- عندما تدخل إلى عالم الداعية المربي (محمد فتح الله كولن (
- ادخل إلى عالمه تلميذاً يريد أن يعرف الحق بالعلم والنور ويعمل به..!!
- ولا تدخل إلى دنياه أستاذاً يريد أن يعلم … وينقد …
- والفرق شاسع بين المدخلين !
- وعندما تدخل تلميذا تكتشف الكثير … بوجدانك كله … تكتشف أنك تعيش الطبيعة العصرية لمنهج القرآن والنبوة .. لكأنك في مدينة الرسول – عليه السلام – مع أنك في القرن الحادي والعشرين للميلاد ، الخامس عشرة للهجرة .
– وفي مجلسه تشعر بعبق الرسول الأعظم الخاتم سيد المرسلين وإمامهم ، كما تشعر بالرائحة الزكية لصحابته وكأنهم أنفسهم موجودون .
وفي عالم الشيخ (فتح الله كولن) يدعو بمنهج الرسول … متخولاً بالموعظة كل الناس، داعياً لصحابته الذين يجلسون بين يديه لأنه يعلم أن وجدانهم وحبهم يمنعهم من الجدال … وقد يتكلم تلامذته قليلاً بأدب قرآني – أو تتكلم مؤمنة … فيجيب .. ولا جدال.
– ولا مكان هنا – في مجالس التربية والوعظ – لهؤلاء الذين جعلوا الخلاف والشقاق وألوان العصبيّات هي الأصل .. وجعلوا الالتقاء على الأصول الجامعة المانعة التي وردت في كتاب الله وسنة الرسول – عليه السلام – فذاقت الأمة من جزاء سيادة منهجهم أشكال الضياع المختلفة … وما زالت حتى يومنا هذا …
* اذهب إلى عالم الشيخ – أو الواعظ – (كولن) … وأنت تتمثل منهج النبوة القديم والمعاصر … واعلم أنه يحقق المنهج نفسه … فتعامل معه بقريب مما كان الصحابة يعاملون به المعلم الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) بين يديه في مسجده أو وهم يمشون معه – عليه الصلاة والسلام – في دروب المدينة وأسواقها .
* وهنا ستكون قد عرفت المفتاح الأساس العام من مفاتيح المدرسة (الكولنيّة) القرآنية النبوية الفكرية العملية !!
– في وعظه ، وإرشاداته ، وتربيته يسير الشيخ (كولن) على قواعد وأصول مستقاة من مدرسة النبوة .
– وتنطلق الدعوة عند الشيخ من قواعدها ، وهي أنها علم وفقه وثقافة وروح ورسالة عالمية ، وكل قضية جزية لا تخرج عن كونها وحدة من وحدات المنهج.
ومع ذلك فإن لكل قضية خصوصيتها وظرفها المكاني والزماني الذي يستدعي أن تعطى حقها ، وأن تواجه بعلمية كاملة دون أن تنقطع العلاقة بينهما وبين قواعد ومنطلقات الدعوة .
- في حديثه عن طرق الإرشاد وضوابطه يذكر العلامة فتح الله كولن عدة أدوات ينبغي أن يتسلح بها الداعية على رأسها :
أولا: الأداة الأولى
1 – العلم
الذي تخبطت المدنية الحديثة في مهمة وحاولت أن تقصره على الجانب التكنولوجي والمادي من الحياة وكأن الدنيا والمادة كل شيء … بينما العلم الذي يليق بالإنسان غير ذلك.
– إن العلم في حقيقته الربانية والإنسانية الخالدة هو … معرفة الإنسان لربه بعد معرفته نفسه ، ومعرفة الإنسان لربه تكون بمعنى أن يجعل العلم أو المعرفة بالله هي التي توصِّل الإنسان إلى مقام الإحسان ،ومقام الإحسان هذا هو أرقى مراتب العبودية ، وهي المرتبة التي وصل الأنبياء – صلى الله عليهم وسلم- إلى أكملها .
إذ أن مقام الإحسان كما بينه النبي – صلى الله عليه وسلم : “الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” .
ومن هنا جعل الشيخ كولن غاية العلم “هي أن ينتج المعرفة والمحبة الإلهية ، فالذي يتوصل من خلال علمه إلى المعرفة بالله فهو العالم حقاً ، والذي لم يتوصل من خلال علمه إلى معرفة بالله فليس بعالم حتى ولو كان يحمل أكبر الألقاب العلمية .
إنه كما عبر القرآن الكريم : “كمثل الحمار يحمل أسفاراً ” ( الجمعة – 5) والعالم البيولوجي لابد أن يصغي سمعه للأرض حين تنطق بالتوحيد ، وعالم الفلك لابد أن يتسمع تسبيح الكواكب والمجرات ، وعالم الكيمياء لابد أن يشاهد حركات صلوات الذرّات حين يتفاعل بعضها مع بعض . فإن فعلوا فهم علماء حقاً . وإن لم يفعلوا فما أحط قيمتـَهم .
وتفيد العبارة القرآنية “إنما يخشى الله من عباده العلماء ” (فاطر- 28) أن المقصود بالخشية هم العلماء الذين وقفوا على الحقيقة في محراب العلم ، حين ساووا أقدامهم في محراب الصلاة خاشعين لله يطلبون منه القبول والرضا عن ظاهرهم وباطنهم.
وحتى يزداد الأمر وضوحاً نتفحص هذا الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي : (عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه -) قال : قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ” فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، إن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير” من هذا الذي يكون فضله كفضل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يعرف عن الله تعالى شيئاً ؟ أم من هذا الذي يستحق أن يصلي الله تعالى وملائكته وأهل السماوات والأرضين والدواب والحشرات عليه وهو لا يعترف بوجود الله تعالى أصلا ؟ .
إذاً العالم هو الذي عرف الله تعالى .
2 – العمل
وهنا يأتي العمل القائم على العلم واليقين ، وهذا فيصل آخر بين مفاهيم الإنسان الخالد ومفاهيم الحضارة المحدودة … فالعلم عندها لا يرتبط بالعمل وربما كان أصحاب النظريات الاشتراكية أو الرأسمالية هم أول الذين يتناقضون في سلوكهم بين العلم والعمل .
وإذا كان التعليم في الإسلام هو طلب المعرفة الحقة فإن قيمة هذا التعليم أن يعمل صاحبه…ثم يحث الناس على العمل به، وقد ضرب الإمام الحسن البصري – رحمه الله – أروع المثل في هذه المسألة ، فروي أنه سأله بعض العبيد أن يحث السادة في مواعظه على إعتاق الرقاب ، فانتظر بالموعظة حتى يحققها فعلا ، فاشترى عبداً أولاً ثم أعتقه ، ثم حث الناس بعد ذلك على العتق فهذا الشيخ أدرك بحصافة فكره ورجاحة عقله أن الحال أبلغ بكثير من المقال .
وهذا على العكس من هذا الخطيب الذي ينذر الناس في أسمارهم ، حين يصعد المنبر فيتحدث عن حقوق الجار وأنه إذاً ينبغي أن يبعث إلى جاره من طعام بيته ، فسمع ولده كلامه ، وكان هذا الخطيب قد اشترى بطيخة ، فانصرف الولد إلى البيت وأخذ البطيخة وأعطاها لجار له فقير ، فلما رجع الخطيب إلى البيت ، افتقد البطيخة ،فأخبره ولده بما فعل ، فضربه ، فقال الولد يا أبتي ، ألم تأمر أنت بذلك على المنبر؟ فنهره وقال له : ياأحمق ، علينا أن نقول وعليهم أن يفعلوا !!.
فهذا الخطيب وأمثاله لا يستحقون أن يكونوا من عباد الرحمن ، لأنهم لم يرضوا أن يكونوا للمتقين إماماً .
فإذا تعلم الداعية ثم عمل بعمله، فإنه يصل إلى المرحلة التالية وهي التبليغ أو التعليم ، وذلك ليعم الخير المجتمع كله وتشمله الفائدة . والتبليغ هو الميثاق الذي أخذه الله على العلماء قال تعالى ” وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ” (آل عمران/187) ،ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الذين يكتمون العلم فقال سبحانه : “إن الذي يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ” (البقرة/159).
ثانياً : الأداة الثانية
وتأتي الأداة الأخرى بعد العلم والعمل وهي معرفة الواقع المعاصر :
إن ثقافة العصر هي السلاح الذي يستخدمه الداعية للوصول إلى هدفه ، فقد ضرب علماء المسلمين أروع الأمثلة في الإلمام بثقافة العصر ، وعلى رأس هؤلاء حجة الإسلام (الغزالي) ، الذي كانت ثقافة عصره هي (الفلسفة) ، فعكف على دراستها حتى فاق علماءها في المعرفة بها ، ورد عليهم شبههم الدينية بنفس سلاحهم وجرد إليهم سيفه (تهافت الفلاسفة)…كما هضم علماؤنا علم المنطق الأرسطوطاليسي وعلم المنطق الحديث لدرجة أنهم (مَنْطَقـُوا) أي فرضوا المنهج المنطقي الصوري علي علوم اللغة العربية وعلم الكلام .ونحن في عصرنا هذا تسود ثقافة (الأرقام) ، وثقافة علوم (الرياضيات) و(الطب) و(البيولوجيا) و(الفيزياء) ، فلو أخذ الداعية من هذه الثقافة نصيباً لخرج من استخدامها بحظ وافر من النجاح .
ولقد تحدث المصنف عن هذه الأداة تحت عنوان (معرفة المخاطب وأسلوب التفاهم) فيقول “لا يمكن لمن يجهل ثقافة عصره ومدى فهمه وأسلوب خطابه أن يفهم أن إنسان عصره سيء ” ولقد حث المصنف على بذل كل مافي الوسع للتسلح بما يخدم وظيفة الإرشاد والتبليغ والدعوة حتى لو استدعى ذلك الذهاب إلى النجوم ، ولعل هذه العبارة الأخيرة العظيمة القيمة يستوعبها الدعاة ليعرفوا قيمة الدعوة عند علامة عصره الشيخ (فتح الله كولن)، فالدعوة للإسلام الذي هو كلمة الله الحق توجب علينا أن نُبذل الغالي قبل الرخيص في سبيلها لأن الثمن هو الخلود في الجنة!!
وفي مكان آخر إشارة من الشيخ كولن إلى الزاوية نفسها وهي “النظر من زاوية العصر” ، وذلك عندما يدعو كولن الدعاة إلى الإيمان الأصيل مع المعرفة بالعصر لأنه ضرورة للداعية ، وتأكيداً لهذا المعنى الكبير ذكر الشيخ (كولن) ضرورة وعي الداعية بثقافة العصر من فلك وكيمياء وتكنولوجيا حديثة ليستطيع من خلال ذلك أن يتجاوب مع أبناء الجيل ويحدثهم بثقافتهم ويكلمهم بما يعرفون ، لأن الداعية إن لم يتأثر بثقافة عصره ، فلن يستطيع أن يؤثر في الناس من حوله .
ولا يجوز أن يتحدث الداعية بلغة لا يفهمها المخاطب ، فهذا ليس من البلاغة في شيء، لأن البلاغة تعني مراعاة حال المخاطب والنزول إلى مستواه ، أو الارتفاع والسمو إلى مستواه العلمي ….
ولم يستطيع الداعية أن يزيل الشبهات أو يحل المشكلات إذا لم يحدثهم بلغة عصرهم وثقافتهم ، فإذا حدثهم بلغتهم ، وخاطبهم على قدر عقولهم ، سهل عليه الوصول إلى إقناعهم.
ثالثاً : الأداة الثالثة
وإلى جانب ذلك هناك أداة أخرى ألا وهي:
– تعلق القلب بالقرآن
فعلى المبلغ أن يربط بين الآيات القرآنية والكونية أمام الناس، ثم يصنع منهما مركباً يدخل إلى القلب .
ويلاحظ أنه في بعض الأدوات السابقة يركز مؤلفنا الكبير على ضرورة التعانق بين ما هو قرآني وكوني . ولا بد من الصدق كشرط من شروط الداعية فالصدق شرط من شروط نجاح الداعية ، لأن الصدق وحده هو الذي يهدي إلى البر ، أما الكذب فهو يهدي إلى الفجور . (متفق عليه) (في صحيحيهما عن عبد الله ابن مسعود – رضي الله عنه – قال): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً “.
ولا يجوز للداعية أن يستعمل الكذب في حديثه بغرض إقناع الناس بالدين .
والأداة الخامسة
وتـُعد معرفة البناء الفكري للمخاطب أداة ضرورية حيث يؤكد المصنف على وجوب اهتمام المرشدين والمبلغين بالبناء الفكري لمخاطبيهم وذلك لأن واقعنا المعاصر مليء بجماعات إسلامية كثيرة ، لكل جماعة مشرب يميزها عن غيرها من الجماعات الأخرى، وعليه أن يحترم الجماعات كلَّها … وأن يساير البناء الفكري لمخاطبيه ، حتى يكون كلامه مقبولاً لدى الجميع ، وهو في هذه الحالة يكون ملتزماً ( بأدب الخلاف)
الأداة السادسة
والأداة الأخرى التي يستعين بها الداعية وهي من أهم الأدوات بل هي أعظمها وما أخرت في الترتيب إلا لأنها تاج الأعمال ورأسها ، وهي الطريق إلى نجاح كل شيء ، كما أنها الطريق إلى تفعيل أسباب الخير وإلى الوقوف في مواجهة الشر … هذه الأداة هي :
الدعاء لله والتضرع بين يديه
فالداعية الحق كما يرى الشيخ كولن هو الذي يقتدي بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في جميع أحواله ، ومن أحواله – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يكثر من الدعاء ، ولا تكاد تخلو له حركة ولا ساكنة من دعاء أو ذكر.
فهو يدعو عند الاستيقاظ ، عند دخول الخلاء، وفي بدء الوضوء ، وبعد الانتهاء منه ، وعند دخول المسجد والخروج منه ، وعند دخول البيت والخروج منه ، وعند لبس الثياب ونزعه ، وقبل الأكل وبعده وقبل الشرب وبعده ، وعند الجماع ، وبعد الغسل فالنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي نشر الإسلام في جزيرة العرب وفي بقية بلاد العالم ، وحارب الروم على مشارف الشام ونزلت عليه آيات القرآن المعجزة … ما ترك الدعاء في أي حال من أحواله عليه الصلاة والسلام .
فالدعاء أداة من أدوات الداعية يستخدمها مع الضال ليهديه الله ويستخدمها مع المهتدي ليثبته الله.
أما عن أسلوب المبلغ والداعية فيجب عليه أن يعتبر نفسه رسولاً لرسول الله وسفيراً للإسلام … يتحدث بلسان الرسول والرسالة ، وينظر الناس إلى دينه من خلال شخصه ، فإما أن يكون حكيماً يجذب القلوب والعقول إليه ، وإما أن يكون متهوراً ينفض الناس عنه .
والنبي إمام الدعاة والمتقين وقدوة المرشدين حدد الله له الأسلوب الذي يدعوا به إلى ربه في ضوء قوله سبحانه : ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ” (سورة النحل/125)
ولكي نعالج دواعي الأسلوب الحكيم بالتفصيل الممكن فيجب علينا أن نؤكد من الأساليب التي تتعلق بالمخاطب تعميم الخطاب فالأسلوب الحكيم هو الذي يبتعد عن التشهير والمواجهة التي تخاطب مخاطباًَ بعينه فيشعر بالأذى لا القصد وليس بالتعبيرات المباشرة الصريحة، وليكن حديثه عاماً لجميع الحاضرين فإنه – صلى الله عليه وسلم – كان عندما يقوم بتقويم خطأ يقول “ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ” ، إلا إنه صلى الله عليه وسلم كان يوجه حديثه أحياناً لشخص بعينه وذلك في حالات خاصة وأمور شخصية .
والعلاج الذي ينجح في مجتمع ربما لا يكون ملائماً لمجتمع آخر ، فلكل مجتمع وكل مخاطب أسلوبه الذي يتحدث به الداعية إلى المخاطبين وبالله التوفيق.
ومن البديهي أن البعد عن الرياء من مؤهلات الداعية ، فالعلماء الربانيون مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي – رضي الله عنه – كان همه من الجدال هو الوصول إلى الحقيقة وليس السفسطة الجدلية التي تهدد الجهد والوقت كان يقول – رضي الله عنه – ” ما جادلت أحداً وأحببت أن يخطئ ” لماذا؟! لأنه يبحث عن الحكمة ، ولربما ألقى الله الحكمة على لسان خصمه فيذعن له ويقبل حكمه . ومن هنا قال كلمته المشهورة ” رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ” . وذلك لأن هدفه الوصول إلى الحقيقة والصواب، وليس التعصب لرأي .
– ويدخل في هذه المؤهلات عدم الأنانية :
فالأنانية عامل يعيق الهداية ويزيل بركتها ، سواءً للمبلغ أو المخاطب : نعم ، لأن السبب الرئيسي للأنانية هو الجدال والمراء ، والإنسان في ساعة الأنانية يفقد شعوره بالله.
كما يدخل في المؤهلات المرونة وهو يخاطبهم ينبغي أن تحقق في الداعية المرونة، وللأسف الشديد فإن هذه المؤهلات والشروط لا توجد إلا في أقل القليل من الدعاة اليوم في العالم الإسلامي .
نجح المسلمون في الكلام وحده حول فنون العصر ويكون العمل به دون الكلام بكثير فالكلام بدرجة الامتياز والعمل بدرجة مقبول !!
وهذه القضية أن النسبة بين الكلام أو العمل به وتحليله تحليلاً علمياً منتشرة في فكر الشيخ فتح الله كولن كله ؛ انطلاقاً من أن القرآن المعجز يخاطب مستويات مختلفة ، لأنه نزل إلى الناس كافه، وكل من يستمع إليه يعتقد أنه المقصود في خطاب القرآن المجيد، وكأن القرآن يخاطبه وحده .
ومن الضروري عدم مصادمة الفطرة ، فالمبلغ ينبغي أن يكون صاحب بصيرة لا يصطدم مع قوانين الفطرة المستقرة بالآيات الكونية ؛ فمن صفات الفطرة المستقرة في الإنسان ” الحب ” .
ومن الفطرة صفة ” فرض الذات بالإكراه على الآخرين ” التي إذا وضعت موضع الأنانية كانت شراً ووبالاً على صاحبها وعلى المجتمع ، وإذا كانت في موضع الثبات على الحق والمبدأ المستقيم كانت خيراً على صاحبها وعلى المجتمع .
تبعات الإرشاد
وهنا نصل إلى الحديث عن التبعات والأعباء التي تقتضيها قضية الوعظ والإرشاد والدعوة والتربية .
فمن المعروف أن لكل وظيفة تبعات ، هذه التبعات تكليف يقع على القائم بهذه المهمة ، ولن يستطيع القائم على أمر الإرشاد والدعوة القيام بتبعاتها مهما أوتي من الحكم إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى، إن نبي الله شعيباً – صلى الله عليه وسلم – ، وهو خطيب الأنبياء لجأ إلى توفيق الله تعالى وأخذ بأسباب التوكل عليه ، والرجوع والإنابة إليه ، فقال لقومه : ” إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ” (سورة هود/88).
ومن أوائل مشكلات الدعوة وأعبائها طلب الأجرة عن قصد وربط الدعوة بها قال تعالى على لسان أنبيائه وهم يبلغون الدعوة لأقوامهم “وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ” ومعنى هذا أن الأنبياء والبشر يطلبون أجرهم من الله وحده سبحانه كي لا يكونوا أصحاب شبهة ؛ لأنهم موقنون بأنهم يقومون بأمر الله وأعباء رسالته والتركيز على الطموح في اكتساب المال من خلال الدعوة والإرشاد ويحول دون الوصول إلى الغاية وهي إرشاد العباد والتأثير فيهم قولاً وعملاً .
وإذن فالمرشد وهو الداعية يتقاضى أجره من الله ، ولهذا كان الأنبياء يكتسبون معاشهم من عمل آخر غير عملهم الدعوي ، كما قال – صلى الله عليه وسلم – ” ما أكل امرؤٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ” ، وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده ” .
وقد ورد أن داود – عليه السلام – كان بجانب نبوته يشتغل في مهنة الحدادة كما قال سبحانه ” وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ” وقال – صلى الله عليه وسلم… “ما بعث الله نبياً إلا وقد رعى الغنم ” وقد كان – صلى الله عليه وسلم – يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ، وكان يتاجر مع عمه أبي طالب وفي مال زوجته خديجة – رضي الله عنها وهكذا كان كبار الأمة الأعلام من الدعاة – رضي الله عنهم – فقد كان منهم (الزَّجاج) أي صانع الزجاج و(النجار) أي صاحب الخشب و(البيطار) العشّأب، والتاجر وغير ذلك
والمرشد لا يأخذ أجراً على دعوته ؛ كي يدخل تحت منَّة أو إذلال أحد ، فيؤثر ذلك على حرية دعوته وصدق كلمته .
ولكنه في الوقت الحاضر (أي في عصرنا الحديث والمعاصر) يجوز العمل في وظائف الدولة ضمن حالات الاضطرار بالنسبة للظروف التي يعيشها الدعاة اليوم.
ومن مشكلات الداعية أيضاً في الحياة ، فصدق ظاهره مع باطنه في مكابدته ومعاناته في سيبل الحفاظ على صدق ظاهره وباطنه والقول والفعل، فإذا لم يتوافق وجدانه وقلبه مع جوارحه، فإنه يحيا حياة ازدواجية متناقضة ، هي حياة المنافقين ودعاة اليهود ، نعوذ بالله من أن نكون منهم.
كما قال سبحانه :” إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ” (المنافقون/1)
وقال لبني إسرائيل منكرا عليهم سوء فعلهم : ” أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” (سورة البقرة /44) . وفي القرآن عاتب الله عباده على ارتكاب هذا النفاق وحذرهم من عاقبته فقال تعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ” (الصف/3،2)
ومن البدهي أن السبب المباشر لتأثير كلام المبلغ في وجدان أتباعه أن تتحول الإرشادات إلى واقع ملموس معايش ، فإذا لم تكن واقعاً ملموساً فكيف تؤثر وهي مجرد نظريات وكلمات لا واقع لها في عالم التطبيق..
إن المُبلِّغَ الذي يحيا بما يُبلِّغ أي أنه صورة حية عملية لقوله يكون في محاسبة مستمرة للنفس أي في عبادة ومراقبة، فلا يتكلم عن الصلاة نهاراً وقد فاته التهجد ليلاً، ويخجل من النظر للحرام عندما يتلوث بصره به ؛ فالأفكار التي لا تجد مجالاً تطبيقياً في صاحبها لا تجد حسن القبول لدى الناس.
ومن مشكلات الداعية موقفه من الموازين من ناحيتي معرفة قيمتها وفائدتها العملية فميزان التبليغ هو ميزانه لكل شيء ، فإن الأشكال الدينية التي يسميها بعضهم عبادات لا فائدة فيها إذا لم تحقق الغاية منها وهي جعل أمور الهداية واقعاً ملموساً.
وهكذا فإن الحفاظ على الميزان الأساسي للرشاد ، يوجد في قليل منذ إشراق شمس الدعوة إلى يومنا هذا ؛ وهؤلاء هم المتقون أي (العالمون العاملون)
إنه لابد من الصدق مع النفس وتوافق الظاهر والباطن ، وتطبيق الإيمان في الواقع.
ومن مشكلات الداعية مستواه في تحمل المعاناة عندما يبلغ حكمه من المعاناة وهو يبلغ كلمة الله ، فالمعاناة لابد منها وهي من لوازم الدعوة ولا بُدَّ للداعية أن ينال حظه من سنة الله هذه؟
لقد استهزئ بالأنبياء جميعهم – صلى الله عليهم وسلم – ، فألقى إبراهيم – صلى الله عليه وسلم – في النار بسبب دعوته ، وأوذي موسى – صلى الله عليه وسلم – بسببها ، ونُشر زكريا – عليه السلام – بالمنشار بسببها ، وحاول بنو إسرائيل صلب عيسى – عليه السلام – بسببها ، وقابل كل هؤلاء ذلك بالصبر حتى جاء الأمر الإلهي لحضرة النبي – محمد صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى ” فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ” (الأحقاف: 35)
وعلى الهدي أو الطريق نفسه صار الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – فضُرب الكفار أبو بكر الصديق حتى أغمي عليه ، وكُوِيَ بالنار عمَّار بن ياسر وأبوه وقُتلت أمه – رضي الله عنهم – ، وقيد الكافرون طلحة بن عبيد الله – رضي الله عنه – ، وأوقدت النار من تحت الزبير بن العوام – رضي الله عنه – وجُلِد بلال بن رباح – رضي الله عنه – .
وكل ذلك لأن هذا هو سنة الله في طريق الدعوة لله والتربية الدينية، ولهذا قال لقمان
– عليه السلام – لابنه وهو يعظه “يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ” (سورة لقمان/17)
ومن مشكلات الداعية : الصدق في الارتباط بالله تعالى قولاًَ وعملاً، لأن الارتباط بالله تعالى يوجب موافقة اللسان مع القلب مع العمل ، وكل ذلك هو (الصدق) مع الله والنفس.
مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم “الإيمان ما وقر في القلب وَصَدَّقه العمل ” فلابد من تصديق الجوارح للقلب ؛ وهذا ما أكده شعيب – عليه السلام – عندما قال لقومه وهو يعظهم ” وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ” (هود/88).
ومن مشكلات الداعية نجاحه في مقاومة الكبر والتواضع مع كل الناس والرفق، وأول من يستحق ذلك رجال الدولة والأثرياء لأنفعهم للإسلام أعم ، وإذا أصلحهم الله بفضل جهود الداعية المخلص صلحت كل أحوال الأمة مع مراعاة الرفق واللين مع كل الناس خاصة الحكام والأغنياء ثم أسرة الرجل وبينه امرأته وأولاده أما الوالدين فحقوقهما مقدمة على الجميع لأن الأمر برعايتهما جاء بعد أمر الله بالتوحيد في كتاب الله .
قال تعالى : ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ” (الأنبياء/157)، وقال تعالى :” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ” (آل عمران/159)
وقد بلغ من شفقته – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يدعو لأعدائه قائلاً ” اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ” .
ومن البدهي أن هذه الجهود توجب الاستعداد من الداعي للتضحية في سبيل الله ودعوته.
وقد تنازل صهيب الرومي عن أمواله وثروته بمكة كلها مقابل الالتحاق بالرسول الأعظم : – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة بينما كانت زوجته في مكة المكرمة وكذلك الأنصار الذين مدحهم الله في قوله تعالى : “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ” صدق الله العظيم (الحشر/9)