في هذه الدولة مجموعة من الأشخاص دائمًا ما يُشَبَّهون بـ”الأورام السرطانية”، ويُعامَلون كما لو كانوا “فيروسات”، إنهم أولئك المتهَمون بـ”الخيانة”، الذين تزعم الدعاية أنه “لا بد من استئصال شأفتهم”.
اليمينيُّون واليساريُّون والعَلَوِيُّون والأكراد والمتدينون والأقليات غير المسلمة، كل هؤلاء تَعَرَّضُوا للإهانات الفظيعة والافتراءات التي تهدف إلى تصويرهم كمجرمين، حتى إن طائفة منهم قد وُصمت بالفاشية، بينما أُطلِقَ على طائفة أخرى وصف “الشيوعيين”، وذلك لتنتهي الحال بالمواطنين إلى لعن بعضهم بعضًا، وليس هناك فارق كبيرٌ بين أولئك الذين اتخذوا من جمودهم العَقَدِيّ مسوِّغًا لتجريم حقّ الغير في ممارسة شعائره الدينية، والعقلية التي تزعم أن المواطنين غير المسلمين (كالأرمن واليونانيين والسريان) ليسوا سوى حفنة من العملاء، تلك العقلية التي ارتأت في الحقوق والحريات الأكثر طبيعية وديمقراطية للشعب الكردي إهانةً للدولة، مثلما ارتأت في الشعب التركي الذي طالما شعر بالتصالُح مع تاريخه ودينه تهديدًا إجراميًّا، أقول إنه بسبب مثل هذه التركيبة الذهنية التي درجت على وصم شرائح معيَّنة من المجتمع بالخيانة، بسببها أهدرت دولتنا زمنًا طائلًا وتَمَكَّن النظام القمعي من إخفاء حقيقته، عن طريق اللجوء إلى تبديل الأقنعة تبعًا لِمَا يقتضيه تغيُّر الظروف، لا لشيء إلا ليحتفظ بما يتمتع به من نفوذ.
هؤلاء الذين يوجِّهون الاتهام بالتجسُّس إلى فئات وطنية من المجتمع، إما أنهم لا يعرفون شيئًا عن القانون وإما أنهم يسعون لتقويض سيادته بسبب ما يُكِنُّونه من حقد وكراهية، ولعلَّ عدم توافر الأدلَّة الملموسة التي تُثبِت هذه الشبهات والمزاعم، هو ممَّا لا يمكن تفسيره كمصادفة بحتة، لأن الزَّجَّ بالآخرين داخل دائرة الاشتباه عبر المناورة بالشائعات والتلاعُب بالشكوك هو خطيئة دينيَّة وجُرْم قانوني على حدِّ سواءٍ.
والآن، يوَدُّ بعض الجماعات لو أمكنه أن يجعل من حركة “الخدمة” إحدى ضحايا مثل هذه الثقافة الغوغائية، ففي البداية دبَّرَ البعض جريمةً وهميَّةً وغامضةً ضدّ الحركة، استنادًا إلى ادِّعاءاتٍ بوجود ما يُسمى “الدولة الموازية”، ومع ذلك فإن مثل هذه التهمة مُبهَمة لدرجة أنها لو وُجِّهَت إلى هؤلاء الذين يلومون الحركة لتكوينها “دولة موازية”، لبدا الاتهام مبرَّرًا بسبب غموض الادِّعاءات.
ولو سلَّمنا جدلًا بأن جريمةً قد ارتُكِبَت بالفعل، فينبغى توافُر الأدلَّة الملموسة على وجود تنظيم غير قانوني أو مقوِّمات من قَبِيل اللجوء إلى العنف أو استعمال القوة أو السلاح، أما في حالة عدم توافر الإثباتات، فيمكننا اعتبار كل هذه الادِّعاءات محضَ افتراء، خصوصًا تلك التي تتعلق بتهمة التجسُّس.
لقد كشفَت التطوُّرات الحادثة قبل الانتخابات البلدية، التي جرت فاعلياتها في 30 مارس 2014م، عن حقيقة الواقع المجتمعي، كما تلخِّصه الواقعة التالية: أعرب مواطن يبلغ من العمر 82 عامًا لزعيم حزب الحركة القومية “دَوْلَتْ بَهْجَلِي”عن تأييده حزب العدالة والتنمية على مدار سنوات، غير أنه قد بدأ يستشعر القلق مؤخرًا -تحديدًا منذ الانتخابات- حول مستقبل أبنائه (الذين يعتنقون مبادئ فتح الله كولن)، وجاءت كلمات “بَهْجَلِي” الصادقة التي حاول بها طمأنة الشيخ لتُثِير حماسة الجمهور، إذ كان رَدُّه: “لستَ وحدَك من يُحِسّ بذلك”.
هذا ما قاله “دَوْلَتْ بَهْجَلِي (Devlet Bahçeli)”، زعيم حزب الحركة القومية الذي يتبنَّى اتجاهًا سياسيًّا يقوم على أساس القومية التركية، فماذا عن الحزب السياسي الذي يقف على الجانب الآخر؟ لقد أدلى “حزب السلام والديمقراطية (BDP)” (الذي تستند نزعته السياسية إلى القومية الكردية) ببيانٍ واضحٍ وقويّ حين صرَّح زعيمه “صلاح الدين دَمِيرْطَاشْ (Demirtaş)” قائًلا: “ليس بوسعنا التغاضي عن هذه الحملة الغوغائية التي تستهدف حركة (الخدمة)”، حتى إن موقفه الديمقراطي قد حوى كثيرًا من الدروس المستفادة لأولئك الذين وقعوا ضحايا من قبل.
وبطبيعة الحال، كان بعض هؤلاء الذين وقعوا ضحايا من قبل قد تحولوا فيما بعد إلى حكام مستبِدِّين يحاولون الاستفادة مما تُخوله الدولة إليهم من نفوذٍ استفادةً كاملة، مع ذلك فإن مختلِف ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي لم تتوحد خلف الاستبداد، فأحزاب “الشعب الجمهوري” والسعادة” و”الوحدة الكبرى (BBP)” لم يدعم أيٌّ منها الحملة الشعواء ضدّ الحركة، علاوةً على ذلك فإن أنصار حزب العدالة والتنمية أنفسهم -باستثناء المتعصبين وضيِّقي الأفق- لا يوافقون على هذه الحملة، وذلك لِمَا يعرفونه عن حركة “الخدمة” من عدم لجوئها قَطُّ إلى الأساليب غير القانونية، فهي حركة ديمقراطية ومدنية تركية تربطها بكثير من الأفراد المنتمين إلى جميع الفئات المجتمعية أواصر المَوَدَّة، حتى إن عديدًا من الأشخاص العلويين والسُّنَّة والأكراد والترك واليمينيين واليساريين والعلمانيين ومناهضي العلمانية يقيمون معها علاقاتٍ وثيقة ويقدرون ما تبذله من جهد، سواءٌ أنْتَمَوْا إلى الحركة أم كانوا من خارجها.
ورغم كل ذلك فإن بعض الأشخاص تدفعه الرغبة في الانتقام إلى توجيه اتهامات إلى الحركة بارتكاب جرائم واعتبارها منظمةً محظورة واضطهاد المتعاطفين معها، وقد يشرع هؤلاء الأشخاص -الذين سيكونون في موقفٍ صعبٍ للغاية حين يُسجَّل التاريخ دون أن يكون بمقدوره أن يبرِّر أفعالهم أمام الله- في شَنّ حملات غوغائية، كما سبق حدوثه من قبل، ومع هذا فينبغي أن لا ننسى أن الضمير الجمعي للبشرية كلها سيُدِين الطغيان كافة وأن الله “العدل” سيحاسب المسؤولين عن ذلك، وسيخسر في النهاية هؤلاء الذين يرجمون بالغيب ويثيرون الشائعات -لحاجةٍ في أنفسهم- ويفترون الكذب اعتمادًا على مناخ الريبة السائد في هذه الأيام.
إن المآلات لم تتغير قط، فكل فصيل مجتمعي تَعَرَّض للتشهير والتجريح و”الاجتثاث” لم يُقضَ عليه نهائيًّا من قبل، ولن يمكن ذلك في الحقيقة، ولا توجد استثناءات لهذه القاعدة، فما من فئة اجتماعية يمكن مَحوُها كلِّيًّا عن طريق فرض الاستبداد عَبْر سلطة الدولة، بل على النقيض من ذلك تكتسب هذه الفئة مزيدًا من القوة، لأن الحركة التي تحرِّكها “فكرة” لا يمكن تصفيتها بالقمع والبطش، وخلال انقلاب الثاني عشر من سبتمبر 1980م، أُلقِيَ القبض على مئات الآلاف من الأشخاص وعُذِّبوا وأصدر القضاء أحكامًا بالإعدام في حقِّ عشرات منهم، فهل انتهت الحركات اليسارية أو اليمينية في تركيا؟ بل ليس هناك ما تبقى من قادة الانقلاب المستبدِّين وإن بقيت أفكار المضطهَدين على قيد الحياة وبقي أشخاص ما زالوا يقدِّمون أنفسهم باعتبارهم ديمقراطيين اجتماعيين واشتراكيين ويساريين ومثاليين، وتُواصِل الأحزاب السياسية التي تستوحي أفكارها من هذه الأيديولوجيات حصد ملايين الأصوات الانتخابية، حتى إن هؤلاء الذين اعتُبروا “فيروسات” خلال عملية 28 فبراير 1997م وواجهوا اتهاماتٍ بالرَّجْعِيَّة قد وصلوا إلى سُدَّة الحكم.
إن اللجوء إلى الاستبداد الذي دائمًا ما ينتهي إلى نفس النتيجة ويمهِّد الطريق للاضطهاد لا يُسفِر عن شيء، اللهم إلا الخضوع لمساءلة التاريخ، ويكفيهم النظر إلى ماضينا القريب للتبصُّر بهذه الحقيقة، لو أنه ما زال لديهم بعض الإدراك السليم.
ماذا عن ممارسة السياسة في المساجد أيضًا؟
في الآونة الأخيرة أبدى “هَاكَانْ شُوكُورْ” اعتراضه على إثارة خطاب الكراهية داخل المساجد، وكان تصريحه هذا مثيرًا للاستغراب، وقد وَرَدَت القصة في التقارير الإخبارية على هذا النحو: “بعد حضور نجم كرة القدم التركي الشهير “هَاكَانْ شُوكُورْ” جنازة مدرِّبه “أكرم كَارَابَرْبَرْ أُوغْلُو (Karaberberoğlu)” (التي جَرَت مراسمها في أحد المساجد)، وفي أثناء خروجه بعد أداء الصلاة، صاح أحد الأشخاص في وجهه متهمًا إياه بخيانة بلاده”، نعم! كانت “الخيانة” هي التهمة التي لا هوادة فيها والتي أصبح “شُوكُورْ” (الذي سبق لإدارة حزب العدالة والتنمية دعوته ليكون نائبًا برلمانيًّا) بمقتضاها خائنًا، لاستقالته من الحزب اعتراضًا على أخطاء الحزب.
وقد يُحكَم بتفاهة هذه الواقعة إذا اتضح أنها واقعة نادرة أو شاذَّة، لكن الوضع الراهن يشي بخلاف ذلك، إذ يميل السياسيون –للأسف– إلى استخدام لغة وخطاب مسمَّمَين من شأنهما تغذية الاستقطاب، حتى بين مرتادي المساجد، كما يعمل بعض وسائل الإعلام الداعمة “للمحافظين” على إثارة حفيظة المواطنين وتعزيز مثل هذا الخطاب، ولعلَّ الغرض من وراء هذه الإساءات استعداء المواطنين وشقّ صفِّهم، وذلك إلى حدِّ وصم ولو بعض منهم بتهمة الخيانة، وهو ما يُمثل خطًا فادحًا، إذ ينصُّ الإسلام بوضوحٍ على أنه في حالِ كفَّر مسلمٌ مسلمًا غيره، فقد باء بالتهمة أحدهما، لذا فإن مصيرًا مريعًا ينتظر أولئك الذين يُكفِّرون ملايين المسلمين.
وبلا شك، فإن هؤلاء الذين يعيشون في الأبراج العاجيَّة للسياسة مسؤولون بصفةٍ خاصَّةٍ عن هذه الحالة من التعصُّب والتطرُّف، كما كان على بعض العلماء أن تكون تصرُّفاتهم على قدرٍ أكبر من المسؤولية والحكمة، تَجَنُّبًا للفوضى والاضطراب، بالإضافة إلى أن مديرية الشؤون الدينية كان عليها أن تلعب دورًا بَنّاءً، غير أنها قد فشلت -مع الأسف- في لعب هذا الدور، ورغم محاولة حزب العدالة والتنمية بسط سيطرته على الشرطة والقضاء والإعلام ونظام التعليم، فإن هيمنته على المديرية كان مفاجئًا للجميع، إذ قد يُمكن تَسيِيس كل شيءٍ وأي شيء، لكنَّ على الجيش ومديرية الشؤون الدينية أن يَظَلاَّ خارج الصراع السياسي، وذلك مثلما ينبغي لمرتادي المساجد أن يَدَعُوا انتماءاتهم الحزبية وأيديولوجياتهم وغيرها من ولاءاتهم الاجتماعية خارجًا، فليس المرء داخل هذا المكان المقدس سوى عبدٍ لله.
إن العالَم الإسلامي دفع على مر تاريخه ثمنًا باهظًا نتيجة تسييس المساجد، وأراق المتعصبون الدماء في سبيل ميولهم وأولوياتهم السياسية، حتى إن يزيد قد ترك الحسين بن علي (سبط النبي محمد ) يموت عطشًا، كما اعتقد الخوارج أنهم أكثر الناس تُقًى وهم الذين قتلوا بوحشيَّةٍ آلاف المسلمين الأبرياء، لا لشيءٍ إلا لعدم إيمانهم بعقيدة الخوارج.
إخواني المسلمين والمسلمات! عودوا إلى الضوابط والحدود التي شرعها الله، تَخَلَّقُوا بأخلاق المسلمين، وإياكم والمبالغة في تقدير أي شيء أو أي أحد، فالله وحده -أذكّركم- له الفَصْل في ذلك، وأعظم ضروب الحكمة هو الإيمان بالله، وبه جاء الإسلام والخُلُق، كما أن ما ندعوه بالسياسة لا يُمثِّل جزءًا من مليون جزء من الدين كله، مثلما تقرِّر تشريعات الله وأوامره، ولو كان الموت كمسلمٍ موحِّدٍ والتمتُّع بالفضائل والأخلاق هو ما يهمّ حقًّا، فإن مثل هذه الغطرسة والتطرُّف السياسيَّين لا يعنيان شيئًا على الإطلاق، ورغم حقيقة أنه لا يُمكن للسياسة أن تُمثل محور الدين، فلو شئت لاهتمامك الشخصي أن يقتصر عليها، فأبقِ تعصُّبك بعيدًا عن ساحات المساجد على الأقلّ، ولا تبنِ جدارًا سميكًا حول ذاتك.
كُفُّوا أيديكم عن المدارس التركية
حتى الأشخاص الذين لا تروقهم حركة “الخدمة” يشعرون بالفخر تجاه ما شيَّدَتْه من مدارس تركية متميزة بفضل معلِّميها وطلابها وما بُذل في سبيل إقامتها من جهود حثيثة، هذه المدارس تتجاوز الصراع السياسي، كما تتطبَّع بالطابع التركي في بعض النواحي وتُمثل في نواحٍ أخرى تدفُّق اللغات العالمية لتصُبَّ في تيارٍ واحد، وهو ما يُعَدُّ إنجازًا دوليًّا وسعيًا يقوم به أبناء الأناضول (المتفرقون في أنحاء مختلفةٍ من العالم) نحو السلام العالمي.
وفي الآونة الأخيرة، لُوحِظَت حالة من عدم التوازن في مختلف المجالات، وللأسف يود البعض -بسبب هذه الهيستيريا- لو يُضَحَّى بالمدارس التركية (التي تُعتبر علامة مميزة على تركيا) في سبيل حساباته السياسية، رغم عدم وجود علاقةٍ بين جريمةٍ ملفَّقةٍ كالسعي نحو إقامة دولةٍ موازيةٍ، وهذه المدارس الغَرَّاء ومَن يعملون فيها من أشخاص أبرياء، وقد يفكر المرء في الاستحواذ على استياء المواطنين من خلال التلاعُب بالحقائق عن طريق مثل هذه الدعاية القوية، غير أن أولئك الساعين إلى الإضرار بهذه المدارس -التي أضحت مصدر فخرٍ للشعب التركي- يرتكبون خطأً جسيمًا، وقد لا يكون بوسعهم إنقاذ أنفسهم من ذنب الإقدام على ذلك، لكن ألا يخافون الله مما اقترفته أيديهم؟!
“على تركيا أن تعود إلى الاستماع لصوت العقل، وإلى الالتزام بالقانون والعدالة والاحترام المتبادَل، فضلًا عن حاجتها إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، فإثارة الكراهية والانقسام بين المواطنين وإقحام المساجد في الصراع السياسي والتفرقة بين الأتراك على أساس توجُّهاتهم، تُشكِّل جميعها عوائق تاريخية يتسبَّب فيها خطاب الكراهية الحادُّ الذي سيضرُّ الدولة والمجتمَع“.