يبحث الخبراء في تركيا عن إجابة لسؤال مهم وهو: هل كانت لأردوغان أجندة سرية منذ البداية أم أنه تسمم بالسلطة والقوة التي اكتسبها خلال فترة حكمه؟
هناك مؤيدون لهاتين الفكرتين؛ فالبعض يقول إن أردوغان خدع الجميع بقوله: “لقد تغيرتُ، لم أعد أؤيد فكرة الإسلام السياسي”، لكنه توقف عن تنفيذ هذه الوعود التكتيكية التي كانت تتطلبها شروط الديمقراطية حينها، وبدأ يتحول إلى دكتاتور بشكل تدريجي، بعد أن تمكن من كل السلطات، واستولى على الدولة.
في حين يقول الآخرون إن أردوغان كان ينوي التغيير فعلاً، وبذل جهدًا، واتّخذ خطوات ملموسة نحو تغيير ديمقراطي، ولكن بعد أن جمع كل سلطات الدولة في شخصه، لم يستطع مقاومة سحرها، وقرر أن يكون الرجل الأوحد في البلاد. لذا عمد إلى إلغاء مبدإ “الفصل بين السلطات” من أجل الهروب من الرقابة الديمقراطية عقب تورط أفراد من عائلته ووزرائه في ممارسات الفساد والرشوة عام 2013.
لقد اختفى أردوغان الذي كان يريد المكافحة متحليًا بالمسؤولية والصبر والقانون عندما كان حزبه يواجه الإغلاق، وجاء بدلاً من ذلك رجل جديد ينوي سحق خصومه مع “أنصاره شبه العسكريين”.
الصورة الأولى لأردوغان
في الواقع، هناك نوعان من أردوغان: الأول هو زعيم التغيير الديمقراطي الذي بدأ في عام 2002. والآخر هو الزعيم السياسي الذي لا يعترف بأي قانون، والذي بدأ في عام 2010.
في الفترة الأولى، وصف أردوغان نفسه بأنه “ديمقراطي محافظ”، واتخذ خطوات ملموسة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
بدأ أردوغان الثاني في الظهور عام 2010، وظهر في صورة الزعيم الفخور المتكبر الممارس للقمع المدفوع بالتحول إلى الرجل الأوحد الذي يريد السيطرة على كل شيء.
أردوغان الأول تلقى الدعم من جميع الذين أيدوا الديمقراطية والتشريعات الإصلاحية في البرلمان. لقد أصبحت تركيا أكثر استقلالية وديمقراطية وشفافية بفضل تلك التشريعات التي سنّها، وكان قد قطع على نفسه وعدًا بأنه سيطبق معايير الاتحاد الأوروبي في إطار هدف الانضمام إليه. وقد سجل التاريخ هذا التطور وورد في تقارير مرحلية كان يصدرها الاتحاد الأوروبي بشأن عملية الانضمام. وبسبب هذه النظرة الديموقراطية التقدمية، أصبحت تركيا دولة نموذجية للعالم الإسلامي. فتركيا كانت تحافظ على هويتها الإسلامية من جانب وتلبي متطلبات الديمقراطية الحديثة من جانب آخر، من خلال إحراز تقدم في قضايا مثل حقوق الإنسان وحكم القانون ومبدإ الفصل بين السلطات. واتخذ أيضًا خلال الفترة الأولى من ولايته خطوات شجاعة تجاه المشكلة الكردية المزمنة المستمرة منذ سنوات، وخفض أعمال التعذيب إلى الصفر، وظلت مفاهيم مثل الحقوق والمساواة والعدالة حية فعالة على الدوام.
يشيع أردوغان اليوم الخوف بين الناس، لذا لا يكشف أحد عن تجاربه التي شهدها. لكن من المؤكد أنه بمجرد الكشف عن الذكريات الواقعية الموضوعية سيدرك الجميع بشكل أفضل كيف تحول من زعيم منتخب إلى دكتاتور.
تاريخ بداية قصة أردوغان الثاني
يقول البعض إن الإصلاحات قد توقفت بالفعل في بداية عام 2010، وأصبحت تركيا منطوية على ذاتها، ويعزون السقوط إلى هذه الحقيقة. بينما يعزو الآخرون تراجع أردوغان إلى تظاهرات حديقة “غيزي باركي” في مايو / أيار 2013. فهم يعتقدون أن أردوغان الذي عقد مقارنة بين احتجاجات حديقة غيزي باركي والربيع العربي سيطر عليه الخوف، بل أصيب بالذعر.
بدون أدنى شك أن أكثر الخطوات وضوحًا وخطورة نحو الاستبداد بدأت في 17 ديسمبر 2013. فقد تسببت الوثائق المكشوفة في 17 ديسمبر / كانون الأول 2013 حول ممارسات الفساد والرشوة في استقالة أربعة وزراء، لكن أردوغان دافع عن نفسه بأن جميع الادعاءات كانت في الواقع محاولة انقلابية ضده.
أجندة سرية أم رجل المشروع؟
هناك من يقول: “أردوغان لم يتغير بل ظل الرجل نفسه؛ فقد كانت له أجندة سرية وعرض نفسه وكأنه ديمقراطي في البداية. ولما وجد الفرصة أسقط القناع عن وجهه الحقيقي”.
إن الأشخاص الذين يتبنون هذا الرأي لديهم كثير من الأدلة. غير أن معظم الآراء المدافعة عن هذا تستند إلى جملة من نظريات المؤامرة. فبعض الذين يعتقدون أن أردوغان لديه أجندة سرية يرونه رجلاً مكلفًا من بعض القوى الأخرى. ويزعمون أن دور أردوغان في سياق مثل هذا الادعاء هو تنفيذ المشروع المقترح عليه. بحسب جميع الادعاءات التي تعتقد أن أردوغان شخص يعمل لحساب قوى سرية فإن تركيا سيتم تقسيمها وتشتيت نسيجها الاجتماعي وإحداث أزمات حتى يبدأ نوع من الحرب الأهلية أو ما شاكلها. هذه المزاعم كبيرة وخطيرة جدًّا، لكن الجماهير تحب هذا النوع من نظريات المؤامرة، ذلك لأنها بمثابة قفّال يفكّ خيوط الأحداث المعقدة تمامًا. تَرى هذه النظرية التي تساندها معلومات صحيحة أن أردوغان رجل لا يمكن إيقافه، وليس هناك إلا طريقة واحدة فقط لإيقافه، وفقًا لمن يؤمنون بهذه المؤامرة، وهي نهاية ولايته. وبمجرد انتهاء ولايته سيتم طرحه جانبًا.
ويرى قسم من المحللين أن أردوغان حاول حقًّا أن يكون ديمقراطيًّا، لكنه لم يكن قويًّا بما فيه الكفاية. وفقًا لبيانه، فإن أردوغان، الذي لا يقرأ الكتب، استمع إلى ملخصات الكتب من البيروقراطيين وحاول تطبيق الديمقراطية، لكنه فشل. قدرته لم تكن كافية لتحقيق الديمقراطية، كما أن طبعه لم يكن منسجما معها. والوثائق المتعلقة بالفساد والاتهامات الموجهة إليه مثل توفير الأسلحة والقوة البشرية للحرب في سوريا، أجبرته على الفرار من القانون المحلي والدولي. ولم يكن سبب هروبه من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الناتو وصندوق النقد الدولي إلا الخوف من التفتيش والرقابة.
مبادرة أردوغان إلى إلغاء دور البرلمان، وتحييد الجهاز المركزي للمحاسبات، وربط السلطة القضائية بنفسه، هي الإجراءات التي اتخذها بهدف التخلص من كل معارض في وسائل الإعلام وإزالة خطورة الدعوة للحساب.
قيام أردوغان بإلغاء دور البرلمان، وتحييد الجهاز المركزي للمحاسبات، وربط السلطة القضائية بنفسه، إجراءات اتخذها بهدف التخلص من كل معارض في وسائل الإعلام وإزالة خطورة الدعوة للحساب.
شهادة التاريخ
لا شك في أن علماء السياسة والمؤرخين سيقولون ويكتبون أشياء كثيرة عن تغيرات وتحولات أردوغان الحادة المثيرة. هناك شهادات وآراء تسلط الضوء على حقيقة هذا الموضوع. وأنا بدوري سأشاطركم في هذا المقال اثنين من الذكريات القصيرة التي عشتها مع أردوغان لعلهما يساعدان على فهم التغير والتحول الحاصل في مسار أردوغان بشكل أفضل. في هذا الإطار لا بد من الترحيب بالمعلومات والتفسيرات النظرية التي قد تساعد على فهم هذا الأمر بطريقة أفضل، ويجب على الذين شهدوا هذا التغيير لدى أردوغان أن يتحدثوا عن تجاربهم وذكرياتهم. يشيع أردوغان اليوم الخوف بين الناس، لذا لا يكشف أحد عن تجاربه التي شهدها. لكن من المؤكد أنه بمجرد الكشف عن الذكريات الواقعية الموضوعية سيدرك الجميع بشكل أفضل كيف تحول زعيم منتخب إلى دكتاتور.
أعتقد أن هذه الذكرى التي تكشف عن كلا النوعين من أردوغان سوف تسلط الضوء على ما نحن بصدده.
بينما كنت في السنغال علمت أن حزب العدالة والتنمية يواجه قضية إغلاق (14 مارس 2008). أصبت بالصدمة. لست أنا فقط، بل الرئيس عبد الله جول، والفريق الصحفي المرافق له بما فيهم أنا، في أثناء زيارة السنغال، كانوا أصيبوا بالصدمة أيضًا. كان الرئيس جول تحدث عن الديمقراطية لزعماء الدول الإسلامية وقدّم تركيا نموذجًا على ذلك قبل يوم واحد فقط. غير أن هذه الكلمات البرّاقة التي ذكرها في المؤتمر الإسلامي أُلقيت فجأة في القمامة. ذلك لأن حزب أردوغان الذي انتخب من قبل الشعب واتخذ خطوات ديمقراطية نحو الاتحاد الأوروبي كان يواجه الإغلاق من قبل المحكمة الدستورية، وكان الرئيس جول من بين المتهمين. لقد بتنا في موقف محرج أمام العالم الإسلامي كله.
بعض الذين يعتقدون أن أردوغان لديه أجندة سرية يرونه رجلاً مكلفًا من بعض القوى الأخرى. ويزعمون أن دور أردوغان في سياق مثل هذا الادعاء هو تنفيذ المشروع المقترح عليه.
أردوغان اليائس
طلبت من أردوغان موعدًا بعد عودتي من السنغال إلى تركيا مباشرة. وحصلت على موعد معه لمدة قصيرة. وجدته متعبًا مرهقًا حزينًا منهكًا محبَطًا. أردت أن أقوي معنوياته وأشجعه. وأتذكر أنني قلت شيئًا من هذا القبيل: “أعتقد أن حزبك لن يغلق”. لكنه رد وقد سيطر عليه اليأس والإحباط: “بل سوف يغلقونه، ألا ترى؟”. وقلت لأردوغان إنه لا ينبغي إغلاق الحزب، مثلما شددتُ على ضرورة ذلك في العمود الخاص بي في صحيفة زمان. كان السبب بسيطًا جدًا: إذا أغلق حزب سياسي معروف بهويته الإسلامية بعد انتخابه وتسلمه السلطة بطريقة ديمقراطية، فإن هذه الخطوة ستؤدي إلى الاعتقاد بشكل أكثر من أي وقت مضى بأن “الديمقراطية ليست إلا خدعة كما يرى الجميع بوضوح، فلا بد من الكفاح المسلّح”. لقد كان هذا توجهًا خطيرًا وكانت الحيلولة دون مثل هذا الاحتمال مطلباً ضروريًّا لاستمرار الإيمان بالديمقراطية.
بعد ذلك استنكر أردوغان قائلاً: “ما الذي يجب أن أفعل الآن؟ ملايين الناس يحتجون الآن في الشوارع، فهل أوجّه أنصاري بإضرام الشوارع وإحداث الفوضى في البلاد؟”
أنا أحببت تلك الجملة: “وضع مواطنين في مواجهة مواطنين آخرين ليس السبيل”. لا شك في أن السياسي الجشع الذي يفكر بخلاف ذلك لن يتردد في جر البلاد إلى حرب أهلية. ومع ذلك فإن أردوغان الذي يملك الملايين من المؤيدين كان يتصرف كزعيم مسؤول ويحاول إيجاد حلول في إطار القانون.
هناك من يقول: “أردوغان لم يتغير بل ظل الرجل نفسه؛ فقد كانت له أجندة سرية وعرض نفسه وكأنه ديمقراطي في البداية. ولما وجد الفرصة أسقط القناع عن وجهه الحقيقي“.
الغضب يسيطر على أردوغان (2013)
بدأت احتجاجات حديقة غيزي باركي في مايو 2013. كانت الحكومة تعتزم قطع الأشجار في ميدان تقسيم بمدينة إسطنبول في إطار التخطيط العمراني الجديد. لكن لأن السلطات تعاملت بالعنف أثناء التصدي للشباب المحتجّين فإن هذه الحادثة خرجت عن السيطرة وتوسعت وانتشرت في جميع أنحاء تركيا. بعد عشرة أيام من هذه الحادثة، حصلنا على موعد لرؤية أردوغان مع زميلين آخرين من الصحفيين. كان غاضبًا جدًّا. ذات مرة قال: “تكلمت مع رئيس وزراء الجزائر. كانت هناك أيضًا حوادث مماثلة لاحتجاجات غيزي باركي. وهم أرسلوا الشرطة أولاً، لكن لم يجدِ نفعا، ثم أرسلوا قوات الدرك، وهذا لم يجد نفعًا أيضًا، ثم قرروا إرسال مؤيديهم شبه العسكريين نحو هؤلاء المتظاهرين وانتهت المشكلة. لم أصدق ما سمعت”.
لقد اختفى أردوغان الذي كان يريد المكافحة متحليًا بالمسؤولية والصبر والقانون عندما كان حزبه يواجه الإغلاق، وجاء بدلاً من ذلك رجل جديد ينوي سحق خصومه مع “أنصاره شبه العسكريين”. هذا كان مرعبًا. لذا لم أستطع أن أمنع نفسي وانتفضت في وجه أردوغان قائلاً: “هل ستتبع رئيس وزراء الجزائر وتختار طريقة قمعية في التعامل مع المحتجين؟ هذا سيؤدي إلى تعليق الديمقراطية وسيقود تركيا إلى طريق مسدود”.
للأسف الشديد انتهى كل شيء بالفعل، وتحول أردوغان حقيقة إلى رجل مختلف أو أنه لم يعد بحاجة إلى قناع ديمقراطي بسبب القوة التي اعتقد أنه حصل عليها.
الواقع أن أردوغان تغير وتحول وفقد نفسه بغطرسة القوة والسلطة. الجميع يحاول أن يفهم هذا التحول الكبير. أي هذه الادعاءات أكثر إقناعًا؟ لا أستطيع أن أقول بوضوح وأجزم. المقارنات النظرية لفهم هذا التحول المرعب غير كافية. لذلك يجب على الذين شهدوا التاريخ أن يتركوا مخاوفهم وراءهم ويشاطروا الرأي العام تجاربهم. أعتقد أنه إذا ما تشكلت بيئة أكثر استقلالية وحرة يومًا ما ستتمكنون من الوصول إلى مزيد من المعلومات التي ستفاجئ الجميع.