إن كون الكلام معجزًا، لا طاقة لجميع البشر على معارضته، وتحدّيه على مدى التاريخ لجميع دهاة القول وأرباب الفكر لَيدلُّ على أن كلماته التي وردت في تراكيبه ليست كلمات عادية، بل هي ألفاظ نورانية لها عمق استثنائي ولها لون يخصّها، ولذلك هي مادّةٌ لتعبيرات تفوق حدود تصوّرنا.
فلذلك نرى أن القرآن المعجزَ البيانِ حينما يختار ما يورده من الكلمات يتّخذ أسلوبًا لا مجال فيه للَّبس والإبهام، وحينما نبحث في هذا الموضوع نلاحظ أن هذا الاختيار يقع على شكلين:
الأول: أن الكلمة استُخدمت مباشرة في المعنى الذي سيقت له.
الثاني: أنه لو استُبدلت هذه الكلمة الواردة بكلمة أخرى، لوجدتَها نابية عن مكانها، ولظهَرَ أنها لا تفي بالمعنى المراد على الوجه المطلوب.
القرآن الكريم آثر كلمة “اثَّاقَلْتُمْ” المشتقةَ من الجذر نفسه، ولكن -كما هو معلومٌ لعلماء الاشتقاق- يوجد في هذه الكلمة من التشديد وطريقة التلفّظ بالكلمة ما لا يوجد في غيرها.
ولنوضّح ذلك بإيراد الأمثلة، ولعله من المفيد أن نورد الأمثلة من الشق الثاني الذي يلفت النظر بشكل أكثر:
المثال الأول:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/168).
فالملاحَظ هنا باختصار: هو أن الآية تريد أن تنهى المؤمنين عن الانقياد للشيطان وعن اتِّباعه.. فالكلمة التي اختيرت هنا هي قوله تعالى: “لَا تَتَّبِعُوا” وهي مشتقة من تَبِع، وهي تدل على المعاني التالية:
1- أن يتّبع الإنسانُ شخصًا ويمشي وراءه..
2- أن يتوافق الإنسان مع شخص ويصبح كالقمر بالنسبة إليه.
3- (وإذا كان من باب الافتعال يكون المعنى:) أن تصير متابعة الآخرين طبيعةً للإنسان.
القرآن يختار كل مادته كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا بدقة متناهية، حقًّا إنه كلامٌ لِقدير ذي جلال.
فإذا حلَّلنا الكلمة من خلال هذه المعاني تجلّت لنا الأمور التالية:
إننا إذا زدنا على الأصل الثلاثي للكلمة حرفين وحولناها إلى باب آخر، فستكون الكلمة منبعًا لمعان أخرى؛ بمعنى أن الكلمة حينما تكون في قالب فإنها تدل على معنى غير المعنى الذي تدل عليه حينما تكون في قالب آخر.. ففي هذه الآية ورد فعلُ: “تبع” من باب الافتعال: فيكون المعنى على هذا: لا تُطيعوا الشيطان ولا تكونوا أتباعًا له، ولا تُحاولوا أن تتبعوا خُطاه بأن تدوسوا على نفس الموضع الذي يدوسه خطوة بخطوة.
كما أنه يفهم من ذلك معنًى إجمالي كما يلي:
إن الشيطان كائنٌ دسّاس، وحينما يقوم بوساوسه يقوم بها خفية، خطوةً خطوةً، في خطة محكمة؛ بحيث يصعُب على المرء إدراك ذلك؛ فهو يخطو خطوة ويجعل الآخرين يتابعونه، والإنسان الذي يتبعه يستصغر الأمر في أوله، قائلًا: “ماذا يضير؟ كل ما في الأمر خطوة! فيتابعه وهو لا يدري أن الشيطان سيجعله يردف هذه الخطوة بخطوات؛ فما هي إلا خطوتان، تتبعهما الثالثة… وبعدها يصبح عبدًا طائعًا للشيطان فيهوّن عليه المعاصي ويسهل له طريقها ويزين له المنكر حتى يؤدي به في نهاية المطاف إلى أوحال يستعصي عليه التخلّص منها.
إذا لم يتب مقترف هذه الذنوب التي تبدو له صغيرة، فستتحول إلى ثعبان شرس يلدغ القلب فلا يصحو بعده، وهذه النقطة هي مرحلة الكفر، والعياذ بالله..
فقوله تعالى: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يتحدث لنا عن اتِّباعٍ من هذا القبيل، فهذا الاتباع يكون في البداية من حيث لا يشعر به الإنسان، ولكنه في نهاية المطاف يتحوّل إلى مسيرٍ يُصبح جزءًا من طبيعة الإنسان وبُعدًا من سجاياه. أجل، إنه لا يتأتى للإنسان في كثير من الأحيان الإحساس به، وكثيرًا ما يُصبح الزمام بيد الشيطان عقب تلك الخطوة الأولى.. فبناءً على هذا نفهم من قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ تنبيهًا مفادُه: لا تجعلوا اتِّباع الشيطان طبيعة لكم.
إضافة إلى ما سبق تُصوِّر لنا الآية حالة نفسية أخرى للإنسان؛ فهو عندما يرتكب خطيئة أو يقترف ذنبًا يهوّن على نفسه قائلًا: “لا ضير، إنه أمر هين”، ولكنه لا يدري أن في الخطيئة مهما صغُرت طريقًا يؤدي إلى الكفر، فإذا لم يتب مقترف هذه الذنوب التي تبدو له صغيرة، فستتحول إلى ثعبان شرس يلدغ القلب فلا يصحو بعده، وهذه النقطة هي مرحلة الكفر، والعياذ بالله.. فالآية إذ تتحدث لنا عن هذه الخطايا تستخدم أسلوبًا يحس السامعُ من خلاله بوطأة الذنب وثقله في روحه.
ومن الممكن استبدال كلمة “لا تتبعوا” بكلمة مرادفة لها، لكنها لن تؤدي المعنى الذي تؤديه كلمة “لا تتبعوا” في التعبير عن أحاسيس الإنسان ومشاعره وعواطفه وطبيعته وسجيته، وبذلك لن تؤثر في السامع كما تؤثّر الكلمة الأولى.
أجل، إنها لن تعبر بهذه السهولة عن مراوغة الشيطان، ولا عن تفكيره بالاقتراب نحو الهدف خطوة خطوة، ولا عن انزلاق الإنسان نحو الكفر بالذنوب الصغيرة من حيث لا يشعر.
ويتضح من الأمثلة التي سردناها إلى الآن، والتي سنسردها لاحقًا، أن القرآن يختار كل مادته كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا بدقة متناهية، حقًّا إنه كلامٌ لِقدير ذي جلال، لم يكن لأحد أن يأتي ببديل له ولن يكون.
الكلمة حينما تكون في قالب فإنها تدل على معنى غير المعنى الذي تدل عليه حينما تكون في قالب آخر..
المثال الثاني:
ومن الأمثلة البارزة التي تُبين أن الألفاظ القرآنية قد اختيرت بعناية فائقة، وأنه إذا بُدّلت هذه الألفاظ بغيرها فلا يمكن الحفاظ على نفس ما تؤديه هذه الألفاظ قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (سورة التَّوْبِةِ: 9/38).
فهذه الآية تلوم أولئك المتكاسلين المتهاونين الذين تملّك شعورُ الراحة والدعة من أرواحهم، وبهجةُ الرياض والبساتين وحبُّ الدعة من نفوسهم فتخلّفوا عن الجهاد، فهم لا يُعيرون سمعًا لنداء الدعوة إلى الجهاد الذي يشترك فيه الجميع بأنفسهم وأموالهم فلا يبالون ولا يشاركون.. ففي سياق تصوير حال هؤلاء ورسمه بأبرز خطوطه يقول الحقَّ سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (سورة التَّوْبِةِ: 9/38).
فكلمة “اثَّاقَلْتُمْ” هنا هي الكلمة المفتاحيّة التي تعبّر تمامًا عن المسألة، وهناك كلمات أخرى مثل: “تَثَاقَلْتُمْ” أو “ثَقُلْتُمْ”، تُفيد معنى المكوث بالمكان جراء الثقل، ولكن القرآن الكريم آثر كلمة “اثَّاقَلْتُمْ” المشتقةَ من الجذر نفسه، ولكن -كما هو معلومٌ لعلماء الاشتقاق- يوجد في هذه الكلمة من التشديد وطريقة التلفّظ بالكلمة ما لا يوجد في غيرها، كما أن ورودَ الفعل على هذه الصيغة له دلالة فريدة من نوعها في تصوير نفسيّة الإنسان الكسول الذي يتهاون عن الجهاد، فطابق ثقلُ اللفظ فيها ثقلَ ذلك المتكاسل.
المثال الثالث:
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/31).
من البديهي أن رِجلَي الإنسان تحملانه في تنقّلاته.. فلنتصوّرْ أن هناك رجُلًا نحيلًا جدًّا ضعيفَ البنية خائرَ القوى رجلاه لا تقويان على حمله لكنه يحمل على ظهره حِملًا في غاية الثقل فكيف يكون حالُه يا تُرى؟ ومما يثير الاستغراب ويزيد الدهشة أنه يحمل بالإضافة إلى هذه الأعباء أحمالًا لغيره فيرزح تحتها خائر البنيان.
فهذه الآية تَذكُر لنا بتلك القوة التعبيريّة القرآنية الرائعة أن هذا الشخص لم يكتفِ بتورُّطه في المعاصي بل وَرَّط غيرَه، فحَمل أوزارهم مع أوزاره.. ويكفي لإدراك هذه الصورة وتلمُّس أجزائها أن يتصوَّر الإنسانُ صعوبة أن يرزح الجسم الضعيف النحيل مادّيًّا ومعنويًّا تحت ذلك الحِمل الثقيل.. وحينذاك يمكن للسامع أن يلاحظ مدى روعة القرآن ودقته في اختيار الكلمات لرسم هذا الموضوع.
إن كون الكلام معجزًا، لا طاقة لجميع البشر على معارضته، وتحدّيه على مدى التاريخ لجميع دهاة القول وأرباب الفكر لَيدلُّ على أن كلماته التي وردت في تراكيبه ليست كلمات عادية، بل هي ألفاظ نورانية.
أجل، إن هذه الآية الكريمة تُصوِّر لنا الذنب على أنه وِزر ثقيل يُثقل الكاهل ويُحني الظهر بين يدي المولى، ثم تذكر لنا كيف أن هذا العبء يُذِل الإنسان في الدنيا والعقبى.. فإذا استَحضر السامعُ كلَّ هذه القناطير المقنطرة من أعباء الذنوب وتصوَّرَ إلى جانب هذا العناءِ ما سيقاسيه هذا الإنسانُ في طريقه من منحدرات صعبة ومنعرجات قاسية، فسيدرك ما تحمله الكلمات من المعاني وما في المعاني من العمق مما يزيد التأثير إلى مدى يفوق حدودَ التصوّر.
أجل، إن الذين يحملون على ظهورهم الأحمال هم في الغالب مخلوقاتٌ من نوع آخر؛ لأن الإنسان لم يُخلق بتكوين يستطيع أن يحمل على ظهره الأحمال، إلا أن القرآن قصد مغزى جليلًا حينما عبر عن ثقل الذنوب بالأوزار، وكيفيةِ حملها، وشعورِ الإنسان بوطْأَتها على وجدانه، فحينما يتلو الإنسانُ الآيةَ بهذه النظرة فإنه يَشعر هو أيضًا بجميع ذنوبه وكأنه يحمل على ظهره عبئًا ثقيلًا.. وبهذا نلاحظ بجلاءٍ كيف أن القرآن يستخدم مادّته بدقة متناهية بحيث إننا لو بدّلنا هذه التعبيرات بتعبيرات أخرى لم تؤدّ نفس الغرض والموسيقى ولو كانت مرادفة لها.. وهذا أيضًا من الأمور التي تبرهن على أن القرآن معجز من هذا الجانب.