الدعوة التي أطلقها فتح الله كولن (في بداية تسعينيات القرن الماضي) حول وجوب الحوار وقبول الآخر، وُجهت في بادئ الأمر إلى الزمر الثقافية والقومية والدينية المختلفة في تركيا. كانت هذه الزمر ذات العناصر الثقافية المختلفة تبدو في الظاهر –ربما بسبب الجو السياسي الذي كان يوجب هذا- وكأنها في تلاؤم وسلام مع محيطها. وقد مرت في التاريخ القريب بتجربة مريرة عندما ظهر الاستقطاب والاختلاف الأيديولوجي، وعند ظهور مختلف المعسكرات الأيدولوجية.

إن منتدى الحوار أعطى الثقة بأنه في الإمكان أن يتوصل الناس مع اختلاف أفكارهم وأمزجتهم إلى قواسم مشتركة يمكن الاتفاق عليها.

حوار واحترام

وعندما انطلقت دعوة فتح الله كولن للحوار قضت على الصمت القلق العميق، وأدت إلى ظهور حركة حوار واسعة تستند على الاحترام المتبادل وإلى حرية التعبير عن النفس. وسرعان ما تجسدت هذه الدعوة إلى مؤسسة تتبناها تحت اسم “وقف الصحفيين والكتاب” في عام ١٩٩٤. وبرعاية من هذه المؤسسة تشكل منبر ثقافي باسم “منتدى أبنت” نسبة إلى المكان الذي أعلن فيه عن تأسيس المنتدى.

جمع المنتدى مئات من المفكرين والعلماء وأرباب السياسة والفن في تركيا من المنتسبين إلى مختلف المدارس الثقافية وإلى مختلف الأديان والأعراق والأيديولوجيات. اجتمع هؤلاء ليبحثوا عن إمكانية تشكيل أرضية مشتركة للعيش والتفاهم في جو من الاحترام المتبادل، وبدأوا بوضع العديد من مشاكل البلد والعديد من مسائله كالديمقراطية وحرية العقيدة والفكر، ونماذج الدولة الوطنية الحديثة، والتعددية السياسية والثقافية على طاولة البحث والتدقيق والتشريح. في البداية ارتفعت بعض الأصوات القلقة، وكان هناك جو من عدم الثقة. ثم بدأوا بعد ذلك بالتأكيد على نقاط مشتركة.

والحقيقة أن هذا المنتدى بدأ يعطي الثقة بأنه في الإمكان أن يتوصل الناس –مع اختلاف أفكارهم وأمزجتهم- وفي جميع الظروف إلى قواسم مشتركة يمكن الاتفاق عليها. كان هذا المنتدى في البداية تجربة للمواجهة مع الآخر، ثم تحول بالتدريج إلى قاعدة مشتركة للحوار والتفاهم وقبول الآخر.

دعوة فتح الله كولن للحوار أدت إلى ظهور حركة حوار واسعة تستند على الاحترام المتبادل وإلى حرية التعبير عن النفس.

من المحلية إلى العالمية

بدأ “منتدى أبنت” بعد ذلك بتناول موضوع الحوار في إطار أوسع، في إطار الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات. توسعت المواضيع وتوسع المشاركون فيه، وأصبح المنتدى عالميا يشترك فيه أشخاص من مختلف البلدان والأمم. وكان توقيت تحول هذا المنتدى إلى منبر عالمي في الوقت الذي ظهر في عالم الفكر والسياسة موضوع “صراع الحضارات ونهاية التاريخ” ملفتاً للنظر. فقد زاد هذا من أهمية “منتدى أبنت” الذي يقود مشروع “التفاهم والحوار بين الحضارات” بعد اللقاء التاريخي لفتح الله كولن مع البابا جون باول في عام ١٩٩٧ تصدر مشروع الحوار الساحة الدولية.

فهذا اللقاء الذي تم لأول مرة بعد عدة عصور في جو بسيط ودافئ ودون ضجة بين شخصيتين دينيتين مختلفتين كان ميلاداً للقاء وجهاً لوجه. بالتأكيد لم يكن فتح الله كولن ممثلا رسمياً لا للعالم الإسلامي ولا لتركيا. إلا أن الجو الذي صنعه والتأثير الذي أحدثه في العالم الكاثوليكي أضفى على هذا اللقاء طابعاً تاريخياً عند العديد من الأوساط.

إن الحركة العالمية للتفاهم والحوار وقبول الآخر التي بدأ بها فتح الله كولن بصفته فردا مسلما متواضعا مؤشر على مدى فعالية التصوف الإسلامي–التركي من الناحية الإنسانية. والحقيقة أنه كان لفتح الله كولن نصيب كبير في توسيع الهوية الإسلامية والأسس الصوفية على الرغم من قيامه –بسبب تواضعه الجم وزهده وتصوفه- بإنكار أي دور له. لقد كان لطراز حياته الروحية العميقة وزهده، تأثير وصدى حتى في العالم الكاثوليكي. فقد اعترف العديد من رجال الدين الكاثوليك وعلمائهم بأنه كان لعلم كولن وطراز حياته الصوفية دور كبير في تجديد أنفسهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: محمد أنس أركنه، فتح الله كولن، جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، ص: ٢٤٠-٢٤٢، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، ٢٠١٠، القاهرة.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.