هذا السفر يفتح عوالم القلوب النقية ويعزف بقيثارة الأحزان لحنًا سماويًّا متّخذًا مقام طوبى للتّرقّي يستنهض به أمة الإسلام ؛ وهو يغوص في الجوهر الخالد الذي أودعه الله في خليفته على الأرض، فيدعو بمثابرة عرفانية متجددة ومتجذرة في الوقت ذاته، ويفتح لنا صفحات وسجلات الفتوة والإنسان الكامل والمُخَلِّص؛ ليثير العقول والقلوب المغلقة على هذا الركود الذي وُضِع لأمّتنا، وهي ابتلاءات ومحن كبرى علينا تجاوزها بالاستبصار وإذكاء روح العمل لتجديد الذات بالذات ….وهو ينشد الغرباء أبطال القلوب عشّاق الحقيقة القائمين للحق بالحق .
في جملة افتتاحية تفيض بفتوحات عرفانية، ينقلنا فتح الله كولن من حال الغربة إلى مقام طوبى، وماأدراك ما طوبي حين يقول: “الغرباء ثُلَّة من أبطال القلوب وقلّة من الأطهار عشّاق الحقيقة السامية هؤلاء الجوّالون في الأجواء التي تُنذر بمئات الكوارث والابتلاءات؛ وبرغم تفانيهم في هموم البشر فهم في أغلب الأحيان بفضل عوالم الأمل التي شيدوها في أرواحهم يفيضون بشرا وسعادة ؛ فالغرباء أزهار شقت بأكمامها أديم الأرض ؛ انطلقوا نحو النور مهلّلين بأكاليل النصر، ويغادرون الدنيا مغادرة الأبطال فهم لا يندثرون بل يزدهرون ورودًا ؛ وفي حقيقة المعين الذي يتزودون منه هو معين الخضر عليه السلام، ومَن أدرك مرادهم اكتشف سر الوجود الأبدي، وهم الذين شاركوا جبريل عليه السلام مجلسه والتقوا بالخضر سبعين مرة، تخضر البقاع التي يمرون عليها، وتغدو الرمال التي تمس أقدامهم إكسيرًا للحياة.
هذا السفر يفتح عوالم القلوب النقية ويعزف بقيثارة الأحزان لحنًا سماويًّا متّخذًا مقام طوبى للتّرقّي يستنهض به أمة الإسلام.
ثم يعطينا مواصفات ودلالات لهؤلاء الغرباء؛ فهم متأوهون كآدم وداوود عليهما السلام، يفيضون بإلهاماتهم ومشاعرهم في القلوب المتفتّحة التوّاقة للجمال بهمّة عالية وشوقٍ جارف فيقول: أيها الشاب حينما تطل على” روحك” عبر نافذة وجدانك ستراها قد غدت نورًا أبديًّا اخترق جدران المادة وحجب الزمان والمكان؛ وفي خضم تلك المعاني التي تغمر كيانك، سترى أن كل منحة ثمرة محنة، ولِتصل إلي ذلك علينا بالأخذ بمبدأ التدرج والعمل بروية، وهذا العمل لابد له من روح “الفتوة” أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ومحمد الفاتح وألب أرسلان .
الطريق الذي سيسلكه هذا الأسطوري والسالكون الدرب خلفه بعشق واشتياق، تذوب لهم الجبال ويصير الصعب سهلا، إنهم يسيرون من الخلق إلى الحق لا يحيدون
والفتوَّة هنا التي يراها فتح الله كولن تعني الخضوع أمام ربوبية ” الواحد الأحد “، والارتباط بالحق بكل قوة.
وهؤلاء الأبطال على أهبة الاستعداد لاقتحام النيران من أجل إعلاء المثل العليا والمبادئ السامية؛ يعملون بصمت فهم في قمّة الصفح واللين لا ينتقدون أحداً ولا يثيرون غريزة الغيرة أو الحسد لدى الخصوم؛ كذلك يعرفون أنهم ما انطلقوا في الدرب إلا بحثًا عن صحبة الخضر وماء الحياة.
وعن الإنسان المراد البحث عنه يقول: “هو فارس قلب كل شيء، عاشق للحقيقة شيَّد عالمًا من الإيمان والحب في خليّة العرفان، فاتح لجنّات أحرزها واحدة تلو الأخرى بغزارة عقله ونفاذ إرادته، هو رجل فكر يصطاد درر المعاني بتأملاته العلمية، يعرف كيف يكون شمسًا بعد أن كان ذرَّة، بالعرفان يتصفى وبالأذواق الروحية يستنزل جنّات النعيم إلى قلبه.
إن أعظم غاية في حياة بطل العرفان هي أن يحب ويصفح عن ما يصيبه.
أهاجت مشاعري نغمة حتى عجزت عن ترنيمها
بالامتحانات يتصفّى الإنسان ويعود لجوهره الفطري فتزداد الروح نضجًا
نجد صاحب “الغرباء” يجمع المُخَلِّص بين السيد المسيح والحسين بن على رضي الله عنه، فيقول: عرفناه مخلِّصًا وفيًّا محتسبًا واعيًا بصيرًا، يحمل على عاتقه عبئا تنوء بحمله الجبال لا يبتغي شرفا ولا غرورا، وفي كلمات عرفانية يجمل لنا مصعب بن عمير وخالد بن الوليد اللذان حملا معاني الوفاء والولاء ويناشدان بطل الأحلام الحلوة الفارس المحبوب ألا يترك القلوب الظامئة تعاني مزيدًا من الانتظار، فهو الأسطوري الذي ينبثق من قلب الأمة شديد البأس رحيم يحمل بين شفتيه إكسير الحياة بسيفه البتار يحطّم الطّوق المضروب حول عنق تاريخه المجيد.
والطريق الذي سيسلكه هذا الأسطوري والسالكون الدرب خلفه بعشق واشتياق، تذوب لهم الجبال ويصير الصعب سهلا، إنهم يسيرون من الخلق إلى الحق لا يحيدون، فإذا كان مُلك مصر يتطلب الإلقاء في غَيَابة الجب كالدلاء، فلن يكون بمقدور أحد أن يبدّل هذا، فمن ذا الذي يقدر على تغيير الطريق الذي شقّته يد الحكمة، نعم لن يكون من قبيل المجاز إن قلنا : لا مناص للعشّاق المتيّمين سالكي الطريق من البلايا والمحن فالحياة سلسلة من الامتحانات، ولكن أشدها على النفس إيلامًا وأقساها على كرامة الإنسان وعزته، هو امتحان الإقصاء والتهميش والحرمان من حقوق المواطنة وسط عالم يموج بالخديعة والتزمُّت والتعصُّب الأعمى، وبالرغم من ذلك فبالامتحانات يتصفّى الإنسان ويعود لجوهره الفطري فتزداد الروح نضجا، لذا فكل ابتلاء هو جناح نوراني يحلِّق بالعارف إلى عوالم ماوراء السموات
” أيا عاشقًا أقبل فمن المحارم غدوت وهذا مقامهم فقد رأيناك من أهل الوفاء”( نسيمي )
عن هذا الوفاء يحدثنا صاحب الغرباء فيقول : لقد فتح آدم الأبواب التي أوصدت في وجهه واحدًا بعد آخر بمفتاح الوفاء السحري، فنبيُّ الطوفان عليه السلام كان وفيًّا كَابَدَ في كل طريق وأخلص طوال حياته، وقد تحوّل هذا الوفاء إلى سفينة نجاة له ولمن تبعه، وينتقل إلى خليل الرحمن وأبي الأنبياء عليه السلام عندما تصدّى للنار حين التَقَت أنفاس وفائه بهتاف “حسبي الله ونعم الوكيل” مع نسمات الرحمة التي هبَّت ملبّية لندائه وتحوّلت النار إلى برد وسلام؛ أما إمام السابقين واللاحقين إنما تجلَّى وفاؤه لأمته حين غادر عالم السعداء الذي تذوب فيه الأفئدة نشوى، ويعود إلى أمته ليرتقي بهم إلى تلك العوالم السرمدية؛ هذا هو عين الوفاء؛ في لحظة بلّغ فيها بهمّته قمم المكارم السماوية.
الفتوَّة هنا التي يراها فتح الله كولن تعني الخضوع أمام ربوبية “الواحد الأحد”، والارتباط بالحق بكل قوة.
ثم يناشد فتح الله كولن في عذوبة روحانية مبهجة حين يخاطب الأخلاء الأوفياء فيقول: “أين أنتم يارموز الوفاء يافرسان فترة مباركة، انهضوا وانفذوا إلى أرواحنا ….أنقذوا أولئك القلة من الأوفياء الحائرين هنا وهناك…
ياأيها الأسطوري أنت المرشّح الوحيد بين الكائنات المرئية منها والمعروفة للعروج إلى آفاق لا نهائية بتلك المواهب التي أعطاها إياك الفاطر جلا وعلا.
وهنا تتجلى رؤية صاحب الغرباء في أن الإنسان المثالي هو من يموج عقله بألف سؤال وسؤال، ويواصل التنقيب عن الحقيقة بنهم، ويغذّ السير قدمًا كي يفك ألف لغز ولغز، متوقّد الذهن باحثًا عن إجابات لأسئلة كونية كبرى؛ ما الحياة والموت؟ ..مامعنى العبودية للواحد الأحد؟..وماحقيقة المحن التي يمر بها التاريخ الإنساني، وهو بين حال الإلهام والتجليات التي تومض في سماء وجدانه، فيبصر كنه الأشياء بثقة لا حد لها، وطمأنينة لا غاية لها لأنه يؤمن إيمانًا لا يخالجه الشك بعناية القدرة المطلقة، ومع هذا يظل في جهاد مستمر مع ذاته، موقنًا بأنه لم يكن في هذا الدنيا عبثا، فقد وعى معنى الأبدية والخلود …إذ يدرك أن كل شيء ما خلا الله زائل فيقيّم كل مايملكه، ويسخّر كل ما لديه لرفع كلمة الإسلام في تواصل مع الحق وللحق ويبشرنا فتح الله كولن بالإنسان الجديد
الذي سيبزغ نجمه لامحالة إن اليوم أو غداً، هذا الإنسان صاحب شخصية قوية صمَّمت على نهوضها الذاتي، ولن يستطيع شرق أو غرب أن يؤثره أو أن يضع السلاسل في قدميه، إنه حرٌّ في تفكيره وفي إرادته وحريته مرتبطة بالعبودية لله جل جلاله.
يعمل على بناء عالمه بجهد منقطع النظير، مفيدًا من إمكانات عصره مستوعبًا قيمه الوطنية ومبادئه الروحية، وهو في ذلك يؤمن كما آمن أهل العزيمة من رجالات التاريخ الذين اقتحموا الظلمات؛ يقذف بالأنوار في القلوب همُّه الحق ولا هم سواه.
إنه عاشق لا ينطفئ ظمؤه إلى العلوم مهما نهل، مولع بالمعرفة ولعًا لا يفتأ يتجدد كل حين، ينافس سكان الملأ الأعلى في سباق معراجي جديد كل يوم.
يمتلك روحاً إبداعية ترفض النمطية بكل أشكالها، يسير أمام زمانه على الدوام.
وهو بطل التوازن يرى الأخذ بالأسباب واجبه كعبد للحق تعالى.
هو المكتشف والفاتح صاحب الرايه المنصوبة، تفتح السماء له أبوابها وتدعوه وهوعاشق لا ينطفئ