تضاعفت وتيرة النقاش في العالم العربي حول نموذج تركيا الديمقراطي خلال السنوات القليلة الماضية. ويطفو على سطح النقاش طرحان متباينان:
الأول: يذهب مذهب أولئك الذين يتعاملون مع “نظرية المؤامرة” بنوع من الاقتناع. فهم تقريبا واثقون بأن نموذج تركيا الديمقراطي، والذي كان يبدو ناجحا إلى حد ما طوال مدة حكم حزب العدالة والتنمية وخصوصا مع السيد رجب طيب أردوغان، يتعرض الآن إلى هجمات متتالية من طرف قوى هلامية محسوبة على الغرب وتتعاون مع بعض الفئات داخل تركيا، لا تريد للإسلام خيرا. وتبريراتهم تعضد دفاعهم عن هذا الطرح.
فتركيا في نظرهم بقيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، استطاعت أن تحقق ما لم تستطع جل الدول الإسلامية الأخرى تحقيقه: الاستجابة لمقتضيات العصر وتحدياته المتمثلة في الحداثة والعولمة مع الحفاظ على الهوية الإسلامية والدفاع عن المستضعفين. المؤسف هنا هو عدم تعرض هذا الطرح إلى نقاش نقدي حر وعلمي، فكل ما يعتمد عليه أصحاب هذا الطرح في دفاعهم عن ما يعتقدونه هو صور إعلامية محضة: كظهور الزعيم الإسلامي أردوغان مع زوجته المحجبة في بعض المناسبات، أو بعض خطب ومواقف السيد رجب طيب أردوغان المناهضة لإسرائيل، أو تأويلات إسقاطية أحادية عن تقدم تركيا الاقتصادي بسبب حزب واحد لا بفضل شعب وتاريخ، أو مسار تغييري ممتد. وكل هذا لا ينم إلا عن قصور في فهم مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي تعرفه تركيا، والذي يتسم ببعض التأرجح في فترات معينة، كما هو الشأن في ما حدث خلال الانقلاب الفاشل مؤخرا، والذي يدل على مراهقة الديمقراطية التركية، التي لم تصل فترة الرشد بعد.
ما عُرف عن تركيا بقيادة أردوغان من نجاح بدأ يتراجع نوعا ما منذ 17 من ديسمبر2013، أي منذ اندلاع فضيحة الفساد واستقالة ثلاثة وزراء من حكومة حزب العدالة والتنمية، وتردد الشكوك حول تورط أردوغان والمقربين منه في هذا الملف.
الطرح الثاني: والذي يبدو أقرب للموضوعية والعلمية منه إلى الصورية، ينحو باتجاه عرض المكتسبات الديمقراطية، التي تحققت في تركيا بفضل تكاثف جهود الإنسان التركي وحزب العدالة والتنمية والفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين، على مختبر النقد والتحليل بغرض تقويم المسار الديمقراطي ومواصلة التقدم. فكيف يعقل أن يُغبط حق الديناميكية الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المجتمع التركي المتعدد على حساب حزب واحد أو في أغلب الحالات رجل واحد؟
وعلى ما يبدو من خلال هذا النقاش العربي حول النموذج التركي، فإن ما كان يعرف عن تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية من نجاح قد بدأ يتراجع نوعا ما منذ 17 من ديسمبر2013، أي منذ اندلاع فضيحة الفساد واستقالة ثلاثة وزراء من حكومة حزب العدالة والتنمية، وتردد الشكوك والاتهامات حول تورط أردوغان والمقربين منه في هذا الملف. وقد كانت هذه الأحداث بمثابة الشرارة التي أطلقت حماس هذا النقاش الذي نتحدث عنه، والذي تأجج مؤخرا مع حدث الانقلاب. الحسم في نتائج النقاش يبقى بعيد المنال، لكن مناوشة تداعياته قد تسعفنا في رصد إرهاصات ما قد يحدث بعد حين.
ولندع عاطفتنا وحماسنا جانبا لبعض الوقت، ولنكن أكثر واقعية وعقلانية في تناولنا لما يقع الآن في تركيا. صحيح أن فترة حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة السيد أردوغان تميزت عن سابقاتها بما تحقق من ازدهار اقتصادي في البلاد، لكنه من غير العلمي عزل هذه الفترة عن سابقاتها، أو على الأقل عن فترة تورغوت أوزال. ولا يمكن للرأي العام غير المتخصص معرفة هته التفاصيل. فأغلبه يأسس فهمه لما يقع من أحداث على ما يُعطيه الإعلام. ولكي نتعامل بنوع من التجرد مع تطورات الملف التركي فقد نضطر إلى عقد بعض المقارنات أو القياسات مع نماذج ديمقراطية أخرى أو مع ما يُتداول داخل قاعات العلوم السياسية من أفكار ونقاشات حول الديمقراطيات والأنظمة الأحادية.
لسنا هنا بصدد وضع حجر في طريق حزب العدالة والتنمية أو طريق السيد أردوغان أو مسار الديمقراطية في تركيا، بقدر ما أننا بصدد إثارة بعض النقاش النقدي الباحث والمتبصر وإجلاء بعض التضليل الذي طبع جل النقاش حول مصير تركيا.
أليست التحركات السياسية الأخيرة لمكونات النظام التركي الرسمي، حكومة وبرلمانا ومؤسسات رسمية، بأغلبيتها التابعة لحزب العدالة والتنمية، تنم عن توجه نحو النموذج التسلطي عوض النموذج الديمقراطي. ولنأخذ بعض الأمثلة للتدليل على ذلك. يتعلم طلبة العلوم السياسية عند دراستهم النظرية لأنواع الأنظمة التفريق بين نظام سلطوي وآخر ديمقراطي من خلال مبدأي فصل السلط وحرية التعبير. فهذين المبدأين هما الناظم أو المؤشر الفارق بين نظامي حكم متباينين. وإذا عدنا إلى مشاريع القوانين محل الخلاف داخل البرلمان التركي فسنجد مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، وقانون منظمة المخابرات التركية، وقانون حظر يوتيوب، ومذكرات الاعتقال والتحقيقات الاعتباطية، والقوانين المتسرعة البرغماتية. كل هذه الإجراءات تنحو نحو مصادرة مبدأ الفصل بين السلط والتضييق على حرية التعبيير، بحيث تصبح السلطة القضائية خاضعة للسلطة التنفيذية ويصبح مبدأ النقد وإرسال رسائل تصويبية للساسة، والذي تسمح به حرية التعبير، بمثابة تجاوز لمقدّس. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجد مثل هذه القوانين في أنظمة ديمقراطية. يبقى السؤال المثار هو عن الغاية من وراء تمرير مثل هذه القوانين، واتخاذ هذه التدابير المتوترة والإجراءات المتسرعة التي تنقض البناء الديمقراطي الذي تحاول تركيا تحقيقه طوال هذه السنين من الجذب السياسي القطبي.
أليست التحركات السياسية الأخيرة لمكونات النظام التركي الرسمي، حكومة وبرلمانا ومؤسسات رسمية، بأغلبيتها التابعة لحزب العدالة والتنمية، تنم عن توجه نحو النموذج التسلطي عوض النموذج الديمقراطي.
المسألة، إذن، ليست تحيزا أو نوعا من الحيف، بأكثر منها قضية نقاش علمي رصين وصادق يريد الخير للجميع. ولسنا هنا طبعا بصدد وضع حجر في طريق حزب العدالة والتنمية أو طريق السيد أردوغان أو مسار الديمقراطية في تركيا، بقدر ما أننا بصدد إثارة بعض النقاش النقدي الباحث والمتبصر وإجلاء بعض التضليل والديماغوجيا التي طبعت جل النقاش حول مصير تركيا. إن الغرض من أي طرح أو صوت أو مقال يبقى استفزازيا بالدرجة الأولى، شريطة أن يتسم بحظ كبير من الانفتاح والاستعداد للنقد والنقاش. أما وأننا نروم في جل تفاعلاتنا مع الأحداث السياسية الإسقاط والمواجهة والحتمية، وللأسف الدغماتية، فإننا لن نسمح لأنفسنا بتفاعل بنّاء، وقد نبقى حبيسي أسطورة الإطار!
المصدر: موقع هسبريس