المقدمة

حوار هذا العدد مع الأكاديمي والباحث المصري الأستاذ محمد يس، يحدثنا فيه عن عن قرائته لمشروع الخدمة فكريا وحضاريًّا وإنسانيًّا، بعدما عمل لسنوات عدة في دراسة أفكار الأستاذ كولن، كما أنه شاهد على مؤسسات الخدمة داخل مصر وخارجها، سيحدثنا خلال الحوار عن رؤيته للوضع الراهن في تركيا وما تتعرض له الخدمة هناك.

يرى الأستاذ محمد يس أن الأستاذ فتح الله كولن يمتاز بأنه رجل هذا العصر وأنه مجّدد هذا الزمان، مضيفًا أن الخدمة قدمت  للفكر الاسلامى بعدًا جديدًا من أبعاده بحيث أضفَت على مفاهيم قديمة معاني جديدة، بمعنى أنها استطاعت أن تبعث الروح في هذه المفاهيم التي كادت أن تكون “مستهلكة” من كثرة استخدامها في معاني ثابتة، ودلالتها على تطبيقات محددة لاتتجاوزها.

لا يقف الأستاذ عند مستوى التدبر للخطاب القرآني بل يتجاوزه إلى ما يمكن تسميته “التمثيل لقيم الوحي” بمعنى أن يتشخَّص الوحي الإلهي ليكون نماذج بشرية تسعى بين الناس بقيم هذا الوحي الإلهي.

*****

ما هي الانطباعات التي اعترتك في الوهلة الأولى من رؤيتك لنشاطات الخدمة ومؤسساتها المختلفة؟

-أستطيع أن أصف هذا الشعور الأولي بأنه –كما وصفه بعض الباحثين– “صدمة الاكتشاف” فقد ظللتُ قرابة أربع سنوات أقرأ ماكتبه الأستاذ فتح الله كولن –مما تمّت ترجمته إلى العربية طبعًا– وأقرأ ماكُتِب عن الأستاذ وعن الخدمة، وظللتُ أكتب حتى انتهيت من الرسالة ولم أكن قد عاينتُ ماكتبت، حتى كانت زيارتى إلى نيجيريا عام 2017م.

فرأيتُ هناك ما تضاءل بجانبه كتاباتُ الكاتبين ومدح المادحين، رأيتُ مهاجري الخدمة يجوبون آفاق البلاد طولاً وعرضًا في ظروف صعبة وبلاد وعرة، يُنشِئون المؤسسات التعليمية والتثقيفية، لايحول بينهم وبين رسالتهم اختلاف اللغة ولا تباين الثقافة ولا صعوبة العيش في أماكن نائية، رأيتُ مدارس على أعلى مستوى من التقنية الحديثة ومن أساليب التربية ومن جودة التعليم، وذهبنا ذات مرة إلى مدرسة تسمى “التلال الزمردية”، فإذا بها تقام على أرض زراعية في وسط قرية من قرى إحدى الولايات النيجيرية، وفي طريقنا رأيت أطفالاً في كتاتيب مبانيها متهالكة لدرجة تجعلك ترى من بداخلها، ورأيتهم يكتبون على ما يشبه الألواح الخشبية قديمًا، قرية فقيرة معدمة وأناس بسطاء، كيف جاء أبناء الخدمة إلى هنا؟! ما الذي أغراهم بالوصول إلى هذه الأماكن القاحلة؟! في مكان كهذا وجدتُ مدرسة التلال الزمردية شاهدة على عظمة الفكرة وروعة التطبيق، وحين قابلتُ الطلاب من أبناء نيجيريا وجلست بينهم لم أتمالك حينها دموعي من البكاء، فقد كان مارأيت مدهشًا ومثيرًا أكثر مما كنت أتوقع.

سَقَوني وقالوا لا تغنِّ ولو سقَوا           جبالَ سُلَيمى ما سُقِيتُ لغنَّتِ

ما هي الإضافة التي قدمتها الخدمة للفكر الإسلامي والإنساني نظريًّا وتطبيقيًّا؟

-“الخدمة” في الأساس إطارٌ نظري، لكنه تحوَّل بفعل ما نُفث فيه من طاقة روحية وحركية وفكرية وثقافية إلى واقع فعلي متميز؛ فالخدمة فكرة تحولت إلى مشروع انبعاث حضاري هدفه أن يحرك الأمة بكاملها.

الأستاذ كولن يتعامل مع القرآن باعتباره وحيًا متجددًا كان ولايزال قادرًا على إحياء هذه الأمة وبعثها من جديد، وإحياء الإنسانية في نفس كل إنسان.

أعتقد أنه من الناحية النظرية والتطبيقية معًا، فقد أضافت الخدمة للفكر الإسلامى بعدًا جديدًا من أبعاده بحيث أضفَت على مفاهيم قديمة معاني جديدة، بمعنى أنها استطاعت أن تبعث الروح في هذه المفاهيم التي كادت أن تكون “مستهلكة” من كثرة استخدامها في معاني ثابتة، ودلالتها على تطبيقات محددة لاتتجاوزها.

فمثلاً إذا نظرنا إلى مفهوم الهجرة سنجد أن: الهجرة مفهوم عظيم ومعنى نبوي جليل، لكنه تحول إلى مفهوم تقليدي فأصبح قاصرًا على معنى تاريخي محدّد، أو ضرورة يلجأ إليها الفارُّون بدينهم من الفتن، فإذا بها تتحوّل بفعل دعوة الأستاذ كولن وبفعل الخدمة ذاتها إلى معنى متجدد، فأصبحت الهجرة “قَراراً” لا “فِراراً”، أصبحت تعني التغرُّب لخدمة الناس في بلدان أخرى، وأضحت هذه هي السمة الأبرز من الناحية المرئية في حركة الخدمة.ونفس الأمر سنجده في كثير من المفاهيم الهامة مثل:

  • مفهوم الجهاد أو التضحية والفداء.
  • مفهوم الإنفاق أوالصدقة.
  • مفهوم الوقف أو العمل الخيرى.
  • مفهوم التعليم والتربية.
  • مفهوم الإنسانية أو الحوار مع الآخر

والله يا أخي، أنا أدعو الباحثين والمصلحين  لدراسة هذا التجديد في هذه المفاهيم وأمثالها، لا ليقفوا عندها بل ليحذوا حذوها وينسجوا على منوالها، وهو تجديدٌ أخشى أن أظلمه لو تناولتُ بعضه في هذا الحوار.

لكن، تستطيع أن تأخذ مثلاً قضية “التعليم”، لترى كيف اجتمعت فيها هذه المعاني في صورة حيوية وفاعلة ومتجددة، ولترى أيضًا ما هى الإضافة التي قدمتها الخدمة للفكر الإسلامى، في قضية “التعليم” وتطبيقاتها عند الخدمة حيث تجتمع مفاهيم التضحية والإنفاق والوقف الخيرى والعمل التربوي والحوار مع الآخر وشمول الرسالة الإسلامية بمعناها القِيَمى والحضارى لكافة المخاطبين.

إن الأستاذ فتح الله كولن رجل هذا العصر ومجّدد هذا الزمان، ولو كان الرومىُّ في زماننا لقال هذا، ولو امتدّ الزمان بالنورسي لفعل هذا، فهو روميّ عصره ونورسيّ زمانه.

ولو أخذت نموذج لمدرسة واحدة من مدارس الخدمة في أى قطر من الأقطار بداية من جمع المال اللازم لإنشائها وانتهاء بالتنوع الثقافي والديني لطلاب هذه المدارس وطرق التدريس داخلها، لكان في هذا النموذج دليلاً واضحًا على ماقدّمته الخدمة نظريًّا وتطبيقيًّا إلى الفكر الاسلامي، والله أعلم.

ما هي السمات التي تميز الخدمة عن غيرها من الحركات الإصلاحية الأخرى من وجهة نظركم؟

-الحقيقة –وبعيدًا عن الأُطُر الأكاديمية– اعتقادي الشخصي بعد دراسة تجربة الخدمة وفكر الأستاذ، وبعد التطواف في أفكار ورؤى الكثير من الحركات الإصلاحية أن أهم ما يميز الخدمة شيئان:

1-تحويل الفكرة الإسلامية إلى واقع إنساني: لا أشك لحظة أن فكرة الخدمة إسلامية صرفة من حيث المنطلقات والغايات، إلا أن خطاب الخدمة يعد خطابًا إنسانيًّا بامتياز، وأعني بالخطاب هنا: القول والفعل على حد سواء، الخطاب الإنساني والعمل الإنساني، والإسلام بطبيعته دين الفطرة، يتجاوب معها وتتجاوب معه دائمًا، وعبقرية الفكرة التى تدعو إليها الخدمة وتسعى لتطبيقها فكرة إسلامية في صميمها إنسانية في طريقة عرضها وتطبيقاتها، وهذا هو مايفتح الباب للخدمة كي تنتشر مكانًا وزمانًا، فهي تنتشر في أصقاع الأرض المترامية، وهى تسير بخطى ثابتة نحو المستقبل، لأنها تخاطب العالم بخطاب المستقبل لا بخطاب الماضي ولا بفرضيات وسلبيات الحاضر، وهذا يقودنا إلى السمة الثانية.

2-تجاوز فقه الأزمة إلى فقه العمل والكدح والأمل: وهو يتمثل في الانتقال بالأمة من سؤال”لماذا” إلى سؤال “إذن ماذا “، فقد استطاعت الخدمة -من وجهة نظري– الانتقال من دائرة البكاء على أطلال الماضي إلى دائرة النظر بعين ثاقبة إلى الماضي بإيجابياته وسلبياته، والواقع بأحزانه وآلامه، ثم الانطلاق بكل هذه التركة الثقيلة إلى المستقبل المبشِّر بالخير لهذه الأمة، الخدمة لا تعرف سوى طريق واحد، هو طريق العمل الدؤوب في كل الظروف وفي شتى المحن، وهذا –على وجه التحديد– ماتفتقده الحركات الإصلاحية في العالم الاسلامي، فخطابها -في أحسن الأحوال– خطاب تقليدي يقوم على فكرة وجود تهديد وخطر ينبغى التصدى له، وهو مايحفز دائمًا قواعد هذه الحركات نحو العمل، بحيث يكون المحفز الأساس هو وجود  تهديد وليس تبنّي مشروع. بينما الخدمة لديها مشروع حقيقي لنهضة الأمة وخير الانسانية، لا شعارات ولا بيع أوهام ولا تجارة بأحلام الناس، خدمة حقيقة تُقدَّم للناس في صمت وهدوء بابتسامة رقيقة وإنسانية راقية.

رأيتم تركيا والخدمة في ازدهار، والآن تم إغلاق كل مؤسسات الخدمة، وتتعرض الخدمة الآن لممارسات ظالمة، ما هو الأفق الذي ترونه لتركيا بدون الخدمة؟

-الحقيقة، وعلى المستوى الشخصي أنا أحب تركيا كبلد على الرغم من أني لم أزرها من قبل، وأحب الأتراك كشعب حتى قبل تعرفي على الخدمة ودراستي لفكر الأستاذ كولن، فلما تعرفت عليهم ازددتُ لهم حبًّا وتقديرًا، لكن حين اخترت فكر الأستاذ وحركة الخدمة كميدان لدراستي كان هذا في عام 2013م، قبل وقوع أية أحداث من شأنها أن تعكّر صفو دراستي، حتى وقعت أحداث ديسمبر 2013م، حينها راجعتُ نفسي ووقفت أتأمل ما حدث ويحدث، وأخذت أقرأ كل ما يكتب عن الخدمة وما يقال عنها في وسائل الإعلام التركية الرسمية ووسائل الاعلام العربية المؤيدة لوجهة نظر الحكومة والمضادة لها.

الخدمة تتبنى “قيم السلام” و”الحوار مع الآخر” لذلك فالمستفيدون من القضاء عليها هم “مسعِّروا الحرب”، والذين يستمدون شرعية وجودهم وسبب بقائهم من عداوة الآخرين.

وكنتُ أمام خيارين: الطريق السهل وهو تبني وجهة نظر العدالة والتنمية والعدول عن الموضوع برمته –لا سيما ونموذج التجربة السياسية كان ملهمًا للكثير من شباب العالم العربى– أو سلوك الطريق الأكثر وعورة وهو طريق التفكير الحر بعيدًا عن الأيديولوجيات السابقة والأفكار الجاهزة، واخترتُ أن أكون مع “الأمة” لا مع “الدولة” مع “الفكر” لا مع “السياسة”، واختياري هذا مبنىّ على قناعة أن نهضة الأمة لايصنعها السياسيون وإن علَو، بل تصنعها الأمة بمجموعها والسياسيون جزء منها، النهضة منتج حضارى يتكوّن أول مايتكوّن في عالم الأفكار، بينما تريد السياسة أن ندور في عالم الأشخاص قدحًا ومدحًا.

ماحدث في تركيا هو تغوّل “عالم الأشخاص” على “عالَم الأفكار”، هو تعدّي “الحكومة” بما تملكه من قوة على “الأمة” وما تمثله من مجتمع مدني قوي وحاضر، نعم… أبهرتنا التجربة التركية ردحًا من الزمن، لكن قوتها الحقيقية كانت تكمن في وجود مجتمع مدني قوي وفاعل ومؤثر متمثلاً في “الخدمة”، وبهذا صُنِعت التجربة التركية الرائدة، أما حين تغوّلت الحزبية الفجّة على مؤسسات اقتصادية وجمعيات أهلية ومدارس وجامعات، بل على ما هو أهم من ذلك وأعظم؛ حرية الناس وأرزاقهم، حين يحدث هذا فهو بلا شك بداية النهاية، فالظلم مؤذنٌ بخراب العمران.

هل فكرة الجيل الذهبي والسلام العالمي الذي يسعى الأستاذ فتح الله كولن إلى بنائه أمر ممكن أم ضرب من الخيال؟

-كلُّ الحقائق اليوم كانت بالأمس القريب أو البعيد أحلامًا وخيالات، الأفكار التى يطرحها الأستاذ كولن حول الجيل الذهبي أو الإنسان المثالي أو ورثة الأرض، وحول السلام العالمي هي بمقاييس الواقع الحالي الذي نراه ونشاهده ضربٌ من الخيال، لكن بالنظر إلى التاريخ واستقرائه والوعي بحقائقه هي أمور حتمية، والحقيقة أن الأستاذ كولن حين يطرح أفكاره يطرحها طرح عالم بالتاريخ ودوراته، والواقع ومآلاته، والمستقبل واحتمالاته، فهو لا يتركنا في فراغ الأحلام حتى يرسم لنا خريطة محددة الملامح حول طريقة وآلية تنفيذ هذه الأفكار وتحويلها إلى واقع ملموس، مع فتح الباب واسعًا للاجتهاد والتجديد والإبداع.

الأستاذ كولن يطرح أفكاره طرح عالم بالتاريخ ودوراته، والواقع ومآلاته، والمستقبل واحتمالاته، لا يتركنا في فراغ الأحلام بل يرسم خريطة محددة الملامح حول طريقة وآلية تنفيذ هذه الأفكار وتحويلها إلى واقع ملموس.

ثم هو يقدّم قبل ذلك وبعده النماذج الحيّة على إمكانية تطبيق هذه الأفكار المثالية التي تبدو عند البعض حالمة أو خيالية، وإن كنت في شك مما أقول فانظر إلى الخدمة ومؤسساتها، تجد الأفكار واقعًا يتحرك.

كيف تقرأون الرؤية المقاصدية عند الأستاذ محمد فتح الله كولن؟

-أحتاج إلى القراءة أكثر في فقه المقاصد حتى أستطيع النظر إلى فكر الأستاذ كولن من خلاله.

لماذا يهتم الأستاذ فتح الله كولن بالتربية إلى هذا الحد -قد نفهم ذلك داخل تركيا- لكن في كل أنحاء العالم كيف نفهمه؟

-لكل مفكر ومصلح فكرة محورية يدور حولها بحيث تنبثق منها كل أفكاره، والفكرة المحورية عند الأستاذ كولن هي “تربية الإنسان وإعادة صياغته من جديد”.

يدرك الأستاذ جيدًا أنه إذا وُجد الإنسان الصالح وُجدت معه كل أسباب النجاح، ولذا فإن تربية الانسان عنده أولى الأولويات، الإنسان في كل مكان من أرض الله حتى لو لم يكن مسلمًا.

الإنسان المعاصر تم تشويهه ومصادرة حريته وإنسانيته، تم تحويله إلى كائن مستهلك ونفعي وأناني، إلى آلة صمّاء تدور في ماكينة ضخمة ذات تروس حديدية صلبة يديرها رأسمالي فظ غليظ القلب سميك الجلد لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً، ونحن لن نستطيع فهم كتابات الأستاذ كولن على عمومها إلا إذا قرأناها من هذه الزاوية، زاوية إعادة بناء ذات الإنسان وكيانه ووعيه بنفسه.

لكل مفكر ومصلح فكرة محورية يدور حولها وتنبثق منها كل أفكاره، والفكرة المحورية عند الأستاذ كولن هي تربية الإنسان وإعادة صياغته من جديد.

الأستاذ فتح الله كولن يعتبر أول خطوة في أي إصلاح منشود هو “إنتاج الإنسان”، الإنسان الذي فني عن نفسه بقضايا أمته، وتعلق قلبه بالآخرة لا بالدنيا، والأستاذ يرى أن هذه هي مهمته السامية، وهي وظيفة الخدمة الأولى.

من خلال قراءتكم لأدبيات الأستاذ فتح الله كولن واطلاعكم على نشاطات الخدمة، هل تصدقون بأن يكون للأستاذ فتح الله كولن يد في ذلك الانقلاب، بالرغم من أن تقارير المخابرات العالمية تنفي ضلوعه في تلك المحاولة الانقلابية؟

-من خلال قراءتي لأفكار الأستاذ كولن واطلاعي على نشاطات الخدمة، نعم.. أنا أصدّق أن الأستاذ كولن صاحب أكبر انقلاب في التاريخ المعاصر، انقلابٌ في القيم والمعايير جعل خريجي أكبر جامعات تركيا يذهبون إلى مجاهل إفريقيا ينشرون العلم ويغرسون بذور الأمل، انقلابٌ في المقاييس المادية لهذا العالم المتناحر جعل أصحاب رؤوس الأموال يضعون أموالهم الطائلة في مشاريع تربوية وتعليمية، ثم يتركونها ويرحلون، انقلابٌ في عالم الأفكار حين انتقل بها من عالم الرؤى والنظريات إلى عالم التطبيق والمؤسسات، انقلابٌ في أْشكال التدين التقليدية جعلت التدين فعلاً لا قولاً، عملاً وسلوكًا لا لباسًا وهيئة، وهذا غيضٌ من فيض.

أما ما تقصدونه من انقلاب مزعوم اتُّهم الأستاذ بالوقوف وراءه، فلا حاجة لنا بتقارير مخابراتية تنفي ضلوع الأستاذ في تلك المحاولات الانقلابية، المسألة عند من لديه أدنى مقومات التفكير لا تحتاج إلى دليل لانتفاء مثل هذه الاتهامات المبتذلة عن الأستاذ والخدمة.

قد أفهم أن يقف وراء الانقلاب رجل سياسة مشغول بالدولة وسلطانها، أو حتى رجل دين يرى في السياسة وسيلة لإقامة فكرته، أما أن يُقال هذا عن رجلٍ قضى حياته مشغولاً بنشر رسالة سامية  ليس في تركيا وحدها، بل في كل أنحاء العالم، فالأمر مستبعدًا منطقيًّا.

من المعلوم أن نشاط الأستاذ كولن التربوي والدعوي يسبق النشاط السياسي لتيار الإسلام السياسي في تركيا، ولو كان الأستاذ رجل سياسة يريدها لنفسه أو لتلاميذه لدعاهم إلى إنشاء أحزاب سياسية لا إلى إنشاء مدارس ودور طلبة.

ولستُ أدرى أىّ نوعٍ من الناس هؤلاء الذين يقفون وراء انقلاب على مستوى قيادة أركان الجيش التركي، ثم لايقومون بمظاهرة واحدة أو احتجاج واحد ضد أقسى ممارسات القمع والتنكيل ضدهم!؟ ويا تُرى متى اكتشفت الحكومة التركية أن الخدمة حركة إرهابية؟؟ أحدث ذلك فجأة؟ وأين أسلحتهم الفتّاكة؟؟ أهي مخزّنة في المدارس والجامعات؟ أم في دور الطلبة وجمعيات الإغاثة الخيرية؟

الخدمة لديها مشروع حقيقي لنهضة الأمة وخير الانسانية، لا شعارات ولا بيع أوهام ولا تجارة بأحلام الناس، خدمة حقيقة تُقدَّم للناس في صمت وهدوء بابتسامة رقيقة وإنسانية راقية.

لقد دعا الأستاذ إلى الديمقراطية، وقال إنها لا تتعارض مع الإسلام، ووقفت ضده حينها الحركات الإسلامية التركية التي كانت ترى الديمقراطية كفرًا، واليوم هذه الحركات تتهمه بأنه يريد الانقلاب على الديمقراطية!

لماذا استهداف الأستاذ محمد فتح الله كولن وحركة الخدمة في تركيا، ومن المستفيد من القضاء على فكرة الخدمة؟

-الفائدة الوحيدة من إبادة فكرة “خدمة الناس” هو لصالح من يريد أن “يخدمه الناس”، وإذا كانت الخدمة تعمل في مصلحة “الأمة”، فإبادتها ليست إلا خدمة لمصالح “أعداء الأمة” أو الراغبون في تركيعها وإذلالها.

الخدمة تتبنى “الديمقراطية”، فالمستفيد من القضاء عليها هم “المستبدون”، والخدمة تتبنى “الحرية” فالمستفيدون من القضاء عليها هم “المستكبرون”، والخدمة تتبنى “قيم السلام” فالمستفيدون من القضاء عليها هم “مسعِّروا الحرب”، والخدمة تتبنى “القضاء على الجهل” فالمستفيدون من القضاء عليها هم أصحاب المصلحة في بقاء الإنسان جاهلاً، والخدمة تتبنى “الحوار مع الآخر” فالمستفيدون من القضاء عليها هم الذين يستمدون شرعية وجودهم وسبب بقائهم من عداوة الآخرين.

على أن “الخدمة” فكرة، والأفكار –ياسيدي– لايمكن القضاء عليها، فكيف إذا كانت فكرة تتجاوب مع فطرة الإنسان وتتسق مع إنسانيته؟!

ما هي النصيحة التي يمكن أن تقدمها للشباب أو لغيرهم من المتابعين في الطريقة والكيفية التي يمكن أن نحكم من خلالها على الخدمة حكمًا عادلاً بعيدًا عن التشويه الإعلامي والبرجماتية السياسية؟

-الإعلام –بطبيعته– ليس وسيلة معرفية محايدة، ولاينبغى لإنسان يحترم عقله أن يجعل من الإعلام أداة لتكوين وجهة نظره تجاه الأحداث المتباينة، لا سيما في عصرنا الحالي، فالإعلام ليس محايدًا على الإطلاق بطبيعته، وغاية المراد منه فقط أن يكون موضوعيًّا، لكن هذا عزيز جدًا.

إن مفهوم الهجرة تحول بفعل دعوة الأستاذ كولن وبفعل الخدمة ذاتها إلى معنى متجدد، فأصبحت الهجرة “قَراراً” لا “فِراراً”، وأصبحت تعني التغرُّب لخدمة الناس في بلدان أخرى.

ولذا فإنى أنصح نفسي وإخواني ممن يريدون تكوين رؤية صحيحة بالآتي:-

أولاً: أن لا يحكم على الأمور وفق أيديولوجية مسبقة؛ فالأيديولوجية المسبقة هي أكبر العوائق ضد الرؤية الصحيحة.

ثانيًا: أن يُعمل عقله وفكره؛ فلا يتبنى وجهة نظر وفقًا لسيكولوجية الجماهير بل يعلم أنه مسؤول عن كل فكرة يتبناها.

ثالثًا: أن يبحث عن المصادر الحقيقة؛ فحين يكون الأستاذ كولن في موضع اتهام فلابد أن أقرأ ماكتب هذا الرجل، وأتتبع مسيرة حياته، وحين تكون الخدمة متهمة ينبغي أن أنظر في آثارها وأقابل رجالها وأبحث عنهم لأصدر في النهاية حكمًا لهم أو عليهم.

برأيكم كيف تكون العلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع المدني كما يرى الأستاذ كولن؟

-في الحقيقة وعلى المستوى الفكري، فقد أحدثت أفكارُ الأستاذ كولن عن الدولة والمجتمع تغييرًا جذريًّا في فكري من هذه الزاوية؛ الأستاذ يرى أن الأمة هي الأصل وأن الحكومات هي التابعة في الحقيق.

أذكر أنه يقول: قبل أن تقول الحكومة عن أمتها “ها هي أمتى” فمن الأفضل والأهم أن تبادر الأمة قبلها وتقول عنها “ها هي حكومتي”. وهو يرى أن قيام “دولة إسلامية” ليس بضرورة دينية ما دام هناك مجتمع يحافظ على الحقوق والحريات، ويستطيع محاسبة الحكومات وإقالتها بالوسائل الديمقراطية إن أراد، فإن هذا المناخ -مناخ الحرية- هو أنسب مناخ لنموّ روح الإسلام؛ فإذا  كان المسلمون في بلد ما يمارسون شعائرهم الدينية بحرية، ويتمكنون من إنشاء مؤسساتهم الدينية بلا عوائق، ويستطيعون أن يلقنوا قيمهم الدينية لأبنائهم ولمن يرغب في تعلمها، ولديهم الحرية الكاملة في التعبير عنها في النقاشات العامة، ويعلنون عن مطالبهم الدينية في إطار القانون والديمقراطية، فإن حاجتهم إلى إقامة دولة “دينية” أو “إسلامية” لم تعد ضرورية وهذا نص كلام الأستاذ، وأنا أفهم منه أن قيام مجتمع مدني يعبر عن الأمة وهويتها أهم من رفع شعارات قد لا يستطاع تحقيق بعضها أو شيء منها، والحقيقة أن الواقع المشاهد يثبت مصداقية هذا الطرح بل وعبقريته أيضًا.

ظهر في العالم الإسلامي على مر التاريخ العديد من رواد الإصلاح ودعاة التجديد، ما الذي يميز الأستاذ فتح الله كولن عنهم؟

-الأستاذ كولن هو امتدادٌ مبارك للأئمة الأعلام في تاريخنا قديمًا وحديثًا، وقد استطاع الرجل بعبقرية فذّة أن يمدّ خط الإصلاح والتجديد الإسلامي على استقامته، وأن يستفيد من جميع الذين سبقوه، ويزيد عليهم ماتفرضه عليه تحديات عصره ومتطلبات زمانه، وقد عقدتُ بابًا في دراستى عن “تجربة الأستاذ كولن كنموذج لنهضة الأمة” لأوضح هذا المعنى، وأخذتُ نماذج من أئمة التجديد والإصلاح قديمًا وحديثًا، كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ومولانا جلال الدين الرومى، والإمام عبد القادر الجيلاني، والأستاذ الإمام محمد عبده، والأستاذ بديع الزمان النورسى، وبيّنتُ كيف أن الأستاذ كولن جزءٌ لايتجزّأ من هذه المدرسة الإصلاحية التجديدية استفاد منها وبنى عليها، ثم زاد من روحه وعمله في هذه المدرسة المباركة تطبيقًا وفعلاً، وفلسفة وفكرًا وكلهم من رسول الله ملتمسٌ  غرفًا من البحر أو رشفًا من الدِّيَم

       “الخدمة” في الأساس إطارٌ نظري، لكنه تحوَّل بفعل ما نُفث فيه من طاقة إلى واقع حركي متميز؛ فالخدمة فكرة تحولت إلى مشروع انبعاث حضاري هدفه أن يحرك الأمة بكاملها.   

وليست القضية هي، هل يمتاز أحدهم عن الآخر؟ بقدر ماهي قضية، هل عمله وتجديده موافق لما يقتضيه العصر ويتطلبه الزمان؟ هل هو رجل العصر المناسب؟ هل الرؤية الاصلاحية التى يطرحها هى واجب الوقت وعنوان المرحلة ؟

وهنا يجب القول أن الأستاذ فتح الله كولن يمتاز بأنه رجل هذا العصر وأنه مجدد هذا الزمان، بمعنى أنك تستطيع أن تقول: لو كان الرومي في زماننا لقال هذا، ولو امتدّ الزمان بالنورسي لفعل هذا، فهو رومي عصره ونورسي زمانه.

هل يمكن أن تحدثنا من خلال قراءتك لكتب الأستاذ عن مكانة القرآن وموقعه لدى الأستاذ فتح الله كولن؟

-في الحقيقة، هذا السؤال يثير لديّّ مشاعر كثيرة، فأنا ممن يعتقدون أن أي نهضة أو فكرة إصلاحية تتجاوز الخطاب القرآني أو لا تعتمد عليه فهي نهضة ميتة في مهدها وفكرة محكوم عليها بالإخفاق سلفًا. ولذا فقد كنتُ ولازلتُ حريصًا عند قراءة فكر الأستاذ وكتاباته أن أتلمّس فيها موقع القرآن منها، لكن أغرب ما واجهنى في كتابات الأستاذ كولن –وأعني الكتابات التي يخطها بيديه على التحديد– هو أنك قد تقرأ المقال المطوّل من مقالاته ولاتجد فيه آيةً واحدة من القرآن الكريم، بينما المقال ذاته دائرٌ في فلك القرآن الكريم لا يتجاوزه قيد أنملة، في حين قد تجد كاتبًا يتحدث في موضوع من الموضوعات فيريد أن يَجبَه مخالفه، فيواجهه بنص مقدّس حتى لايترك له مجالاً للأخذ والرد حول الفكرة التي يطرحها. وعندما وجدت الأستاذ ينتهج ذلك، قلتُ في نفسى: لعل الأستاذ يريد أن ينزّه النص القرآني عن كونه مجرد تأكيد لأفكار نطرحها مهما كانت درجة اقتناعنا بها، والله أعلم طبعًا

لكن أهم ماتبيّنتُ ملامحه عن مكانة القرآن في كتابات الأستاذ مايلي:-

  • الأستاذ كولن يتعامل مع القرآن لا باعتباره كتابًا مقدّسًا فحسب، بل باعتباره وحيًا متجددًا كان ولايزال قادرًا على إحياء هذه الأمة وبعثها من جديد، بل على إحياء الإنسانية في نفس كل إنسان فالخطاب القرآني فوق الزمان والمكان، وليس مجرد مصحف يُتبرّك به، ويُعتنَى بجوانب الزخرفة فيه.
  • لا يقف الأستاذ عند مستوى التدبر للخطاب القرآني بل يتجاوزه إلى ما يمكن تسميته “التمثيل لقيم الوحي” بمعنى أن يتشخَّص الوحي الإلهي ليكون نماذج بشرية تسعى بين الناس بقيم هذا الوحي الإلهي.
  • إذا كان القرآن قد غيَّر وجه العالم منذ أربعة عشر قرنًا، فإن الأستاذ فتح الله كولن يعتقد بأن القرآن سيقول كلمته في القرن الحالي، وهو على يقين بأن القرن الواحد والعشرين سيكون عصر القرآن.

تجاوز الأستاذ فتح الله كولن منظور إثارة مشاعر مخاطبيه بكمالات النبوة إلى منظور إحياء منهج النبوة سلوكًا وعقلاً كيف ترون ذلك؟

-كلما مرّت علينا مناسبة ذكرى مولد النبي الهادي –صلوات الله وسلامه عليه– وسمعنا قصائد في المدح عظيمة، وابتهالات حزينة، وأغاني رائعة، ومدائح جميلة، وتحدث الخطباء على المنابر، وامتلأت البرامج الإذاعية والتلفزيونية بالأحاديث عن الرسول وعظمته… هذا كله جيد وجميل، لكن تُرى هل ترك هذا كله فينا أثرًا؟ أم أن حبنا لرسول أنه يقف عند حدود المشاعر الطيبة وكفى.

لو شاهدت الأستاذ كولن وهو يتحدث في دروسه، ولو لم تفهم التركية، فستشعر أن هذا الرجل مهموم، وأن همّه كبير، كبير جدًا بحجم أمة كاملة، لدرجة تجعله يبكى حين يفيض همه عن قدرته على التحمل.

لو أنك شاهدت الأستاذ كولن وهو يتحدث في درس من الدروس، حتى ولو كنت مثلي لا تفهم التركية، فلا شكّ أنك ستشعر أن هذا الرجل مهموم، وأن همّه كبير، كبير جدًا بحجم أمة كاملة، لدرجة تجعله يبكى حين يفيض همه عن قدرته على التحمل، وحين يتحدّث عن الكمال النبوي، ويتغنى بكمالات النبوة، تجده يكاد يذوب عشقًا وحياء وحبًّا، لكنه ليس من نوع “الحب السلبى” إنه حبُّ من ذلك النوع الفاعل المتحرك الذي ينشئ فعلاً ويترك أثرًا، إنه يدعو تلاميذه أن يرفعوا “الاسم المحمدي الجليل” في كل مكان، وأن يبنوا في كل مكان يذهبون إليه “مدينة منوَرة” حتى يستطيعوا يوم القيامة أن يواجهوا صاحب “المدينة المنورة” صلى الله عليه وسلم.

شكرًا جزيلاً أستاذي كان حوارًا دسمًا وعميقًا وطيبًّا، ومثل تلك الحوارات لا يريد لها الإنسان أن تنتهي في الحقيقة، وبالطبع فالكلام ذو شجون. فإلى أن نلقاكم في حوارات أخرى نستودعكم الله تعالى.