق هؤلاء المتهمين سواء كانوا الوزراء الأربعة أو غيرهم من الموظفين الحكوميين أو رجال الأعمال المقربين من الحزب الحاكم.
ومن المثير للاهتمام في هذه المسألة أنه ليست المعارضة وحدها هي التي تؤكد على وقوع هذه الفضيحة بل إن هناك عددًا من الشخصيات البارزة من الحزب الحاكم يعترفون كذلك بتورط بعض الوزراء في عمليات الفساد التي وقعت مؤخرًا في تركيا، وعلى سبيل المثال نجد السيد “محمد علي شاهين” وهو شخص بارز من الحزب الحاكم يعرب عن استنكاره لقبول الوزير الاقتصداد والشؤون المالية السابق “ظفر جغليان” -الذي ورد اسمه ضمن قضية الفساد والرشوة- ساعة يد قيمتها 700 ألف ليرة تركية -250 ألف دولار أمريكي تقريبًا- مقابل تسهيل عملٍ ما، مؤكدًا أنه لا يجوز لوزير أن يرتدي ساعة بهذه القيمة الكبيرة في بلد لا يتجاوز فيه الحد الأدنى للأجور ألف ليرة تركية -300 دولار أمريكي تقريبًا-، كما أن عددًا من الإعلاميين الموالين للحزب الحاكم يصدقون حدوث تورط هؤلاء الوزراء في فضيحة الفساد والرشوة، ويمكن أن نذكر هنا ما قاله الكاتب الصحفي السيد “أتيان محجوبيان (EtyenMahçupyan)”-والذي عمل في وقت سابق مستشارًا لرئيس الوزراء “أحمد داود أوغلو”- حيث يقول السيد “محجوبيان”:
“إن نسبة سبعين بالمائة من الشعب التركي يؤمن بتورط الوزراء الأربعة السابقين بفضيحة الفساد والرشوة”.
كما أن الكاتبة الصحفية “ناجهان آلتشي (NagehanAlçı)” التي تُعرف باستماتتها في الدفاع عن الحزب الحاكم تعترف هي الأخرى بفضيحة الفساد والرشوة بقولها في أحد برامج التليفزيونية:
“ليس هناك أحد يدعي عدم حدوث فضيحة الفساد والرشوة”.
إذن علينا أن نتساءل هنا؛ كيف يمكننا أن نقيم إغلاق ملف قضية الفساد والرشوة التي تعرف إعلاميًّا بـ”17-25 ديسمبر فضيحة الفساد والرشوة” وتبرئة الوزراء الأربعة السابقين وغيرهم من المتهمين ضمن قضية الفساد والرشوة من قبل القضاة الذين تم تعيينهم من طرف الحزب الحاكم للنظر في هذه القضية، في حين أن هناك أدلة ووثائق موثقة وتصريحات شخصيات معنية تثبت تورط الوزراء الأربعة السابقين وغيرهم في الفساد والرشوة في تركيا، فلا شك أننا لا يمكن أن نقيم هذا الوضع سوى بجملة واحدة وهي “إنها تبرئة سياسية للمتهمين”، أي أن السلطة الحاكمة تتستر على أعمال الفساد والرشوة التي تورط فيها بعض وزرائها في الحكومة السابقة من خلال تسخير قوتها ونفوذها السياسي سواء كانت في البرلمان التركي أو الجهاز القضائي وذلك من أجل ألا تصاب سلطتها بأي أذى.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا “هل السياسة تحتل مرتبة ومكانة أعلى من الحقوق والأخلاق؟” والجواب على هذا السؤال يتطلب منا التعرف على قوانين ثلاثة جارية في الكون، أولها القوانين الطبيعية التي يسِير النظام الكوني وفقها، وثانيها: قوانين إلهية أو قوانين وضعية بشرية، وأما ثالثها: السنن الكونية فهي تلك السنن التي تلعب دورًا محوريًّا في حياة المجتمعات؛ فازدهار المجتمعات وانحدارها مرتبط بهذا النوع الأخير من القوانين، فهناك مجتمعات ترسم نهايتها المأساوية بارتكاب الذنوب والمعاصي، فينزل الله على مثل هذه المجتمعات البلايا والمصائب فيمحقها ويزيلها عن مسرح التاريخ، ولا شك أن السلطة الحاكمة المتمثلة في الحكام والإداريين الذين وصلوا إلى سدة الحكم بتأييد من الشعب لهم الدور الرئيس في انحطاط تلك المجتمعات وانحدارها وتغييبها عن مسرح التاريخ، والله يصف في كتابه الكريم هؤلاء الحكام والإداريين بكلمة “المترف” في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 17/16)، ما الذي يجب أن نستخلصه من هذه الآية وما التفسير الأمثل لها؟ وهذا ما نجده في الحديث الذي روته السيدة عائشة : “أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : “أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” .
وهذا ما نراه في جميع العصور والأزمنة حيث إن الطبقة الراقية من المجتمع من أصحاب النفوذ وأولي القوة والسلطة والأثرياء تحميهم سلطتهم ونفوذهم وأموالهم من توقيع عقوبة السرقة عليهم بينما نجد الفقراء والمساكين يقام عليهم الحد والعقوبة بأبشع صورها في المجتمع ذاته، والنبي يشير في الحديث السابق إلى أن الأمم السابقة قد أصابها الهلاك والفناء برفعهم الحدود عن الأغنياء وأصحاب السلطة والنفوذ وإقامتها على الفقراء والمساكين، فكان هذا الإجراء سببًا في زعزعة العدالة وانهيار المجتمعات، ويؤكد النبي على هذه النقطة الهامة في حديث آخر حيث يقول : “حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا”.
وقد وصف الدكتور “وهبة الزحيلي” الحدود في قانون العقوبات الإسلامي بأنها حق الله تعالى، وهذا يعني أن الجرائم التي تستوجب الحد تدخل ضمن دائرة التعدي على حقوق العامة، وبعبارة أخرى فإن عدم توقيع الحدود على مرتكبي الجرائم في المجتمع لا يعد تعدٍّ على حق الله تعالى فحسب بل هو تعديًا على حقوق الأمة بأكملها، ومن ثم تكون التبرئة السياسية لمرتكبي جرائم الفساد والرشوة والساخرين بآيات من القرآن الكريم أمر تستنكره العقول السليمة.
إن “حادثة الإفك” التي نعرفها جميعًا تعد مثالًا رائعًا في هذا الصدد إذ إن من أهم العبر التي يمكن أن نستنتجها من هذه الحادثة أنه؛ إذا كانت التبرئة السياسية جائزة في الإسلام لاستطاع النبي أن يبرئ زوجته السيدة عائشة من الافتراء الذي تعرضت له بكل سهولة ويسر بصفته رأس السلطة الإدارية الأعلى في المدينة المنورة، وعلى سبيل المثال كان بإمكانه استنكار هذا الافتراء والتخلص من هذه الوتيرة المؤلمة بأن يقول لأهل المدينة “إن هذا محض كذب وافتراء عظيم عليَّ وعلى أهل بيتي يهدف إلى زعزعة وحدة المسلمين وإلحاق الضرر بالمصلحة السياسية لي وللمسلمين بصفة عامة” إلا أنه لم يفعل ذلك، ولم يستغل نفوذه وسلطته من أجل تخطي هذه الوتيرة الصعبة، ولا شك أنه إذا قال هذا الكلام لصدقَّه أصحابه إلا أن النبي أراد أن يعلمنا كيفية التعامل مع مثل الموقف الصعب حيث انتظر صدور قرار من مقام أعلى منه، فنزل الوحي الإلهي ليبرئ سيدتنا عائشة من الافتراء الذي وُجّه إليها.
وخلاصة القول؛ إن المجتمع الذي تتم فيه حماية أصحاب النفوذ وأولي القوة والسلطة والأثرياء ينهار آجلًا أو عاجلًا، وهذا من مقتضيات سنن الله تعالى في الأرض، ومن ثم فإن التبرئة السياسية لمرتكبي جرائم الفساد والرشوة تعد في حد ذاتها جريمة أخرى تضاف إلى الجريمة الأولى، فإن أجرى الله هذه السنة بدلًا عن رحمته ورأفته في مجتمع تستغل فيه السلطة الحاكمة نفوذها السياسي وتتبرأ من خلال هذه القوة من جميع التهم الموجهة إليها؛ فعندئذ على جميع أفراد هذا المجتمع أن يخافوا مما سيحيق بهم.
هل منظمة “غلاديو (Gladio)” وراء تلك الفضائح… ؟!
17 فبراير/شباط (2014م)
على الرغم من أن فضيحة عمليات الفساد التي عرفت إعلاميًّا بفضيحة 17-25 ديسمبر عام (2013م) والتي اعتقل خلالها عدد من أبناء الوزراء ورجال الأعمال المقربين من الحزب الحاكم، فضلًا عن اتهامات الفساد والرشوة التي وجهت إلى أربعة وزراء في حكومة “أردوغان” آنذاك ضمن القضية ذاتها؛ إلا أننا لا نجد أيَّ دليلٍ قاطعٍ يُثبت -كما ادّعى الحزب الحاكم والأوساط المقربة منه- أن حركة “الخدمة” أو كوادرها هم من كانوا يقفون وراء هذه العمليات.
علينا أن نعترف بأن المجموعة الإعلامية المقربة من حركة “الخدمة” قد حملت على عاتقها مهمة نشر فضيحة الفساد والرشوة التي تورط فيها الحزب الحاكم في تركيا، وإنني إذ أرى أن هذه المجموعة الإعلامية كان من الممكن أن تتعامل مع هذه القضية بشكل أخف وأبسط؛ إلا أنني أعارض بشدة الادعاء الذي يفيد بأن هذه النشرات الإعلامية تأتي ضمن مخطط يهدف إلى الإطاحة بحزب العدالة والتنمية تزامنًا مع عمليات الفساد والرشوة، بل إنني أرى أن هذه النشرات الإخبارية تأتي كرد فعل طبيعي تجاه قرارات الحكومة غير القانونية -وقد ألغتها المحكمة الدستورية العليا مؤخرًا- والتي تقضي بإغلاق المعاهد التحضيرية التابعة لحركة “الخدمة”، والسبب الآخر من موقف هذه المجموعة الإعلامية تجاه “فضيحة الفساد” هو انتشار القلق بين أفراد حركة “الخدمة” بسبب الإجراءات التعسفية غير القانونية التي يتخذها الحزب الحاكم والاعتقالات الموسعة والتي يقودها بين صفوف أفراد الحركة، أضف إلى ذلك أن هناك غموضًا حول توقف هذه العمليات أو عدمها في الفترات القادمة.
وعندما نعود إلى حديثنا حول عدم وقوف حركة “الخدمة” وراء عمليات “فضيحة الفساد” أذكر هنا على سبيل المثال آراء عدد من الشخصيات البارزة في الحزب الحاكم والتي شغلت مناصب رفيعة في الحزب والحكومة حول ما سمِّي بـ”الدولة الموازية”، ومن بين هؤلاء السيد “حياتي يازِجِي (HayatiYazıcı)” الذي يُعتبر من أهمّ الأسماء في مجلس الوزراء في الحكومة السابقة حيث يقول السيد “يازِجِي”:
“إنني لا يمكن أن أصدق الادعاء بأن هناك “دولة موازية” تسربت إلى مؤسسات الدولة حتى تُقدَّم الأدلة الكافية المقنعة التي تثبت صحته”.
وفي السياق نفسه يقول السيد “إدريس نعيم شاهين (İdrisNaimŞahin)” الذي وقف بجانب السيد “رجب طيب أردوغان” منذ الانتخابات البلدية التي جرت في شهر مارس من عام (1994م) والذي شغل بنجاح منصب وزير الداخلية في الدولة في ظل حكومة العدالة والتنمية، إنه لا يصدق وجود الكيان الذي يُطلَق عليه اسم “الدولة الموازية” كما أنه أدلى بتصريح أمام وسائل الإعلام أثناء إعلان استقالته من الحزب الحاكم جاء فيه:
“إن الحزب الحاكم بيد فئة صغيرة من المسؤولين”.
وكما أن نداء السيد “أرطغرل يالْجِين بايَر (ErtuğrulYalçınbayır)” أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية إلى رئيس الوزراء السابق ورئيس الجمهورية الحالي “أردوغان” يلقي الضوء على هذه المسألة حيث دعا السيد ” يالْجِين بايَر” “أردوغان” لإثبات ادعاءاته حول “الدولة الموازية” وإحضارهم إلى المحكمة ليخضعوا إلى محاكمة عادلة.
وعندما قلت إنه ليس هناك “دولة موازية” تابعة لحركة “الخدمة” تشكلت في هيكل الدولة لا أعني ذلك أنه ليس هناك محبي ومؤيدي الحركة في مفاصل الإدارة في الدولة، وهذه الحقيقة لا تنحصر في حركة “الخدمة” لأنه من البدهي أن هناك عدد كبير من عاملي الدولة والإداريين ينتسبون إلى حركات دينية مختلفة، وإذا أجرينا دراسة حول المسؤولين الإداريين والمحافظين وحتى الوزراء الحاليين نجد أن عددًا كبيرًا منهم ينتسبون إلى جماعة دينية معينة، وهذا أمر طبيعي، لكن الأمر الذي نرفضه ولا نقبله في هذا الأمر هو أن ينفذ أولئك الموظفون أو المسؤولون في الدولة أوامر مشايخهم ورؤساء جماعاتهم بدلًا من تنفيذ أوامر القادة المسؤولين عنهم، أو وجودهم ضمن شبكة أو عصابة تخطِّط لنصب الفخاخ والإيقاع بالدولة، أو سوء استخدامهم لصلاحياتهم والتصرف بشكل غير قانوني، والأمر الذي نؤكد عليه منذ ظهور المشكلة بين الحزب الحاكم وحركة “الخدمة” هو؛ إذا كانت هناك مؤامرة ضد الحكومة يجب التحقيق في هذه المؤامرة في إطار القوانين المشروعة بحيث يمكن تنفيذ العقوبات ضدّ من ثبت تورُّطه، ولكن ما نراه في الفترة الأخيرة أن الحزب الحاكم يتعامل مع الموظفين وأفراد الشرطة على أن تهمتهم هي أنهم مِن محبي حركة “الخدمة” فيكيل لهم أنواع القسوة كيلًا، فقد تم تسريح ما يقارب عشرة آلاف موظف وتشتيتهم بين مختلف المدن والبلدات وذلك دون مبرِّر أو أي عملية تحقيق معهم، مع العلم أنه لا يوجد لدى الحكومة أي من الأدلة التي تدين أولئك الموظفين، بل تعتمد على الظنّ والشبهة والإخباريات وعمليات التحقيق السرية حول الولاءات والانتماءات الشخصية، ويمكننا القول إن الحكومة تطبق “العقاب والانتقام الجماعي” ضدّ حركة بأكملها، حتى أدت بنا الأحوال إلى أن نترحَّم على أيام انقلاب 28 فبراير (1997م).
وعندما نعود للحديث حول “فضيحة الفساد والرشوة 17-25 ديسمبر” فإن بعض الناس يتساءل؛ هل جرت هذه العمليات ضمن تحقيق قضائي أم كانت مخططًا بهدف الإطاحة بالحزب الحاكم، ومع أن الرد على هذا السؤال مهم جدًّا فلا يمكن أن نتجاهل أن هناك أمرًا أهم من هذا وهو وجوب متابعة هذه التحقيقات من قبل قضاء عادل، وإذا افترضنا أن هذه العمليات بدأت ضمن مخطط كما يدعيه البعض فإنه لا بد أن يخضع هؤلاء المشتبه بهم لمحاكمة عادلة وإلا سيبقون في نظر الرأي العام مشتبهًا بهم وبالتالي لن يستطيعوا إثبات براءتهم من تلك القضايا، ولا شك أن هذا الموقف الذي يتبناه الحزب الحاكم وهو عدم قبول إحالة المتهمين إلى محاكمة عادلة يضر بسمعة الحزب ومكانته المرموقة لدى الشعب.
أرى أن التطورات التي جرت في الآونة الأخيرة في تركيا كقضية ما سمي بـ”الدولة الموازية” و”فضيحة الفساد والرشوة” وحادثة توقيف الشاحنات المملوءة بالأسلحة والذخيرة الموجهة إلى الأراضي السورية تستخدمها القوى الداخلية والخارجية كأداة فعالة ومؤثرة من أجل زعزعة الاستقرار في البلاد، وما نراه الآن من نزاع بين الحزب الحاكم وحركة “الخدمة” وحتى بين الحركات الإسلامية الأخرى ما هو إلا نتائج لهذه المساعي التي تبذلها القوى المذكورة آنفًا.
وفيما يتعلق برفض كل جهة التهم الموجهة إليها في الأحداث الأخيرة كرفضِ حركة “الخدمة” التهمَ الموجهةَ إليها على أنها تشكل كيانًا موازيًا في هيكل الدولة، وكرفضِ الحزب الحاكم التُّهمَ بالتورط في فضيحة الفساد والرشوة؛ يتساءل “عزيز يلدريم (AzizYıldırım)” رئيس نادي “فنربخشة (Fenerbahçe)” لدى مشاركته في برنامج تليفزيوني قدّمه “أحمد هاكان (AhmetHakan)” الكاتب الصحفي حيث يقول السيد “يلدريم”:
“كل جهة تنفي مسؤوليتها عن التورط في عمليات التحقيق في قضايا الفساد والرشوة، إذن لا بد من وجود جهة نفّذَت هذه العمليات، هل هي منظمة “غلاديو؟”.
علمًا بأن منظمة “غلاديو” التي أشار إليها السيد “عزيز يلدريم” هي منظمة سرية أسسها “الناتو” من أجل القيام بعمليات تصبّ في مصلحته، وفي الحقيقة أن هذه المنظمة السرية لم تعد تواصل نشاطها في الوقت الحالي ولكن هناك جهات أخرى ورثت عن منظمة “غلاديو” هذه المهام والعمليات.
لا شك أن تركيا تمر بمرحلة دقيقة في تاريخها، ومن الواضح أن هناك استهدافًا مباشرًا للحركات الإسلامية والحركات الدينية كافة في تركيا، وقد بدأت هذه العملية بحركة “الخدمة” وذلك بعد أن استطاعت الجهات العميقة أن تقنع الحزب الحاكم بأن الحركة تسعى جاهدةً من أجل الإطاحة بالحزب وذلك من خلال مؤامرة تستهدف الأشخاص المعينين بالحكومة، ويبدو أن الحكومة قد انساقت وراء نيران الفتنة هذه، مع العلم بأن جميع الأطراف ستكون خاسرة إذا استمر الحال على هذه الشاكلة.
أكل السحت
5 يناير/كانون الثاني (2014م)
إن الآية الكريمة التي وردت في سورة المائدة تلقي الضوء على مسألتي الفساد والرشوة حيث يقول الله تعالى:
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ…﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/41) إن الكذب وأكل السحت عاملان مهمان في انحلال النظام الاجتماعي وانهياره، فالكذب هو إخفاء الحقيقة وتحريفها، أما السحت فهو أكل الحرام ويطلق على كل أنواع الكسب غير المشروع، ويرى المفسرون أن كلمة “السحت” الواردة في الآية إشارة إلى الرشوة المتفشية على وجه الخصوص، فقد سئل النبي الأكرم محمد عن السحت؟ فقال: “السُّحْتُ: الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ” ، ويقول الإمام أبو حنيفة في هذا الصدد:
“إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حُكم حَكم به بعد ذلك”.
وقيل إن السحت يأتي بمعنى؛ المال الحرام وكل ما لا يحلُّ تناولُه، وكل حرام يَقبُح ذكرُه.
وإذا أمعنا النظر في الآية التي ذكرناها في بداية حديثنا نجد أن ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ اقترنت مع ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ وهذا يعني أن الحاكم الذي يأخذ شهادة الزور بعين الاعتبار في القضية التي ينظر فيها لا يمكن أن يصدر منه قرار عادل، وكلمة ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ الواردة في الآية تشمل كل ألوان الكسب غير المشروع من خلال المعاملات الربوية، واللصوصية المقننة، والفساد والرشوة، والاستغلال، والخداع، وبيع العرض، وتجارة الخمر والمخدرات، وفي هذا السياق لا بد أن نعترف أنه ليس من السهل للقاضي أن ينطق بالحكم العادل في قضيةٍ كِلَا المتخاصمين فيها يستمرئ الكذب والرشوة، لأن القاضي مهما كان حكمه سيرفضه أحد الطرفين لما يرى أن هذا الحكم لا يصب في مصلحته.
وكان بعض اليهود والمنافقين من أهل المدينة عندما يأتون النبي يظهرون أنهم يصدقونه في أقواله وأفعاله، ولكنهم في حقيقة الأمر يكنون في باطنهم الإنكار والجحود لما جاء به النبي ، إلا أن الله تعالى يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وكان هؤلاء المنافقون يرمون بذلك إلى نيل ثقة النبي حتى لا يفتضح أمرهم ولا تتزعزع مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع غير أنهم لا يرغبون في تغيير نمط حياتهم التي اعتادوا عليها والتي كانت مبنية على أكل السحت والحرام والعداوة والبغضاء، كما أنهم لا يرضون أن يتخلوا عن الملذات والشهوات التي تدمر الإنسان أخلاقيًّا، بالإضافة إلى كل ما سبق فإنهم كانوا يكنون العداوة والبغضاء لما جاء به النبي من حقائق إلهية وكانوا كذلك يثيرون العداوة والنزاعات والاستقطاب بين أبناء المجتمع لكي يحافظوا على مكانتهم، وكان كسبهم غير مشروع من الناحية الأخلاقية والحقوقية، وهذا ما يُعبَّر عنه بـ”أكل السحت”، وقد كانوا يعيشون جوًّا من النزاع الدائم فيما بينهم بسبب أكلهم السحت ومحاولة بعضهم التغلب وفرض السيطرة على الآخر.
والمؤسف في الأمر هو عدم تحمل رجال الدين مسؤولياتهم تجاه انتشار أكل السحت في مجتمعاتهم، فهم على العكس من ذلك -إلا من رحم ربي- كعامة الشعب لم يكفوا عن الذنوب والعداوة وأكل السحت، ومن أجل لفت الانتباه إلى الفرق بين ما يقوم به عامة الناس وما يقوم به علماء الدين فقد وصف بعضُ العلماء أعمال عامة الناس بـ”العمل” فيما وصفوا أعمال علماء الدين بـ”الصنع”، فالعمل هو أن يرتكب فرد من عامة الناس الحرامَ أو السوء دون دراية تامة بكونه حرامًا، أما ارتكاب الإثم بدرجة الصنع والصنعة يكون بوعي متجذر ودراية بالأمر، وهذا هو الفرق بين السوء الذي يرتكبه العوام من الناس والتي يطلق عليها بعضُ العلماء “الأعمال” وبين السوء الذي يرتكبه الإداريون وعلماء الدين والذي يندرج تحت كلمة “الصنع”، فالأعمال السيئة من الفساد وأكل السحت والاستغلال والعداوة والبغضاء التي يتورط فيها الإداريون وذوو الشأن وعلماء الدين بصفتهم القدوة التي يتبعها العامة ويحذون حذوهم يؤدي إلى شرعنة هذه الأعمال السيئة وترسيخها بين أبناء المجتمع، وفي السياق نفسه يقول ابن عباس عند تفسير قوله تعالى ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ…﴾ ” تِلْكَ الْحُكَّامُ سَمِعُوا كِذْبَةً، وَأَكَلُوا رِشْوَةً” ، كما قرأ “الضحاك” هذه الآية بالنصبِ فقالَ “سماعين” بدلًا من “سماعون” وذلكَ نصبًا لها على الذمِّ؛ للمبالغةِ في ذمهم ، ومما يُنسَب إلى علي بن أبي طالب قوله في إحدى خطبه: “إن ما أهلك الذين كانوا قبلكم هو عدم نهي العلماء لهم”، ومن ثم يجب على العلماء المسلمين الذين هم بمثابة وارثي النبوة وأصحاب الرأي والمشايخ والخطباء أن يستخلصوا الدروس والعبر مما ذكرناه آنفا واعين بأن السلطة ليست أثمن وأغلى من حفظ الأمانة ومن مراعاة الأخلاق.
المحسوبية ومحاباة الأقارب
10 يناير/كانون الثاني (2014م)
يذكّرنا القرآن الكريم في سورتي النحل والإسراء بمسؤوليتنا تجاه ذوي الأرحام وذوي القربى مؤكدًا على وجوب مواصلة العلاقات الأسرية وروابط القرابة على أساس الرحمة والتعاطف والتضامن والمسؤولية المادية والاجتماعية.
ولا شك أن تقصير الأغنياء في القيام بواجباتهم تجاه الفقراء بالقدر الكافي يعتبر عيبًا في حقهم غير أن تقصيرهم في واجباتهم إزاء الأقارب وذوي الأرحام أشد عيبًا وقبحًا، ولقد جعل الله للإخوة والأقارب والفقراء وابن السبيل حقًا في أموال الأغنياء كما جاء في سورة الروم قال الله تعالى: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سُورَةُ الرُّومِ: 30/38) وفي الحديث الشريف الذي رواه سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ يقول النبي : “إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ” ، وعلى هذا فإن النفقات المصروفة على الأقارب والفقراء وابن السبيل ليست مجرد مساعدة أو عطية بسيطة وإنما هي أداء حق واجب على كل مسلم.
وهناك أشكال عدة للقيام بالمسؤولية تجاه الأقارب والفقراء مثل تلبية احتياجاتهم الأساسية وتقديم رأس المال الكافي لأولئك الذين لديهم القدرة على العمل من أجل أن يستطيعوا تسيير أعمالهم وتزويج غير القادرين وما إلى ذلك.
إن زيارة الأقارب أو صلة الرحم تعزز الروابط الأسرية من جهة وتقوي من أواصر العلاقات بين أفراد المجتمع من جهة أخرى، بل يذهب بعض علماء الطب إلى أن زيارة الأقارب تمنع الإصابة بمرض الزهايمر، كما أثبتت الدراسات ارتفاع نسبة الإصابة بمرض الخرف لدى أولئك الذين يعيشون في عزلة منقطعين عن أقاربهم، وعلى النقيض نجد من لا يقطعون علاقاتهم بأقاربهم أو أصدقائهم بعد سن معينة يعززون قدرات ذاكراتهم المتعلقة بأحداث الماضي.
وهناك آيات قرآنية تصنف “ذوي القربى” من بين الفئات الذين يحق للشخص أن يستفيد من مالهم بعد مماتهم عن طريق الوصية، ولذا يجب على المسلم أن يفضل أقاربه على غيرهم، وهذا التفضيل يتفاوت حسب درجة القربى، ففي الحديث القدسي الذي رواه عبد الرحمن بن عوف عن النبي عن رب العزة: “أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ” نرى أن الله يؤكد على مدى أهمية صلة الرحم، كما ينبهنا إلى أن القاطع لها منقطع من رحمة الله تعالى.
لا شك أن رعاية حقوق ذوي القربى تحتل مكانة أولى بالنسبة للمسلم وخاصة إذا كان هؤلاء الأقارب من ذوي الحاجة إلى المساعدة المادية، هذا أمر مهم لا يقبل النقاش فيه، ولكن إذا كان هناك في المجتمع أناس أشد حاجة من هؤلاء الأقارب ففي هذه الحالة يكون الاعتناء بهؤلاء الفقراء أولى من الأقارب، فتفضيل الفقير على القريب هنا يحول دون انتشار العصبية للأقارب وأفراد العائلة على حساب الفقراء وذوي الحاجة في المجتمع.
إن الآية التسعين من سورة النحل التي يتلوها معظم الخطباء في نهاية خطبة الجمعة تتضمن مبادئ أساسية ورسائل عالمية حيث يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (سُورَةُ النَّحْلِ: 16/90)
وقد أمر خامس الخلفاء الراشدين “عمر بن عبد العزيز” بتلاوة هذه الآية في ختام خطبة الجمعة لأول مرة في تاريخ الإسلام وذلك بغرض الحيلولة دون سباب أهل البيت الذي كان منتشرًا في عهد الأمويين حتى أيام توليه منصب الخلافة، ولا تزال هذه العادة الحميدة مستمرة في بعض العواصم الإسلامية حتى الآن، وأما اختيار الخليفة لهذه الآية فيستند إلى سببين رئيسيين؛ أحدهما: اشتمال الآية على رسائل عالمية وثانيهما: هو تشديدها في قوله تعالى “ذوي القربى” إشارة إلى أهل بيت النبوة، وبطبيعة الحال يمكن أن نفهم من مصطلح “ذوي القربى” في هذا المقام حق أهل البيت علينا، إلا أن الآية تشتمل أيضًا على المسؤوليات التي يحملها كل صاحب نفوذ ومال إزاء ذوي قرابته القريب منهم والبعيد.
هناك نقطة أخرى يجب ألا نغفل عنها ألا وهي أن الله تعالى قد ذكر في الآية “العدل والإحسان” قبل “إيتاء ذوي القربى”، وهذا يعني أنه يجب على المسلم ألا يحيد عن العدل بينما يراعي حق أقاربه وأن يقدم لهم الدعم المادي والمعنوي دون المن عليهم وإيذائهم وجرح مشاعرهم، ولا شك أنه ليس من العدل أيضًا أن يعيَّن شخص في منصب وهو ليس أهل له بدعوى أنه من ذوي القربى.
إن “الواسطة والمحسوبية” في حق الأقارب ليست إحسانًا لهم بل هي إساءة في حقهم، ولا شك إذا انتشرت هذه العادة في المجتمع سيؤدي ذلك إلى ظهور ما يسمى بـ”محاباة الأقارب” في إدارة الدولة.
كذلك فإن تفضيل الأقارب وذوي الأرحام على أصحاب الكفاءة والخبرة سواء في الوظائف الحكومية وإدارة الدولة أو القطاع الخاص يؤدي إلى أضرار من جوانب عدة نذكر منها:
أولًا: إن تنصيب رجل في مقام ليس أهلًا له مثله كمثل رجل يقود سيارة دون رخصة قيادة؛ فيتسبب في وقوع حوادث لا محالة ويبلغ ضرره الصالح العام.
ثانيًا: إن التوسط لشخص غير مؤهل وعديم الكفاءة يعدّ إثما لأن ذلك سيضر بالصالح العام وفي الوقت نفسه سيكون ظلمًا لأصحاب الكفاءة واغتصابًا لحقهم.
ثالثًا: إن إسناد مهمة القيام بإحدى الوظائف إلى شخص عديم الكفاءة والخبرة لا يصب في صالحه حيث إنه يتولى وظيفة لم يكن يستحقها في الأصل.
وباختصار، فإن انتشار مفهوم “المحسوبية ومحاباة الأقارب” سواء في المؤسسات الحكومية أو القطاع الخاص يؤدي إلى عرقلة الأعمال وعدم توخيها العدل والقرارات العقلانية، فهناك فرق بين رعاية الأقارب وبين إسناد الأمر إلى غير أهله، وقد لعبت هذه المسألة دورًا محوريًّا في ظهور تيارين كبيرين في المجتمع الإسلامي، ولنلقي الضوء على هذه المسألة الهامة عبر تأمل هذه الآية الكريمة التي وردت في سورة الأنفال حيث يقول الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ…﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/41)
إن ذوي القربى المذكورين في هذه الآية هم أهل بيت النبي وأقاربه المقربون، وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى أن المنحدرين من بني هاشم وبني عبد المطلب يدخلون كذلك ضمن هذه الفئة المذكورة في الآية في حين أن علماء الإسلام اتفقوا على أن المشركين من أقارب النبي كأبي لهب لا يدخلون ضمن هذه الفئة، وكان النبي يخصص جزءًا من الغنائم قدر ما يكفي لتلبية احتياجات أقاربه المقربين طوال حياته الشريفة، وهذا الجزء كان يقدَّم إلى الفقراء منهم لكونهم “فقراء ومحتاجين”، ولا يقدَّم إلى الأغنياء منهم، وكان زين العابدين بن علي (ت: 740م)، أحد أحفاد النبي الأطهار يقول: “ليس من حقنا أن نبني القصور ونمتطي الخيول من أموال الخُمس”، إشارة إلى خمس الغنائم المذكور في الآية، وأما الإمام أبو حنيفة فقد ذهب إلى أن نصيب هذه الفئة سقط أو ألغي بوفاة النبي .
وقد ظهرت خلافات بين علماء المسلمين بشأن هذه المسألة بعد رحيل النبي إلى الرفيق الأعلى، وعلى سبيل المثال فقد ظهر خلاف بين خليفة المسلمين أبي بكر وسيدتنا فاطمة حيث طلبت السيدة فاطمة أن تخصص لها أرض “فدك” باسمها كميراث من والدها ، إلا أن الخليفة أبا بكر الصديق رفض هذا الطلب بدعوى أن الأنبياء لا يُورِّثون شيئًا وإن ما يتركونه من الأموال يكون في حكم “الصدقة”، وعلى هذا فقد حكم الخليفة أن السيدة فاطمة وأبناءها يمكنهم الانتفاع من هذه الأرض دون امتلاكها .
وبالرغم من وضع الحكم على هذا الأساس فقد شهد التاريخ تخصيص موارد مختلفة من الميزانية العامة للدولة وتقديم الهدايا والعطايا إلى أفراد أهل البيت من ذرية سيدنا الحسن أو الحسين الملقبين بـ”الأشراف” ، كما حافظ سلاطين الدولة العثمانية حتى آخر مراحلها على هذا التعامل حتى إنهم وسعوا نطاق هذه المساعدات والعطايا حيث وزعوا المخصصات بشكل منتظم على سكان مكة المكرمة والمدينة المنورة وفقراء الحرمين الشريفين وذلك عبر إرسال قافلة المحمل الشريف التي حملت الأموال إلى سكان هذه البلدان، وقد استمرت هذه العادات عدة فترات في التاريخ العثماني.
وأما علماء الشيعة فيرون ضرورة تخصيص الخمس من جميع الكسب وإيرادات الدولة فضلًا عن الغنائم التي حصلت عليها الدولة للأئمة الاثنا عشر المنحدرين من نسل النبي وبعد انقطاع هذا النسل يجب تخصيص هذه الأموال لمن يُلقب بـ”آية الله” باعتبارهم وكلاء عنهم في وضع الأحكام والاجتهاد في الفقه الإسلامي، وقد استمر العمل بهذا الحكم منذ فترة الركود التي مرت بها الأسرتان “الصفوية” و”القاتشارية” خلال المرحلة الانتقالية في إيران إلى اليوم، وقد أفضى هذا الأمر إلى سيطرة رجال الدين على موارد مالية ضخمة ومزاولتهم لأنشطتهم بشكل مستقل عن السلطة السياسية، وفي القرن الماضي قد أقر “آية الله البروجردي” وهو شيخ “آية الله الخميني” بجمع أموال الخمس في مؤسسة معينة وتوزيعها على أشخاص معينين من خلال تلك المؤسسة، ونستخلص من ذلك كله أنه يجب على المسلم أن يراعي حقوق ومصالح أقاربه ومساعدتهم ماديًّا إذا كانوا في حاجة إلى المال بقدر الإمكان، ولكن هذه الرعاية والمساعدة لا تعني التوسط لصالحهم من أجل وصولهم إلى وظائف معينة وهم ليسوا أهلًا لهذه الوظيفة وليست لديهم كفاءة لازمة ليستحقوا تولي هذه الوظيفة.
وأما الأمر الآخر الذي نستخلصه مما سبق أن المقصود من كلمة “ذوي القربى” الواردة في الآية السابقة هم أهل بيت النبي ، وقد أمر الله تعالى في هذه الآية تخصيص جزء من بيت مال المسلمين لهم، إلا أن الإمام أبا حنيفة كما ذكرنا آنفًا قد ذهب إلى أن هذا الحكم قد نسخ بعد وفاة النبي ، وبناء على ذلك الحكم؛ إذا أراد أحد أن يساعد أقاربه الفقراء لا يجوز له أن يصرف المال من ميزانية الدولة بل يجب عليه أن يتبرع عليهم من ماله الخاص.
ولا شك أن أبرز العوامل التي تفضي إلى تدهور النظام الإداري والسياسي والاجتماعي بالدولة هي تشكيل نظام في الدولة يستند على صلات القرابة والمواطنة والعلاقات العرقية والمذهبية والحزبية.
وإذا تأملنا في هذه المسألة على المستوى الفردي والعائلي سنجد أن الأقارب هم سبب اختبار وفتنة لأصحاب القوة والسلطة على أساس أن حبهم يمثل ضعفًا فطريًّا لدى أي إنسان، وقليل أولئك الذين نجحوا في هذا الاختبار ولم يستسلموا للضعف الفطري لديهم، وأما إذا وسعنا نطاق التأمل على المستوى الإداري فإن محاباة الأقارب التي تستند في الأساس إلى العصبية تتحول بمرور الزمن إلى وسيلة لإقامة سلطة قمعية تخدم أمن السلطة وإدامتها.
إن مسألة “محاباة الأقارب” أو “محسوبية الأقارب” التي يُطلق عليها في الغرب “نيبوتيزم (Nepotizm)” هي من أكبر المشاكل الاجتماعية التي نواجهها في الآونة الأخيرة في تركيا، وكان البابوات في عصر النهضة يعيّنون أبناء إخوتهم (Nepos) في أعلى المراتب الوظيفية، ومن هنا اشتق مصطلح “نيبوتيزم” في الغرب الذي يأتي بمعنى “المحسوبية”، وهذه المشكلة نصادفها بشكل أكثر في البلدان التي تحكمها السلطات الوراثية وحتى الدولة العثمانية قد عانت من هذه المشكلة في فترات معينة من تاريخها العريق.
إن انجذاب الإنسان تجاه أقاربه أمر فطري، ورعايتهم والسعي من أجل مساعدتهم كذلك أمر محمود، ولكن ما نتحدث عنه هنا هو تحول هذا الحب للأقارب إلى محاباتهم على حساب غيرهم من الناس.
وكانت أول حرب أهلية كبيرة وصراع دامٍ على السلطة في التاريخ الإسلامي قد وقعت في النصف الثاني من عهد عثمان بن عفان ، حيث كانت رغبة بني أمية في تأسيس منظومة قائمة على محاباة الأقارب وإبعاد القبائل الأخرى والبدو القادمين من البادية عن السلطة؛ تعد من أهم الأسباب التي أدت لظهور ذلك الصراع الدموي في العالم الإسلامي آنذاك، ومن أجل فهم الأسباب المفضية إلى هذا الصراع علينا أن نلقي نظرة سريعة على الوضع الاجتماعي وقتذاك، فقد جرت هجرتان كبيرتان في تلك الفترة، الأولى كانت في السنوات التي أعقبت هجرة النبي التي وقعت في عام (622م) حيث وفدت القبائل العربية المجاورة إلى المدينة واستقروا فيها بتشجيع من النبي ، وأما الهجرة الثانية فكانت في عهد سيدنا عمر بن الخطاب عندما حث المسلمين البدو المتشتتين في شبه الجزيرة العربية على الهجرة إلى المدينة المنورة وأماكن العمران الأخرى ليسكنوها ويقطنوا فيها، غير أن المعاناة التي واجهتها القبائل البدوية عند تخليهم عن عاداتهم وتقاليدهم السابقة، واستيلاء بني أمية على مناصب الدولة عبر نظام يتبنى محاباة الأقارب قد أديا إلى استقطاب فئات المجتمع وتصنيفهم ومن ثم ظهور صراع داخلي بين أبناء هذه المدن، كما أن من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور الشيعة والخوارج في العالم الإسلامي هي تلك السياسات التي تستند إلى محاباة الأقارب أو المحسوبية والتي كان يتبناها بنو أمية في إدارة الدولة.
وأعتقد أن هناك وجه شبه كبير بين تلك الفترة التي ذكرناها آنفا والفترة التي نعيشها في تركيا، حيث تجرى في بلادنا منذ عام (1950م) هجرة كبيرة من القرى ومراكز التجمع الصغرى إلى المدن الكبرى، والسبيل الوحيد لتواؤم هؤلاء السكان مع النظام القائم في المدينة هو توزيع الثروات وتقسيمها بشكل عادل، والمقصود بالعدل هنا مراعاة العدالة الإجتماعية عند توزيع الموارد البشرية والمادية في كافة المجالات الاجتماعية والقضائية والاقتصادية واعتبار الكفاءة والخبرة عند توظيف الناس في المناصب وتقديم الخدمات مع مراعاة متطلبات المجتمع والتخطيط السكاني.
وأعتقد أن السبب الرئيس للشرخ الاجتماعي العميق الذي نعيشه اليوم في تركيا هو إهمال الحزب الحاكم لمبدأ العدالة أثناء مسيرته في طريق التنمية، وعدم تأسيسه العدالة بين المتدينين وغيرهم من شرائح المجتمع التركي من العلمانيين والعلويين والأكراد وغير المسلمين.
لكنني أرى أنه ليس من قبيل الإنصاف تحميل حزب العدالة والتنمية وحده مسؤولية عدم إقامة العدل في البلاد، فقد علمتنا التجربة التي عشناها مع الحزب الحاكم خلال فترة زمنية تتجاوز ثلاثة عشر عامًا أن الحركات الإسلامية في تركيا لم تكن متمتعة بالمعلومات والتحليلات السليمة والصحيحة حول السياسة والدولة ولم تهتم جيدًا بمفهوم العدالة التي جاء بها الإسلام طوال نضالها الذي استمر قرنًا من الزمان، كما تبين لنا خلال هذه التجربة أن زعماء الحزب الحاكم الذين وصلوا إلى سدة الحكم بتأييد من كافة الحركات الإسلامية في تركيا تقريبًا والذين يصفون أنفسهم بأنهم من المتدينين والمحافظين غير راضين عن إشراك غيرهم في السلطة، ويسعون لاستغلال السلطة ومواردها لصالحهم ولصالح المقربين منهم، مغتصبين حقوق الآخرين بدون وجه حق كما فعل بعض أسلافهم في الماضي.
إن المحسوبية ومحاباة الأقارب تظهر في المجتمع حين تغيب العدالة.. والأقارب نوعان: ذوو الأرحام وذوو القربى، والمحاباة التي أقصدها هي التي تشمل كلا النوعين من الأقارب بالإضافة إلى الموالين من الإعلاميين وغيرهم، وهذا النوع من المحاباة والمحسوبية تتشكل من الأسرة في الدرجة الأولى، والثانية ذوو القربى، والثالثة الوحدة القومية، والرابعة الأهالي من نفس المدينة، والخامسة أهالي المنطقة، وأما الفريق الموالي للسلطة فهم الذين يحتلون الدرجة الأخيرة من هذه السلسلة، ومع أن نظام المحسوبية ومحاباة الأقارب وسيلة لتقاسم الثروات بطريقة غير عادلة إلا أنها تعتبر وسيلة جيدة لضمان البقاء في السلطة.
جريمة الكَسب غير المشروع
30 يناير/كانون الثاني (2014م)
إن الآية 188 من سورة البقرة والآية 42 من سورة المائدة تلقيان الضوء على مسألتي الفساد والرشوة، وفي السطور القادمة سنتناول بعد عون الله تعالى الآية 188 من سورة البقرة حيث يقول الله تعالى:
﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/188)
إن كلمة “الباطل” الواردة في الآية تطلق بمعنى الفاسد والضائع والذي يسقط حكمه ولم يترتب عليه الأثر المطلوب منه، وأما كلمة “الإدلاء” فتطلق على إرسال الدلو وإلقائه في البئر، كما أطلق البعض الرشوة على الدلو أو الحبل، ويقول ابن سيده عند شرحه كلمة “الإدلاء”، “وإنما حملناه على الدلو لأنه يوصل به إلى الماء كما يوصل بالرشوة إلى ما يطلب من الأشياء”.
ولا شك في أن ورود هذه الآية ضمن الآيات التي تبين أحكام الصيام من سورة البقرة أمر ذو مغزى عميق، ففي الوقت الذي يمتنع فيه المسلم عن تناول الطعام الذي اكتسبه بالمال الحلال وبالطرق المشروعة وهو صائم فكيف له أن يفكر في أكل أموال اكتسبت بطرق غير شرعية أو حتى حقوق الآخرين وثرواتهم؟!
إن تداول العملات والتعاملات المالية وتوزيع الأموال تعد من أهم الأمور في الحياة الاجتماعية.
كذلك إن الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تخلو من التعاملات المالية وتوزيع الخدمات بين أبناء المجتمع، فانتقال هذه الأموال والثروات بين أبناء المجتمع يعتبر من أهم أسباب الثراء لدى فئة معينة من المجتمع، والتجارة كذلك تعد من ضمن الوسائل التي من شأنها الحصول على المال بالمبادلة بهدف الربح، غير أن هذه العملية يجب أن تعتمد على أساس محدد وإطار مشروع، فمَن يأخذ البضاعة من مكان وينقلها إلى مكان آخر يؤدي خدمة مهمة بين المنتج والمستهلك، وبالتالي فمن الطبيعي أن يضيف هذا الناقل مبلغًا من المال كربح على سعر البضاعة، كما أن دفع أجر مقابل هذه الخدمة أو الجهد المبذول أمر ضروري، ولكن هناك طريق آخر لكسب المال والذي أشارت إليه الآية الكريمة التي ذكرناها في مطلع حديثنا بكلمة “الباطل” والتي نؤولها بالرشوة وهي عبارة عن تداول الأموال بطرق غير مشروعة ومخالفة للشرع.
إن تبادل الأموال من خلال الطرق غير المشروعة يعتبر مكسبًا غير مشروع، وهناك أنواع من هذا الكسب غير المشروع كالسرقة، والابتزاز، والفساد والرشوة، والاختلاس، والربا، والميسر، والسوق السوداء، واستغلال السلطة للمصالح الشخصية، والغش، والخداع، والوساطة والمحسوبية، والمحاباة وخيانة الأمانة وما إلى ذلك…
أما عبارة ﴿…وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ…﴾ الواردة في الآية الكريمة فتعني الحصول على الكسب غير المشروع من خلال وساطة أصحاب النفوذ والمناصب العالية في الدولة، وهذه العملية تجرى على صورتين؛ إحداهما: تقديم رشاوى إلى المسؤولين من أجل مصادرة أموال الآخرين أو نهب المصادر العامة للدولة، وثانيهما: تقديم مال أو متاع أو بضاعة إلى المسؤولين لتسهيل عملية الحصول على خدمة معينة، ومن المقاصد التي ترمي إليها الآية الكريمة هي منع الشخص من أن يدلي بماله إلى الحكام والحث على الدفاع عن الحقوق التي حددها القانون من أجل الحصول على المصالح الشخصية المشروعة، ومكافحة الرشوة إن كانت تعاملات الدولة تجرى بهذه العملية غير الشرعية، كما أن تحريم استغلال القوانين والجهاز القضائي لصالح شخص دون وجه حق، وتقديم الرشاوى إلى الحكام والمسؤولين لهذا الغرض ليعتبر من أهم المقاصد التي ترمي إليها الآية الكريمة.
وقد يبدو استغلال المحاكم والقوانين والقضاة توافقًا مع القانون من الناحية الشكلية والصورية، غير أن هذا لا يعني أن الأعمال التي تجري في هذا الإطار تتواءم مع روح القانون أو أن العدالة قد أخذت مجراها أو أن صاحب الحق قد استرد حقه، وفي هذا الصدد يقول أبو هريرة في حديثه الذي رواه عن رسول الله : “لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم” .
وكلمة “الحكام” الواردة في الآية الكريمة والتي تنهى عن تقديم الرشاوى إليهم لا تنحصر على الحكام فحسب بل تشمل كذلك جميع الإداريين وأصحاب القرارات والمناصب في السلطة، وعلى هذا فإنه يحرم على جميع أصحاب المناصب والقرارات أن يقبلوا الهدايا مقابل إنجاز عمل معين، ذلك أن أحدًا لا تأتيه الهدايا وهو جالس في بيته، والرسول قد غضب غضبًا شديدًا عندما قبِل الصحابي “ابن اللُّتْبِيَّة” هدايا منحت له بينما كان مكلفًا من قِبل النبي بتحصيل أموال الزكاة، وقال : “فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَبْعَرُ” .
وفي رواية أبي أمامة يقول النبي : “مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا” .
تَبرِئَة النَّفْس
27 فبراير/شباط (2014م)
قال الله تعالى في كتابه الكريم ﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (سُورَةُ النَّجْمِ: 53/32.).
لا شك أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالإنسان مهما حاول تبرئة نفسه، فإن الله يعلم ما في داخله وما اقترفه من ذنوب، يعلم كذلك ما يجول في ذهنه وخَلَده.
غريبةٌ هي نفس الإنسان إذ تزين له كل شئ، فيستبِيح كل ما يحلو له من عمل وإن كان محرمًا على الآخرين، والأغرب أنه يحاول شرح ذلك بعقلية يراها صحيحة لشرعنة أفعاله، ولكن مهما أقنع الشخصُ نفسه، ومهما حاول تبرئة ذاته أمام الناس، حتى إذا جعل العالمَ كله يصدِّقه، فإن هناك مَن يعلم خبايا ذلك الإنسان، ويعلم نياته وخفاياه، ألا وهو الله رب العالمين.
إذا تَعرَّض الإنسان لاتِّهَامٍ ووقع تحت الظنّ أو الشُّبهة، وكان هو بريئًا منها بالفعلِ؛ ينبغي له أن يتعامل مع تلك الادعاءات برحابة صدرٍ ويرضى بالتحقيقات والقانون والمحاكمة إلى أن تثبُتَ براءتُه.
ولا شك أن أفظع حالة للإنسان في ميدان الحشر أن تضاف سيِّئات الآخَرين إلى ميزان أعماله، وإنْ كان قد أنقذ نفسه من الحساب في هذه الدنيا الفانية، فلن تُعطَى له هذه الفرصة يوم الحساب الأكبر.
ومن المسلم به أنه يمكن أن يتعرّض أناس -لا سيما ذوي المناصب العليا في الدولة- لافتراءات وتُهَم، وليس ببعيد أن يُدبِّر خصومُهم السياسيُّون مؤامرات للإطاحة بهم، ولا ننسى أن الغاية العظمى من الافتراء هي ترْكُ علامةٍ سوداءَ على جبين الخصم، كما يهدف الافتراء أو الاتهام الكاذب إلى خلق علامات استفهام حول شخصية المفترى عليه لتعكِّر أذهان الناس، لذلك فالواجب على المرء الذي يتعرض لمثل هذه التهم هو السعي لتبرئة نفسه من خلال الطرق المشروعة والمعترَف بها.
والنبي الذي هو قدوة حسنة لنا في جميع أمورنا الدنيوية والأخروية يرشدنا كذلك في هذه المسألة بتعامله الحكيم في حادثة الإفك التي تعرضت لها سيدتنا أم المؤمنين عائشة ، وخلاصة الحادثة عندما كان المؤمنون في طريق العودة من إحدى الغزوات تأخرت سيدتنا عائشة عن الرَّكْب، مكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها، وفي هذه الأثناء مر بها أحد أفاضل أصحاب النبي ، فحملها على بعيره وأوصلها إلى المدينة، فاستغل المنافقون هذا الحادث ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة، وأوقعوا في الكلام معهم رجالًا من المسلمين.. فاتُّهِمَت إثرَ ذلك إفكًا وبهتانًا أمُّ المؤمنين عائشة ، ولا شك أن النبي كان يثق الثقة التامة بزوجته، ولكن راح هذا الادِّعاء يعكِّر أذهان الناس، ولذا كان لا بد من إظهار الحقيقة، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا أوَلَم يكن بوسع الرسول كرئيس دولة أن يقول هذا بهتان عظيم وجرم جسيم علَيَّ وعلى أهلي ويُنهي الأمر؟ بلى؛ لكنه لم يفعل ذلك، بل راح ينتظر الوحي من الله لتبرئة زوجته من هذه الطعنة، وقد عانى كثيرًا خلال هذه الفترة… ثم نزل الوحي من الله موضحًا ومبرِّئًا سيدتنا عائشة في سورة النور من الآية:11 إلى20.
إن مهمة “المؤسسة القضائية” هي إصدار الحكم.. والحاكم (القاضي)، والمحكمة، والمحاكمة، كلمات كلها من جذر واحد، كما أن العدالة تؤسَّس بالحكم الصحيح، وإن الحكم الذي يسعى إلى تأسيس العدالة، ضمان لإعادة الحقّ لصاحب الحقّ، إذن؛ حيادية الحاكم (القاضي) والمحكمة واستقلاليتهما واجب لتأسيس الحكم الصحيح، ولكن إذا كان المشتبَه به هو الذي يعيِّن حاكمه (القاضي)، وثبتت براءة هذا المشتبَه به بقرار حاكمه (قاضيه)، ألا يبقى في نظر الناس هذا الشخص “مشتبَهًا به” إلى يوم يُبعثون؟
لا بد هنا من التنويه بأن كل فعل إجرامي لم يُحاسَب عليه صاحبه في هذه الدنيا، سيُحاسَب عليه حتمًا في الآخرة أضعافًا مضاعفة، وإن رسولنا الكريم هو المثل الأعلى لنا في هذا الشأن، إذ جاء في الطبقات عن عبد الله بن سعد ، أنه لَمَّا اشتد عليه المرض خرج إلى الناس ويَدٌ على الفضل بن العباس ويَدٌ أخرى على علِيِّ بن أبي طالب ، وعندما وصل إلى المسجد اعتلى المنبر، ثم أمر سيدنا بلال الحبشي أن يؤذِّن في الناس ليجتمعوا حتى يوصيهم وصيته الآخيرة.
راح بلال وأذَّن في الناس… بعد فترة قصيرة امتلأ المسجد، عندها قام واستهلّ خطبته بالحمد والثناء ثم قال: “يا أيها الناس، إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ عِرْضِهِ شَيْئًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَقْتَصَّ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا فَهَذَا بَشَرِي فَلْيَقْتَصَّ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلَاكُمْ بِي رَجُلٌ كَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَخَذَهُ أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا مُحَلَّلٌ لِي” .
الفرق بين السرقة والفساد
27 ديسمبر/كانون الأول (2014م)
تناول الفيلسوف والأكاديمي الماليزي الراحل السيد “حسين العطاس “عجلة” الفساد والرشوة” في بلده “ماليزيا”، إضافة إلى “إندونيسيا” و”الهند” و”باكستان”؛ فقدَّم لنا في هذا الموضوع معلومات تنير دربنا .
ويظهر لنا التحليل الدقيق الذي أجراه “العطاس” أن وقائع الفساد في تركيا تطورت وفق أسباب وعوامل مماثلة لوقائع الفساد التي ظهرت في تلك البلاد المذكورة أعلاه، حيث درس ذلك الأكاديمي حوادث الفساد التي وقعت أثناء الانتقال من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات المتحضرة، وبطبيعة الحال فهذا لا يعني أن الدول الغنية اقتصاديًا ليس بها فساد إذ إن هناك ديناميكيات مختلفة للفساد في تلك البلدان، كما أن العقوبات الاجتماعية والقانونية تفرَض بشكل مختلف.
إن أعمال الفساد قد ظهرت في جميع العصور والأزمنة عبر تاريخ البشرية، ولقد تناول المفكرون هذا الموضوع وبحثوا عن الأسباب التي تؤدي إلى ظهور الفساد والرشوة، فيقول المصلح الصيني “وانج أنشي (WangAnshi)” (1021 – 1086م):
“إن هناك عاملين يؤديان إلى الفساد، وهما “الإنسان السيئ والقانون السيئ”، أما أخطر ما في هذا الأمر فهو سيطرة طائفة متدنية أخلاقيًّا على زمام الحكم، حيث تتوالى وقائع الفساد في كل أركان التسلسل الهرمي للدولة تزامنًا مع أنشطة هؤلاء في مؤسسات الدولة، فإذا قامت السلطة الإدارية بانتهاك القوانين أو تفسيرها بما يحلو لها وأقدمت على إصدار قوانين تسهم في انتشار الأخلاق السيئة بين أبناء المجتمع سيؤدي ذلك لا محالة إلى انهيار المجتمع بشكل كامل”.
أما المؤرخ ابن خلدون فيعزو أحد أهم الأسباب المؤدية إلى حدوث وقائع الفساد إلى اختيار الحُكام من بين الذين يميلون إلى حياة الترف والرفاهية، فهؤلاء الحكام والموظفون الحكوميون الذين يميلون إلى حياة الرفاهية والترف أكثر من غيرهم يقدمون على أعمال الفساد وذلك من أجل تمويل هذا النوع من الحياة، غير أن هذه الممارسات تؤدي بمرور الزمان إلى نشوء أزمات اقتصادية في هذا البلد كما يؤدي إلى انتشار الفساد في جميع هياكل الدولة.
إن الفساد كالسرطان، ما إن يصِيب بنية الدولة إلا ويتغلغل وينتقل إلى كل أعضائها، ويركزّ الفيلسوف العطاس عند تناوله مسألة الفساد على ثلاثة مصطلحات وهي؛ الرشوة والاستبداد والواسطة، وفيما يلي سنحاول عرض الفروق بين الفساد والسرقة:
أولًا: إن عمليات الفساد يتورط فيها أكثر من شخص بخلاف السرقة والاختلاس فإنها تتم في الغالب من قِبل شخص واحد.
ثانيًا: السرّية هي الأساس في الفساد كما هي الحال في السرقة، لكن إذا كان لدى الذين تورطوا في الفساد داعمون أقوياء فلا يبقى هناك حاجة إلى السرّية.
ثالثًا: يقوم الفساد على المصالح المتبادلة والتعاون المشترك وهو ما لا مكان له في السرقة.
رابعًا: المتورطون في الفساد يهيئون غطاء قانونيًّا لما يمارسونه من أعمال غير شرعية وأما السارق فليس في حاجة إلى ذلك.
خامسًا: يمتلك المتورطون في الفساد قوة داعمة للوصول إلى أهدافهم وتتمثل هذه القوة عادة في السلطة والنظام الإداري في الدولة، غير أن السارق ليس في حاجة إلى القوة السياسية أو الإدارية.
سادسًا: أية عملية فساد تتطلب خداع المجتمع والاحتيال عليه، ويعتبر “العطاس” أن توزيع السياسيين مساعدات مالية وغذائية قبيل فترة الانتخابات بغرض الحصول على أصوات الناخبين وتأييدهم لون من ألوان الفساد.
سابعًا: الفساد يقدِّم مصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد على مصلحة المجتمع؛ وعليه، يتحول نظام محاباة الأقارب والمحسوبية بالدولة إلى عجلة تدور حول مصلحة أشخاص وجماعات بعينها.
ثامنًا: بينما تلحق السرقة أضرارًا بالأشخاص أو الأماكن التي تتعرض لها كالمنازل والمكاتب وغيرها، فإن الفساد يضر بالمصلحة العامة للمجتمع بأسره.
وإذا نظرنا إلى المسألة من زاية العقل والمنطق بغض النظر عن الناحية القانونية فإن “الفساد” يختلف تماما عن “السرقة”، فالسارق يأخذ ما يملكه الآخرون خلسة، لكن هذا لا يعني أن المتورط بالفساد لا يستولي على أموال أو مصادرِ الآخرين أو المال العام، وفي رأيي أن استيلاء الفاسد على أموال مملوكة للآخرين يعد ضمن “سرقة نوعية”، لكونها مخالفة للأخلاق والقانون وهو أخطر وأضر من السرقة التي نعرفها جميعًا بهذا المعنى.
عندما يكون مفهوم “تسهيل الإجراءات القانونية” هو العنصر الأساسي في نظام يقوم على الفساد والرشوة، فإن الشركات الكبرى في هذا البلد بعيدًا عن أدائها الحقيقي والفوائد التي حققتها للصالح العام فإنها ستحصل على مصالح عظيمة أكثر مما تستحقها، وإذا سأل القارئ الكريم “إذن من الذي سيتحمل الأضرار التي ستترتب عليها هذه العملية؟” فإنني أجيب عليها بعبارة واحدة “إنه المجتمع بأسره”، وهذا سيفضي في نهاية المطاف إلى مواصلة الطبقة التقليدية زيادة نفوذها وقوتها الاقتصادية والسياسية في البلاد أو ظهور فئات جديدة في المجتمع تهدف إلى الوصول إلى سدة الحكم بطرق شرعية أو غير شرعية وغايتها الأساسية بسط الهيمنة في البلاد والحصول على الثراء السريع.
وفي النهاية أود أن أطرح سؤالًا: كيف للإنسان الذي يصف نفسه بالتدين أن يتورط في أعمال الفساد والرشوة في مجتمع يعاني أصلًا من هذه الممارسات غير القانونية؟