تناول الأستاذ فتح الله كولن الإنسان بكل جوانبه عقلًا وروحًا وقلبًا وفكرًا وجسدًا، واستطاع إقناع المجتمع التركي بهذه الرؤية الكلية للإنسان. ولبيان حقيقة الإنسان من منظور الأستاذ فتح الله كولن نعرض النصّ التالي: في محاورة شعرية بعنوان “أيها الإنسان”، يُنشد كولن:
أَيُّهَا الإنْسَان،
امتدَّ واتَّسع،
كُن كوْنيَّ الزمان،
كوْنيَّ المكان،
سائحًا في مَهُول الفضاءات،
لتعرِفَ سعة الحقِّ،
وتؤمنَ بِعظَمة الربِّ،
وإلَّا أخَذَك التيه،
واحتَوَاك المجْهول،
وخَبَلت الحيرةُ عَقْلَك،
وضيَّعت رُشدَك.
يُقدِّم النصّ محاورة معرفية أبستمولوجية ثلاثية العناصر: الله، الإنسان، الكون؛ محددة للعلاقة بينهما، وبحقيقة السعادة في النظر إليها؟
ويعرض كذلك تعريفًا دقيقًا للرُّشد على أنه امتداد الإنسان واتِّساعه في الكون الزماني والمكاني، وسياحته اللامتناهية في الفضاء بُغية اكتشاف سعة الحق وإدراك عظمة الرب.
عمد كولن إلى بناء الذات، وشجَّع تلاميذه على التعلم الذاتي في بناء شخصيَّاتهم، وعلى النجاح في صناعة الحياة، مما ساهم في القضاء على قابليات الحقد على المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه
الإنسان والنزعة الربانية
إن النزعة الربانية في الإنسان تعني خروجه من نطاق المرجعية الكامنة المادية ودخوله في نطاق المرجعية المتجاوزة، مما يعني ظهور ثنائية أساسية لا يمكن محوها، هي ثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة، التي ينتج عنها ثنائية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة. فالإله يُزوِّد الإنسان بالعقل الذي يُميِّزه عن سائر الكائنات، وهذا ما يجعله إنسانًا ربانيًّا، أي إنسانًا غير طبيعي/مادي، له جوهره الإنساني المتميز عن الطبيعة/ المادة، يعيش في حيز الطبيعي/ المادي نفسه ولكنه قادرٌ على تجاوزه وتجاوز ذاته الطبيعية.
فمن المعلوم أن البشر مخلوقون من الطين قبل أن ينفخ الرحمن فيهم من روحه، ولذا فإن تكوينهم المادي يشتمل على كل عناصر الأرض ومعادنها الرديئة والثمينة، ومن ثمَّ فإن تسليط النيران على هذه الكتلة المتنوعة يُذيب المعادن الرديئة ويكشف عن العناصر الأصلية ويهيل التراب عن معدن الإنسان النفيس.
لذا عندما تكتمل صورة الإنسان، ويتحرَّر من أغلال المادة والمادية، تتفتح روحه على كل جمال، وعلى أعظم جمال؛ بل وعلى مصدر الجمال كُلِّه: الله تعالى، وفي هذا المعنى يقول كولن:
أنعم – يا إنسان –النظر،
وَمِنْ سجن نفسك تحرَّرْ،
ولمحاتِ الجمال تشرَّب،
ودَعْ قلبك يطِر فرحًا،
وروحك يرقص طربًا،
واستشرف جمال “الجميل” في كلِّ جمال؛
تطمئِنَّ نفسُك،
ويزْدَدْ إيمانُك،
وإلى ربِّك تعُدْ إنسانًا،
خالصًا في إنسانيتك.
تناول الأستاذ فتح الله كولن الإنسان بكل جوانبه عقلًا وروحًا وقلبًا وفكرًا وجسدًا، واستطاع إقناع المجتمع التركي بهذه الرؤية الكلية للإنسان.
كولن وبناء الذَّات الإنسانية
لم يتناول كولن الإنسان كموضوع للنقاش على المستوى الثقافي، بل حوَّل هذا الموضوع إلى مشروع جدِّي في الحياة العملية، عندما كانت السلبية إحدى ثمار الشعور بعقدة النقص ومركَّب الدونية، لذا عمد كولن إلى بناء الذات، وشجَّع تلاميذه على التعلم الذاتي في بناء شخصيَّاتهم، وعلى النجاح في صناعة الحياة، مما ساهم في القضاء على قابليات الحقد على المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، فدفعهم اعتزازهم بذواتهم إلى الشعور بالانتماء إلى هذا المجتمع وعدم الانفصال عنه، وبهذا يكون هذا الفرد الإيجابي أميل إلى الائتلاف مع الآخرين والاتحاد معهم.
والإيجابية من أول معانيها أن يمارس الفرد دورًا مقدورًا في تزكية نفسه، بحيث يترقى بها في مدارج الكمال، حتى يصل إلى ردم الهوَّة بين ما يقول وما يفعل، حينها يكون أهلًا لتحلية الآخرين بالإيجابية، يقول كولن: “على الذين يحاولون أن يُصلحوا العالم إصلاح أنفسهم أولًا. أجل! عليهم أن يُطهِّروا أولًا قلوبهم من الغل والحقد والحسد إلى جانب استقامتهم في السلوك وفي التصرف وابتعادهم عمَّا لا يليق بهم. بهذا فقط يستطيعون أن يكونوا قدوة لمن حولهم”
وقد شنَّ حربًا شعواء على الذين يقولون ما لا يفعلون، ولا سيما العلماء وهم الذين سمَّاهم بــ”الثقوب السوداء”؛ لأنهم لا يعكسون النور ولا يُستفاد بشيء من طاقاتهم الضوئية.
عندما تكتمل صورة الإنسان، ويتحرَّر من أغلال المادة والمادية، تتفتح روحه على كل جمال، وعلى أعظم جمال؛ بل وعلى مصدر الجمال كُلِّه: الله تعالى.
الإنسان المبتكر
هناك قسم من البشر يعيش من غير ممارسة للفكر، وقسم آخر منهم يُفكِّر ولكن لا يعكس فكره على واقع الحياة قط، أما ما ينبغي فهو أن يعيش الإنسان وهو يفكر، وأن يبتكر أنماطًا فكرية جديدة، فيتفتح على آفاق مركبات فكرية مختلفة. والذين يعيشون من غير فكر هم دُمَى تُمثّل فلسفة حياة للآخرين.. وهم ضحالٌ فكرًا وسطحيون رأيًا إلى درجة كأنهم أطفال يقلدون كل ما يرون ويسمعون، وينجرُّون وراء الطعام هنا وهناك، ولا يجدون سانحة للإحساس بأنفسهم والإنصات إلى دواخلهم وتمحيص قيمهم الذاتية.. بل لا يشعرون ألبتة بوجود قيم تخصهم بأنفسهم، فيحيون كعبيد لأحاسيسهم الجسمانية والبدنية عبودية لا انعتاق منها….
أما الذين يعيشون حياتهم مفكرين، ويجعلون – حسب درجاتهم – كل يوم أو كل ساعة من حياتهم ميناءً أو مرسى أو طريقًا للأفكار المبتكرة، فهؤلاء يمضون أعمارهم في خوارق العيش ما فوق الزمان ومفاجآته وسحره، فيتجرعون الماضي كماء نبع مبارك، ويتنفسونه نفحَة رائحةٍ في رئاتهم، ويُطالعونه ككتاب، ويسيرون إلى المستقبل بهذه العُدَّة .. ويحضنون الزمن الآتي بحرارة قلوبهم، ويلونونه بآمالهم، ويُصورنه بعزمهم وإراداتهم .. ويحتسبون الزمن الحاضر مركزًا استراتيجيًّا لتنفيذ أفكارهم المثالية، ومصنعًا لإنتاج التقنيات الضرورية في هذا السبيل، وجسرًا للعبور من النظري إلى العملي .. ويَجِدُّون دوما كي يكونوا فوق الزمان وفوق المكان.
أجل، كل إنسان آمن حقًّا، ينتقل – وهو المحدود – إلى اللامحدود بفضل التأملات التي تمور في أعماق ذاته مورًا، وبينما هو مقيد بالزمان والمكان إذا به يتحول إلى نسر فوق الزمان والمكان، ويرتقي إلى مصافّ الكائنات المتسامية على المكان، ويسمع أنغام الملائكة وتراتيلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ساره علي الوهيدي إسماعيل، مفاهيم تربية الإنسان الجديد عند فتح الله كولن ومخرجاتها العملية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة المنصورة، 2016م.
ملاحظة: عنون المقال، والعناوين الجانبية، وبعض العبارات من تصرف محرر الموقع.