قال الراوي
كانت خريطة الأرض يوشك أن ترسم بريشة الإلحاد.
ونظر “خوجه أفندي” حوله وتساءل أليست وراثة الأرض للصالحين؟
واتخذ قراره لن نترك الأرض لظلمة الإيمان… وراح يغوص في جهود أبطال الإحياء، والبعث بالإيمان..
قرأ إحياء علوم الدنيا في تراث الأسلاف، وقرأ إحياء علوم الدين للغزالي، وحجة الله البالغة للدهلوي، وأبحر في عالم المعاصرين المجددين في تركيا والشام والهند والجزائر… وأسعدته تللك القراءات المعاصرة للقرآن، تلك التي جمعت بين التفسير، والتربية والفقه والتذكير… قرأ التحرير والتنوير لابن عاشور، ومجالس التذكير لابن باديس، وقرأ الظلال، وقرأ -قراءة عميقة- “رسائل النور” لأنها الأقرب إلى نفسه، في الزمان والمكان والتحديات.
وقد أتيح لصاحب رسائل النور -نتيجة ظروفه- أن يعيش مع الطبيعة، وأن يتصل بالكون، وبخالق الكون، من خلال كلمات الله الكونية… فجاءت رسائل النور كأنها تنـزيل من التنـزيل.. ونفذت أشعتها -مع أشعة الشمس- إلى قلوب الناس وكيانهم وعقولهم… فتأصلت… وحملت العناية الربانية كلمات الرسائل وبذورها الإيمانية مع الرياح السائرة هنا وهناك، لتسقط منها حبة هنا، وحبات هناك.
قال الراوي:
والآن يا صاحب الرسائل، يا سعيدنا الجديد!
ها أنت تودع الأصحاب، وملايين الطلاب، بعد أن واجهت -بالأمل في مستقبل الإسلام- وبالثقة الكاملة في وعد الله ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾(التوبة:33).. وبانتصار عالم القرآن على كل فلسفات الإلحاد والمادية.
والآن، يا كل دعاة الإيمان، يا أفغاني، يا محمد عبده، يا رشيد رضا، يا أرسلان، لينم كل منكم في قبره مأجورا، مسرورا!
وأنت يا صاحب الرسائل:
والآن، بعد ذهاب القرن الأسود.
نمْ مسرورا في قبرك وتنعّم،
فالوعد الحق سيجعل قبرك إشعاعا من فكرك، قبرا محفورا في الأعماق.
فرسائل نورك مصباح لك في دنياك وأخراك،
في ساعة يُسرك أو عُسرك!
يا صاحب الرسائل، يا زارع البذور في حقول الإيمان!
ها أنت هنا مسرّحا من وظائف الفناء،
كما علَّمتنا في رسائل الضياء.
ها أنت هنا تعيش ناعماً في عالم البقاء،
عابراً دونما إبطاء ودونما انقطاع،
مُبْحرا من عالم الشقاء والصراع.
أحلام قبورية
ياصاحب الرسائل! إخلاصك حتى في قبرك نورانية…
ذات ليلة – ياسيدي،
يوم كنت تغوص في رسائل الإمداد،
تكتب بالعين والسمع والفؤاد،
تنقل من عالم العطاء والإسعاد،
غفوت والنور في راحتيك.
رحلت بروحك من عالم الأشياء.
ورحت تكلم الموتى مع الأحياء..
لا جسم لك..
لا جرمَ لك، لا نسمة من الهواء.
ها أنت هنا تعيش في عالم القبور…
قبرك من نور.
وفؤادك يرنو للبيت المعمور
يرنو للّوح المحفوظ المسطور.
يسأل في لهفة حب وسرور
وأنت تهرول حول اللوح، وتجري وتدور:
يا لوح الكون ويا قلم القُدرة، يا مخزن أسرار الكون المستور.
ترفع صوتك في قبرك، في الملأ الأعلى، وتنادي:
أخبرني عن أهلي، عن مليار مقهور
يؤمن بالله ويشهد بالتوحيد، ويصلي، ينتظر البعث المقدور
يؤمن بالنّصر الآتي. لكن، لا يعرف كيف يسير؟!
أخبرني يا لوح الغيب الأعلى، عن يوم النصر المبرور.
في الغفوة وبإحساس القلب المقهور.
في تلك الومضة واللحظة،
ظهرت في القبر ملامح عصر يأتي، يُبعث الإنسان المسلم، إنسان النور.
– ها هي -يا سبحان الله- مظاهر أحلامك.
أقوى من كل الأحلام…
رسالة من القبر
وهتفت بأنشودة آمال رمزية…
وتقول لإنسان الإيمان المنتظر الأعلى:
يا من يختفي خلف عصر شاهق.
لما بعد ثلاثمائة سنة يستمع إلى كلمات النور بصمتٍ وسكون.
يا من تتسمون بسعيد وبحمزة، وعمر
وتُدعون بعثمان وطاهر أو يوسف أو أحمد.
إني أتوجه بالخطاب إليكم:
ارفعوا هاماتكم وقولوا:
“لقد صدقت”… وليكن هذا التصديق دَيْنا في أعناقكم.
إنني أتكلم معكم عبر أمواج الأثير
الممتدة من الوديان السحيقة للماضي المسمى بالتاريخ.
إلى ذرى مستقبلكم الرفيع..
ما حيلتي…
لقد استعجلت وشاءت الأقدار،
أن آتي خضم الحياة في شتائها..
أما أنتم فطوبي لكم وألف طوبى..
ستأتون إليها في ربيع زاهر كالجنة.
إن ما نزرعه الآن يُستنْبت من بذور النور،
فتتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.
نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا،
أنكم إذا جئتم لتعبروا إلى سفوح الماضي،
عرّجوا إلى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع
على قمة “القلعة” المستضيفة لرفاتنا وعظامنا…
سنوصي الحارس ونذكره.. نادونا..
ستسمعون صدَى “هنيئا لكم” ينطلق من قبورنا…
لقد كانت هذه الكلمات “الأخروية” أنشودة نورانية ذات وقع خاص، وكان لها تأثيرها الكبير في النفوس طلاب الآخرة، طلاب الإيمان، البارزين الزارعين الزاهدين العابدين لله…
كولن، وحدائق الإبداع الحضاري
قال الراوي:
كانت كلماتك –يا صاحب الرسائل- آمالا علوية.
كانت أدعية خاشعة ترشح بالإخلاص.
في قبرك لم تنس الأمة. فتقلَّب وجهك في الأفق الأعلى…
تدعو بلسان الروح،
لسان القلب المجروح…
فتقبلها الله، وحققها في أرض الناس.. ليس بعد ثلاثمائة سنة، لكن في سنوات خمسين..
أجل..فقط، في سنوات خمسين..
منحة رحمن وكريم!
هَّبت ريح الإيمان،
وظهر الفيض الرباني، وتجلىّ في “فتح الله”…
منحة رب رحمن، لإمام يحيا في “النور الخالد”…
يعشق أعظم إنسان، معجزة الإنسانية…
أحلامه أكبر من كل الأحلام،
أقوى من كل الآلام.
يعرف كيف يجيب على “أسئلة العصر”، ويحل الألغاز السحرية…
جاء يخاطب كل الناس…
ويحاور عقل العالم، بوسائله العملاقة..
فالعقل المسلم قادر..-يأخذ بالألباب- لو عرف “الموازين” و”أضواء الطريق”، وتسلح بـ”النور الخالد” وبـ”طرق الإرشاد في الفكر والحياة” العملية.
وهناك تألق “فتح الله” يبني ويقيم صروحا للروح، في كل الأيام وكل الأعمال…
يصعد بالقانعين السفوح، إلى عالم “التلال الزمردية” ليعيشوا بالكلمة والعقل: حياة القلب والروح معا، في توازن غابت معالمه منذ عقود!
بناء إنسان النور الخالد
ولما كان الناس قد اختلطت لديهم حقيقة الجهاد وروحه، وجروا الإسلام إلى معارك فوضوية، حتى في داخل البيت المسلم نفسه، وأعطوا الفرصة لتعاون الداخل مع الخارج في تشويه الإسلام والتربص بالعاملين له..
فقد كتب الأستاذ الواعظ الإنسان كتابه عن “روح الجهاد وحقيقته في الإسلام” مبينا وظيفته الحضارية وأطره الإنسانية ودفاعه عن المقهورين ونشر المعاني الواسعة له، جهاداً بالعلم والمال والفكر والبناء الحضاري…
وهكذا عمد الأستاذ الواعظ “خوجه أفندي” “العالم الإنساني” إلى العمل على بناء إنسان جديد من خلال عدد كبير من الدراسات التي ترجم أقلها إلى العربية ومازال أكثرها حبيس اللغة التركية، مع أن العرب أحوج من غيرهم إليها ليدركوا- من خلالها- كيف تكتشف “أضواء القرآن في سماء الوجدان” ويدركوا حقيقة الخلق الإلهي، ودحض “نظرية التطور” التي سيطرت على العرب عدة عقود…
وليعرفوا -كذلك- أبعاد مشكلة “القدر والقضاء، في ضوء الكتاب والسنة”، وكيف أنه لا يسلب الإرادة الإنسانية، ولا تفتر بالعقل عن إرادة البناء الحضاري…
وكيف أن الإيمان الحق به عنصر فاعل إيجابي، يدفع إلى الكسب والأخد بالأسباب دون عبادة الأسباب أو نسيان قدرة مسبب الأسباب، الذي لوشاء لأوقفها لحكمة يريدها ولإظهار تجليات قدرته سبحانه وتعالى.
عبور الفجوة وملء الفراغ
كان العالم قد انتهى بنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) إلى وضع مأساوي، وسيطر اليأس على العالم.
وبدلاً من أن يلجأ إلى العدل والرحمة توحشت لديه معاني القوة، وأصبحت فلسفة نيتشة و(الفاوستية) -القائمة على البقاء للأقوى- هي المسيطرة..
وضاع معنى الحق أمام القوة، ومعاني العدل والرحمة أمام الجشع الذي أقبل عليه المنتصرون.
وسحبت كل الوعود الخداعة ( بالعدل والمساواة والحرية) التي بذلت أثناء الحرب وقبيلها للشعوب المغلوبة على أمرها والقوى المستضعفة –بالطبع- لاعتبارات مصلحية توجبها الحرب.
وانفجر الموقف العالمي، وعمت الثورات، بعد أن خدع العالم باتفاقيات سلام.. لكن الأمركان تقسيماً للتركة العالمية بين الأقوياء والمنتصرين على حساب المقهورين الذين عدّوا ذلك خيانة وغدرا ونكثا للعهود. فأصيبت الأخلاق الإنسانية في الصميم..
وهنا وجد الأستاذ “فتح الله كولن” أن البشرية لم تعد مرشحة لإنشاء قوى تعمل على العدل والرحمة. لقد فقدت الإنسانية عقلها وقلبها ورشدها.
مقاومة الغارة على الإنسانية
ونظر الأستاذ فلم يجد أمامه إلا الفكر الإنساني التربوي النبوي الشريف وأفكار السائرين في الطريق نفسه. ورأى أنه في مواجهة هذه القوى العالمية لا معنى للصدام أو الثورات أو الصراع، بل لابد من طريقة إنسانية نبوية لمخاطبة الإنسان نفسه.. قلبه وروحه وما بقي يقظا من عقله.
ووجد الأستاذ أن العالم المنتصر بعد أن هزم المقهورين بقوته العسكرية بدأ يغزو كل إنسان وكل بيت، فلم تعد كتائب المستشرقين، ولا قوافل المنصرين، ولا قوى النفاق الداخليةكافية لتحقيق “عولمته” والعبث بالعالم كله، بكل رجل وكل امرأة وكل شاب، كما يشاء، يصوغهم كما تصاغ التماثيل المنحوته على النسق الذي يهواه فنانها.
وفي هذا السياق انتشرت أجهزة التلفاز والقنوات الداخلية والفضائيات الموجهة.
وانتشرت الإذاعات والصحافة عابرة القارات ودور النشر العملاقة. وانتشر ما هو أخطر من كل هذه على الحياة وهو “الإنترنت”.
ولم ييأس الأستاذ، بل قرر أن يكون مصباحا يجوب العالم، وينافس الظلام في كل مواقعه. وبارك الله له في نياته، وفي رجال الخدمة والأقوال والأعمال. فسخر الجميع كل جهودهم لتنمية بذور الأيمان. وانطلقوا إلى العمل في كل المجالات؛ فهذه جريدة يومية مليونية، وهذه مجلات أسبوعية بالتركية وغير التركية.
وهذه قنوات تلفازية قادرة على إنتاج تمثيلياتها وبرامجها. وهناك جامعات ومدارس مبثوثة في العالم التركي وخارجه. وتتميز بالعصرية وبالأصالة التي تقرها القوانين. وهذه مدن جامعية. وهذه مستشفيات على أفضل وجوه عرفتها الحضارة الحديثة.
وكانت خريطة الأرض بين يده وهو يعالج أمراضَ إنسانية عجزت عن وجود من يهتم بإنسانيتها، ويضع الدواء لأمراضها الأخلاقية والحضارية، ويعيد للإنسان “الموازين” الصالحة لتحقيق حياة أفضل يتعانق فيها الإيمان مع التقدم مع الأخلاق، ويتم فيها التكامل بين الحق والقوة.
كان الأستاذ-بيقين- قد قرأ أحلام دعاة التغيير والتمكين، التي كل منهم أمل أن يرى استجابتها الحية في حياته أو في قبره، ويهنئ أصحابها الذين استحقوا من الله التمكين، والذين سيمّرون أمامه ويشاهدهم من قبره فيرى بشائر انتصار الإسلام على وجوههم.
وعندها يطلب منهم الدعاء، لأنه وتلامذته هم الذين بذروا البذور. وعاشوا شتاء الحياة في ظل الإلحاد وعانوا الكثير.
وها هم الحاصدون للزرع القادمون الوارثون للأرض الذين يعيشون ربيع الإيمان.. يمرون أمامهم ويشاهدونهم وهم في قبورهم، فيفرحون، ويسعدون بهم، ويقولون لهم: هنيئا لكم… اذكرونا، اسألوا الله لنا الرحمة والفردوس الأعلى؛ فنحن السابقون الزارعون للبذور في الشتاء القاسي، وأنتم اللاحقون الوارثون للأرض في ربيع الإيمان…
فالنور يلد نورا.. وصدق ربنا:
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105).
﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾(الأنبياء:106).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107).