ملخص

إن المجتمع يتطور ويتدهور وفقًا لطبيعة علاقة أطراف المجتمع الواحد ببعضهم البعض، وكذلك وفقًا للضمير الجمعي الذي يظهر أثناء نشاط الحركات المختلفة سواء الأخلاقية أو التعليمية أو السياسية، وجميعها تكون محاولات تصحيحية لمسار المجتمع، لكن الملاحظ الجلي أن معظم الدراسات الاجتماعية منذ نشأتها في القرن التاسع عشر تحصر مفهوم الحركة الاجتماعية في الحيز السياسي، وذلك بسبب طبيعة الحركات السياسية التي انتشرت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين والتي كانت تركز جهودها في العمل السياسي من أجل إحداث تغيير شكل الحكم أو طبيعته.

ولكن الأمر يختلف مع حركة الخدمة الناشطة في المجتمع لا من أجل أغراض سياسية ولكن لأهداف اجتماعية وإنسانية عامة، وتحاول الدراسة التي بين أيدينا أن تلقي الضوء على طبيعة حركة الخدمة الاجتماعية بمفهومها الواسع، وفهم طبيعة مشروعاتها، وهل من الإمكان أن نطلق عليها حركة اجتماعية أم أن هذا سيعد مغالطة لطبيعة عمل الخدمة؟

المقال

قبل أكثر من عشر سنوات بدأ اهتمامي بكتابات وأعمال الأستاذ فتح الله كولن، والتقيت مع عديد من أعضاء مشروع الخدمة، وزرت عديدًا من المؤسسات والمدارس والجامعات ومؤسسات الحوار بين الأديان التي تستلهم أفكارها من الأستاذ كولن وذلك في مسقط رأسه في تركيا وكذلك على النطاق العالمي.

وخلال السنوات الماضية، شاركت في مؤتمرات أكاديمية ركزت على “حركة كولن” باعتبارها تجديدًا معاصرًا للإسلام، وبحثت في دوافعهم وأهدافهم وأسسهم الاجتماعية والدينية من جهة عقيدتهم وممارستهم للإسلام. بالإضافة إلى ذلك، قابلت عديدًا من الصحفيين والكتاب المشاركين في وسائل الإعلام المطبوعة والتلفزيونية ممن لهم اتصال بأفكار كولن داخل تركيا وخارجها.

الحوار ومجتمع المتطوعين

إن البعد المهم لفتح الله كولن يتمثل في الحوار بين الأديان، ومحاولاته دخول مجال الفكر العربي المسلم باعتباره موازنة عكسية في مواجهة التيارات المتشددة، ففتح الله كولن يحتضن في وقت واحد عدة جوانب من الفكر والممارسات الإسلامية التقليدية والمبتكرة على حد سواء، وهذا المزيج من الخصائص والقدرات والمؤهلات يميزه عن غيره من العلماء والإصلاحيين، الأمر الذي وفر له القدرة على التغيير. ففتح الله كولن عالم، وناشط سلام، ومفكر، وزعيم حركة دينية مدنية، ومصلح اجتماعي، ومرشد، بالإضافة إلى كونه شاعرًا وكاتبًا، حفَّز وألهم جيلاً من المسلمين في تركيا وخارجها في حركة اجتماعية دينية متعددة الأعراق، صاغها هو نفسه من “مجتمع المتطوعين”.

خصوصية كولن

يَلفت الأستاذ بولاج انتباهنا نحو مدى موثوقية أفكار كولن وأهميتها، مشيرًا إلى أن كولن يمثل أحدث إحياء لتقليد العلماء، مثل العلماء المسلمين السابقين؛ حيث يمتلك دراية متميزة لا تشوبها شائبة بالمصادر والعلوم والمنهجيات الإسلامية. ويستدرك بولاج قائلاً: غير أن كون المرء عالمًا وحده لا يكفي؛ إذ ينبغي أن يكون “ذا جناحين” بمعنى أن يكون على دراية بالعلوم الإسلامية، ولديه في الوقت نفسه وقوف على العلوم الغربية والفكر الغربي. والحقيقة أنه -من بين العلماء المعاصرين- قد يكون كولن هو أول ممثل لخاصية “ذي الجناحين” تلك، وذلك لما يمتلكه من فهم عميق للعلوم الإسلامية، ومعرفة واسعة بالسيرة وعلم الحديث، واستيعاب شامل للأصول الإسلامية؛ فكتابه “تلال القلب الزمردية” عمل مهم من حيث الفكر والتراث الصوفي. بالإضافة إلى أن أهم خصائص كولن أنه يحلل القضايا المعاصرة ويقدم لها حلولاً باستخدام قواعد أصول الفقه وعلم الحديث(1).

إن التركيبة التي يقدمها لنا كولن فريدة من نوعها، فهو يسعى إلى  تطوير حياة الناس من خلال التعليم والحوار، الأمر الذي قد يتعارض مع المفاهيم الثقافية والعقائد الدينية السائدة، فالأفكار التي يقدمها تسعى إلى تحفيز الفرد والمجتمع نحو تحقيق مفهوم الإنسان الكامل، وهذا المفهوم لا يمكن أن يتحقق إلا في مجتمع حر وعادل، ونظرًا لأن أهداف وأفكار كولن لها ما يبررها في المصادر الإسلامية الراسخة فليس لأفكاره مشكلة من جهة الشرعية أو الأصالة.

إن كولن يعد الممثل لخاصية “ذي الجناحين” وذلك لما يمتلكه من فهم عميق للعلوم الإسلامية، ومعرفة واسعة بالسيرة وعلم الحديث، ويقدم حلولاً للقضايا المعاصرة باستخدام قواعد أصول الفقه وعلم الحديث.

والواقع أنني أرى أنه مثلما ساعدت جهود كولن ومشروع الخدمة في تقوية المجتمع في تركيا، فإن هذه الأفكار سوف يكون لها التأثير نفسه في العالم الإسلامي على النطاق الأوسع، غير أن سرعة التأثير وامتدادها ستعتمد بشكل طبيعي على وجود الخدمة في العالم.

كولن ضد التصنيف

بحسب كولن لا يمكن تحقيق إرادة الله والسلام العالمي إلا من خلال وجود حضارة شاملة تدمج قيم الشرق والغرب، ويستشهد كولن في كثير من الأحيان بالآية القرآنية يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(الحجرات:13).

فالشرق والغرب -لدى كولن- متماثلان في الأهمية، والأمر بالنسبة له محاولة للجمع بين أصحاب الرؤية الإيمانية والحضارة الغربية، فالمسلم وفقًا له هو المتتبع لقوانين الله المتعلقة بالسبب والنتيجة، مستهدفًا بذلك تحقيق النجاح والتنمية وتفعيل قيم الحضارة الإسلامية التي حافظت على ديناميكيتيها الروحية. في هذا المستوى من التفكير والمنطق يعارض كولن فكرة التصنيف؛ (مسلمٌ وغير مسلمٍ، شرقٌ وغربٌ)، ويرى أنه ينبغي أن يكون كل منهم جزءًا من الحضارة المستقبلية الشاملة التي تسعى إلى تحقيق التوازن والسلام في العالم.

الخدمة والتعريفات السائدة للحركات

لم يتفق علماء الاجتماع على تعريف مانع وجامع لمفهوم العمل الجماعي، أو مفهوم الحركة الاجتماعية التي من شأنها أن تلبي ما تطلبه الأفكار المختلفة السائدة في أي حقبة، أو تتناسب بشكل جيد مع الحقائق المختلفة التي يتم دراستها. وبالتالي فالتعريفات المعاصرة لماهية الحركة الاجتماعية تخضع لتأثيرات السياق، أو تركز على مميزات محددة للحركة، لذا فهي تختلف اختلافًا كبيرًا من حيث الإطار المرجعي، والوزن النسبي على مستوى الإدراك والتحليل، وعلاقاتها المختلفة، ومجموعات عملها المتداخلة، وسنستعرض بعض المفاهيم المقترحة في السنوات الأخيرة للحركات الاجتماعية.

فهناك من يرى أن الحركة الاجتماعية هي محاولة جماعية لعدد من الناس تهدف لإحداث تغيير في سلوك الأفراد أو المؤسسات والهياكل المجتمعية(2)، وأن الحركات الاجتماعية لها صفات؛ فهي أولاً: شبكات غير رسمية، ثانيًا: تستند على مفهوم التضامن المشترك، ثالثًا: تتعامل مع قضايا متنازعة، رابعًا: تستخدم أشكال الاحتجاج المختلفة. كما يشتمل مفهوم الحركة الاجتماعية على ثلاثة أبعاد تحليلية: (1) ممثل جماعي يحدده تضامن جماعي محدد (2) يتنازع مع طرف آخر من أجل السيطرة وتسيير الموارد التي يثمنها كل منهما (3) وهذا التحرك يقتضي الخروج على النظام الذي يحدث فيه الإجراء المبتغى تعديله(3).

هذه التعريفات تتفق في فكرة مفادها مواجهة أصحاب السلطة المكتسبة وتحديهم، والسعي إلى إجراء إصلاحات هيكلية، باستخدام أساليب خارج المؤسسات قد تشمل انتهاك المعايير القانونية والدستورية المقبولة.

وهذه التعريفات مستمدة من نماذج محددة لحركات جماعية ومناهجها النظرية للتغيير الاجتماعي التي انتشرت في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية والجنوبية من أواخر ستينيات القرن الماضي وما بعدها، ورغم أن تلك النماذج تتسم بالتطور والانتشار، فلديها -في الوقت نفسه- نقاط ضعف كبيرة تستدعي على وجه الخصوص وجود نماذج معاصرة دينية-اجتماعية.

إن التركيبة التي يقدمها لنا كولن فريدة من نوعها، فهو يسعى إلى تطوير حياة الناس من خلال التعليم والحوار، فالأفكار التي يقدمها تسعى إلى تحفيز الفرد والمجتمع نحو تحقيق مفهوم افنسان الكامل.

فالنماذج النظرية التي لدينا جامدة لدرجة تجعلها غير قادرة على استيعاب جميع الحركات الاجتماعية أو معظمها، وهي في الوقت نفسه واسعة لدرجة لا تمكنها من التمييز بين الأنواع المختلفة من الحركات، فالتعريفات لا تصف بشكل مناسب مفهوم الاستمرارية بين الموقع الهيكلي للممثل والعالم الثقافي والفكري الذي يتم تحديده وخدمته. وبالإضافة إلى ذلك، فعلم الاجتماع الخاص يتعامل بشكل متزايد مع الحركات التي لا يمكن اختزالها في سبب اجتماعي واحد محدد، فبشكل متزايد تحولت الحركات الاجتماعية إلى مبادرات عالمية تعمل داخل مجتمعات متعددة الأشكال والاحتياجات، كما أن لدينا اختلافات بين الحركات من حيث التركيز والغرض.

وعلى هذا النحو، فالكثير من أدبيات البحث المتعلق بالحركة الاجتماعية نجدها تعمم نتائجها على الحركات المختلفة دون النظر إلى زمنها أو مكانها، أو كونها تركز على حركات فردية وتتمركز في وقت ومكان واحد، وفي كلتا الحالتين سعت تلك الدراسات إلى إنشاء تحليلات موحدة، واعتمدت على السياقات التي تتجذر فيها حركات المعارضة أو الاحتجاج، مما يشير إلى أن المنظور الذي انطلق منه المنظرون الاجتماعيون اعتمد بصورة حصرية على الحركات الاجتماعية والظواهر الجماعية التي كانت موجودة في نهاية القرن العشرين سواء أكانت اجتماعية-سياسية أو دينية-سياسية.

وقد فشلت هذه التصورات في ملاحظة العنصر السياسي في الحركات الجديدة، وتجاهلت العمل الخيري والإيثاري والتطوعي، بينما يساعد ذلك في فهم ديناميات المشاركة في الأنشطة التي لا يستفيد المشاركون فيها بشكل مباشر، كما فشلت تلك المفاهيم في معالجة الدوافع الدينية. فعلى سبيل المثال نجد الإسلام السني يمنح ويكفل للأفراد والجماعات التحرك لإحداث تغيير اجتماعي إيجابي بالتوافق(4).

إن الحركة الاجتماعية هي محاولة جماعية لعدد من الناس تهدف لإحداث تغيير في سلوك الأفراد أو المؤسسات أو الهياكل المجتمعية.

بالإضافة إلى وجود انفصال حاد في تلك التصورات النظرية بين الأحداث المعاصرة وتلك الواقعة بالماضي، في حين أن هناك تغييرات ذات أصل اقتصادي وسياسي، وتغييرات تنشأ وتكتسب أهمية من المواقف المتعلقة بالقيم الدينية والأخلاقية والثقافية، وهناك حركات تهتم بقيم المساواة والحرية والكرامة والإيثار والحفاظ على البيئة والأخلاق، بالإضافة إلى قضايا حقوق الإنسان الأساسية، والأخلاق والثقافة القانونية(5).

يقول إيرل ‘لقد جادل عديدًا من المنظرين البارزين بأن (الحركات الاجتماعية الجديدة) أقل توجهًا وسعيًا لتحصيل نتائج سياسية، وبدلاً من ذلك فهي تهتم أكثر بالقيم والمعتقدات الثقافية(6)، وهو ما يؤكده منظّر اجتماعي آخر وهو كُوبمانس بقوله: إن بعض الحركات الاجتماعية “تقوم من خلال دمج الابداعات الجديدة بإدخال عنصر جديد في تفاعلاتها، بل تنشئ وتعيد صياغة جديدة للهوية ولطرق العمل، وللمطالب، وهذا بدوره يلهم الحركات الأخرى(7).

ولننتقل إلى الحديث عن المخزون الثقافي والتربوي لحركة كولن للمجتمع المدني، ورؤيتها الديمقراطية التشاركية التعددية وتوافقها مع الإسلام، وممارستها للخدمة في مختلف الثقافات، باعتبار أنها حركة اجتماعية معاصرة لا تركز على توقع حالة الصراع باعتبارها حتمية، ولا تقترح تخريب النظام الاجتماعي عبر القفز على العلاقات الاجتماعية الموجودة، ومثل هذه الحركات التي تشترك في خاصية عدم التصارع قد تنشأ عن تقاليد دينية أو علمانية مختلفة ولكنها ليست بالضرورة علمانية، كما لا يتم تحديدها باعتبارها قائمة على أساس من الطبقية أو المادية، ودعونا ننتبه إلى مصادر مثل هذه الحركات، التي ليست دنيوية بل وريثة للتقاليد الروحية المعدلة لتتعامل مع العصر الحاضر. وبالتالي فإن فكرة مثل هذه الحركة تفترض استخدام القوة التعاونية “الناعمة” بدلاً من القوة “العنيفة” العدائية.

حركة كولن قوة ناعمة

لقد وُصفت المبادرات المستلهمة من أفكار كولن بعديد من الأوصاف مثل كونها؛ مدنية، ثقافية، سياسية، تريد أن تكون في الواجهة، صراعية، رجعية، رد فعلية، حصرية، طائفية، غربية، تنافسية، إسلامية، وسطية، متصالحة، تعددية، ديمقراطية، إيثارية وسلمية(8)، فكيف يمكن تعريف مثل هذه الرابطة وفقًا لنظريات الحركة الاجتماعية، هل هي حركة مجتمع مدني، رد فعل لأزمة، حركة أو نظام صوفي، حركة سياسية، أو عمل جماعي يحض على الإيثار؟

عبر عملي الميداني الخاص وملاحظات الآخرين يوجد دليل واضح على أن حركة كولن تُسهم بصورة كبيرة في مساعدة الطلاب المتفوقين حيث تفتح آفاقهم على أهداف جديدة، وقد شجعت الخدمةُ على المشاركة الطوعية في شبكة من المدارس والجامعات العالمية، وطوَّرت علاقات ثقة بين قادة الأديان والمجتمعات عبر مؤسسات الحوار بين الأديان، وسعت لخلق أهداف مشتركة لمجتمعاتهم(9).

إن هذا العمل المدني يعمل عبر مؤسسات تقع خارج الهياكل المؤسسية الرسمية للحكومة بشكل أساسي، كما أنها متميزة عن المنظمات التجارية، وبالتالي فهي -في المقام الأول- لا تسعى لإنشاء مشاريع تجارية لتوزيع الأرباح على مديريها أو أصحابها؛ بل إنهم مجموعة عمل تتمتع بالاستقلالية في الإطار القانوني، والناس أحرار في الانضمام إليهم أو دعمهم طوعًا(10). وكما يعرف هيفنر “المجتمع المدني” بأنه “جمعية طوعية خارج نظام الأسرة مستقلة، توفر للمواطنين فرص فهم وممارسة العادات الديمقراطية المتمثلة في التجمع الحر، والحوار غير القسري والمبادرة الاجتماعية الاقتصادية”(11).

إن نهج الخدمة وخاصة في مؤسساتها التعليمية هي البناء من القاعدة إلى أعلى فهي تسعى من خلال تعليم الأفراد إلى إنشاء مجتمع متناغم وشامل على أساس ليبرالي عام. 

وكما يقول ويلر: “إنّ الحركات ذات المرجعية الدينية تغفل في كثير من الأحيان عن البنى الاجتماعية والسياسية للحداثة”، بينما نجد الخدمة تشكل جزءًا كبيرًا من المجتمع المدني وتسهم بشكل كبير في الحفاظ على كل من الترابط والتواصل الاجتماعي، ورأس مالها في ذلك وجود مجتمع مدني وديمقراطي. والجانب الطوعي في الارتباط بالخدمة يعد مهمًّا، حيث ينضم الأفراد بحرية إلى الجمعيات والخدمات التي يختارونها، كما يتمتعون بحرية الخروج دون أي تكلفة، وسواء كان الدافع الأساسي لمثل هذه المشاركة التطوعية هو تحقيق الذات أو التعبير عن الذات أو تنمية الذات أو التعبير عن الإيمان، فالمهم هو تحقيق المثل العليا للمجتمع المدني(12).

إن نهج الخدمة وخاصة ما تتبعه في مؤسساتها التعليمية هي البناء من القاعدة إلى أعلى فهي تسعى من خلال تعليم الأفراد إلى إنشاء مجتمع متناغم وشامل على أساس ليبرالي عام.

فـ”التعليم” هو الأساس المنطقي الذي يؤكد كولن على أولويته دائمًا في الحركة بغض النظر عما إذا كان النظام الاجتماعي والسياسي مشلولاً أو كان نظامًا يعمل كالساعة”(31). وفي حين يوصف عمل الخدمة بأنه عمل مجتمع مدني ذي بعد إيماني، فإن خطابها وممارستها في مدارسها على سبيل المثال يؤكدان فكرة أن الدين والدولة قد ينفصلان في الإسلام، وهذا الأمر لا يمثل تهديدًا للإيمان بل إنه قد يمنع من استغلاله والتلاعب به من قبل الدولة. وبالتالي، فإننا أمام حركة تقوم بتحويل الفرد والمجتمع إلى “مجتمع أخلاقي” ومن ثم مجتمع متقارب يتبنى الحوار.

ولكن إن عدنا إلى التاريخ لأجل فهم الواقع التركي فسنجد أنه منذ إنشاء الجمهورية التركية في عام 1923، واجهت الأمة التركية سلسلة من الأزمات في تطورها لكي تصبح مجتمعًا مدنيًا ديمقراطيًا حقيقيًا(14)، ودعونا لا ننسى التفريق بين الأزمة والصراع؛ فأثناء الصراع يتنازع الخصوم على التعاريف المتعارضة للأهداف والعلاقات؛ على سبيل المثال المعنى المقصود من وراء إنشاء مجتمع مدني، وفي حين أن الصراع العدائي يظهر كصراع على السيطرة وتخصيص الموارد التي تعتبر حاسمة من قبل الأطراف المعنية، إلا أن الأزمة تثير رد فعل لاحق من جانب أولئك الذين يسعون إلى تصحيح الخلل الذي حدث في النظام، فالفرق بين الأزمة والصراع العدائي واحد فقط. لذلك يمكن أن نسأل السؤال التالي: هل تعد حركة كولن جزءًا من الأطراف المتنازعة والمتعنتة أم أنها تمثل مجموعة عمل جماعي، أم غير ذلك؟

بعض الحركات المدنية داخل وخارج السياق الديني تكون مثل ما ناقشه كلٌ مِن زالد وماكرثي، رد فعل للأزمات الأخلاقية كما تتصورها مجموعات المصالح، وقد تتراوح الموضوعات هذه بين وجهات نظر مختلفة بدءًا من موضوعات مثل: الحق في الحياة، ونزع السلاح النووي، والتحالفات المناهضة للحرب، ومجموعات دعم طالبي اللجوء، إلى القضايا التي تركز على الثروة والسلطة والفقر كما حدث على سبيل المثال في لاهوت تحرير أمريكا اللاتينية(15).

إن التعليم هو الأساس المنطقي الذي يؤكد كولن على أولويته دائمًا في الحركة بغض النظر عما إذا كان النظام الاجتماعي والسياسي مشلولاً أو كان نظامًا يعمل كالساعة.

ومع ذلك، فإن الملاحظة التاريخية تشير إلى أن مشروع الخدمة لم ينشأ ردَّ فعل للأزمات والصراعات (وهي السمة المستوطنة في المجتمع التركي منذ عام 1950) ولكن فتح الله كولن قام بتحفيز وتنشيط بعض القيم المدفونة، كالتوق للمثل العليا والآمال في تجديد الهوية الوطنية، وربما القيام بتغيير على نطاق العالم، ولولا مبادرات التحرير الاقتصادي والسياسي لـ”تورجوت أوزال”، التي سيطرت على المشهد الوطني التركي في الفترة من 1983 إلى 1993، والتي ساعدت في تكوين الحركات الاجتماعية الجديدة وظهورها، لما كان من المتصور وجود حركة “الخدمة” بريادة فتح الله كولن في تلك الحقبة الزمنية.

وبالنسبة لشبكة من الفاعلين المتحمسين، وبأعداد غفيرة من “متطوعين” في هذه الحركة، فلابد من وجود عدد من المشاركين والداعمين الماليين والأعضاء المحتملين ذوي المهارات الفكرية والمهنية اللازمة، فالاستعداد للخدمة سابق على وجود مناسبة للخدمة، إذ الحركات الاجتماعية تتطلب وقتًا لتتطور ولا تتشكل بشكل كامل من قشر البيض المكسور. وكما يجادل “كوبمانز” فأنَّ توفر المناخ السياسي لا يُترجَم تلقائيًّا وفوريًّا إلى زيادة في العمل ولا يكفي لظهور مجموعة من الإصلاحيين، ويمكن القول: إن هناك مراحل جنينية دفينة واضحة أسهمت في تشكل مشروع الخدمة(16).

في الواقع هناك بيانات صريحة من الأستاذ كولن نفسه بأنه ليس قائد “حركة”  بالمعنى المتداول للمفهوم، وبدلا من مصطلح ” الحركة” يفضل استخدام مصطلح “متطوعو الخدمة” لأن هذا لا يشير إلى نشاط المواجهة أو العزلة السياسية، ويصر على أن الخدمة التي يقدمها المتطوعون يجب ألا تنطوي على صراع أو تنبني على رد فعل، ويقترح كولن توصيفًا بديلاً لما تقوم به الخدمة حيث يعرفها بقوله: “إنها حركة تُنشِئ نماذجها الذاتية” ونتيجة لذلك يرى أنه يجب تقديم خدمة المتطوعين هذه في إطار عمل إيجابي مستمر لا يترك مجالاً للارتباك والاقتتال والفوضى، يقول كولن: إنه يتم تحقيق ذلك من خلال الاستغناء عن المصلحة الدنيوية والمادية مقابل الخدمة، والالتزام الأخلاقي الذي يبني الثقة، والممارسات الشاملة الجامعة للبشر، والصبر الفعال والسعي الإيجابي الاستباقي للصالح العام”(17).

إن الخدمة -بصورة ضمنية- تقدم التراث القرآني والنبوي عبر مؤسسات المدارس والجامعات والإمداد الطبي ومبادرات الحوار بين الأديان باعتبارها المصدرين الأساسيين اللذين تستلهم منهما  عملها.  

ويمكن القول إن الخدمات التطوعية تسعى لنيل رضا الله فقط، وكولن يشجع جميع الأفراد المتعاطفين مع آرائه على خدمة مجتمعاتهم والإنسانية جمعاء بما يتوافق مع هذا الموقف السلمي المستمر دون مواجهات وبعيدًا عن السياسة. وفي حين قد يرغب النقاد في وصف “الخدمة” على أنها تهديد للوضع الراهن داخل تركيا نفسها، فهناك دليل على أنه سواء داخل حدود الجمهورية التركية أو على المستوى العالمي شجعت “الخدمة” على التجدد السياسي المتسامح والمفتوح لأفراد المجتمع.

إن الخدمة في كل فاعلياتها تعتمد على النصوص الإسلامية والسيرة النبوية بصورتها التي تمثلت في التقاليد الصوفية الأناضولية، وفي الوقت نفسه تستخدم الخدمة خطابًا حداثيًّا في مجال التعليم وتسعى لتحقيق مستوى عال من العلوم التجريبية باعتبارها لغة دولية اليوم. ولذلك نستطيع أن نقول: إن الخدمة وبصورة ضمنية تقدم التراث القرآني والنبوي عبر مؤسسات المدارس والجامعات والإمداد الطبي ومبادرات الحوار بين الأديان باعتبارهما المصدرين الأساسيين اللذين تستلهم الخدمة منهما عملها.

أولوية التعليم

التعليم هو أولوية حركة الخدمة، فغياب العدالة -بحسب كولن- ليس هو فحسب ما يعوق التعليم الجيد بل الاعتراف بحقوق الإنسان وإظهار الاحترام والتسامح تجاه الآخرين كذلك(18)،حيث يقول “… إذا كنت ترغب في إبقاء الجماهير تحت السيطرة، فما عليك سوى تجويعهم معرفيًّا، ولا يمكن للجماهير الخلاص من هذا الطغيان إلا من خلال التعليم فقط، فالطريق إلى العدالة مرصوف بالتعليم العالمي الجيد، وهذا وحده هو ما يمنح الناس الفرصة لتحقيق الفهم والتسامح الكافيين لاحترام حقوق الآخرين. وكما لاحظتُ في السياق الوطني، تركز المدارس على إيجاد مفكرين مستقلين يعرفون القراءة والكتابة حيث سيكونون بدورهم عوامل للتغيير من أجل المساواة واحتضان الجميع والعدالة داخل المجتمع.

من جانب آخر لا نستطيع إغفال ” الروحانية” الواضحة في كتابات كولن كما لاحظها ميشيل وهذه الروحانية لا تشمل فقط تعاليم القرآن والسنة، بل تتضمن أيضًا الأخلاق والمنطق والصحة النفسية والعاطفية، فالمصطلحات الأساسية لدى الخدمة هي “الرحمة” و “التسامح”، حيث يعتقد كولن أنه يجب غرس الصفات “غير القابلة للقياس الكمي” في الطلاب إلى جانب التدريب في التخصصات “الدقيقة”(91).

إن القرآن يخاطب المجتمع بأسرة ويوكل إلى المجتمع تنظيم الواجبات المتعلقة بالإدارة، فينبغي على الناس أن يتعانوا من خلال تقاسم هذه الواجبات المجتمعية، وإنشاء الأسس التنظيمية لأدائهم تلك المهمات. 

والجدير بالذكر هنا أنه لا يوجد منهج واحد تلتزم به المدارس، فهي تعتمد مناهج ومقررات الدولة التي توجد فيها، وهذا يؤدي إلى الانفتاح الشامل الذي يعد سمة معبرة عن “الخدمة”، إلى جانب المثالية المتفائلة عن مستقبل الإنسانية وبناء نظام اجتماعي جديد، ويستشهد كولن على ذلك بقوله: “إن التطورات الهائلة في تكنولوجيا النقل والاتصالات جعلت العالم قرية صغيرة، وفي هذه الظروف ينبغي على جميع شعوب العالم أن تتعلم كيف تشارك هذه القرية فيما بينها، وأن تعيش معًا في سلام وتعاون متبادل، ونحن نعتقد أن ما يجمع الشعوب -بغض النظر عن الإيمان والثقافة والحضارة والعرق واللون والبلد- أكثر مما يفرقهم. وإذا شجعنا عناصر العيش المشترك في سلام وفتحنا عيون الشعوب على الأخطار المدمرة للصراعات والتقاتل، فقد يكون العالم غدًا أفضل مما هو عليه اليوم”(02).

ولو أطلقنا على “الخدمة” تسمية “طريقة” فذلك يمكن أن يكون فقط من جهة أن المتطوعين ينطلقون من دينهم ويؤدون وظيفة الدعوة معتمدين على عالمية الخطاب القرآني والخطاب السنني، ويسعون بجد للوصول إلى حالة الإنسان الكامل. وفي الوقت نفسه فإن من السمات البارزة للخدمة أن المشاركين يقرون ويلتزمون بالعادات الثقافية والتراكيب السياسية للسياق الوطني الذي يعملون فيه سواء في داخل تركيا أو خارجها.

لقد دعم كولن مبادرات هدفها تحقيق المجتمع الديمقراطي المتعدد والحر في تركيا، وفي رؤيته تعد الأخلاق الفردية محورًا رئيسيًّا لبناء وتعزيز العدالة داخل المجتمع، وانطلاقًا من هذه الرؤية فقد دعم كولن المبادرات التركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، على أساس أن المجتمع التركي سيحظى بفرصة الاستفادة والتعلم من المنجزات العلمية الأوروبية، والغريب في الأمر أن الأوساط الإسلامية والعلمانية في ذلك الوقت كانت تقف ضد هذه المبادرات باعتبارها خطرًا على الهوية الإسلامية أو الهوية القومية، بينما كانت النتيجة المنطقية لمبادرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هي مزيد من فرص الحوار والتسامح والتعايش وتكوين العلاقات مع مختلف الأعراق والأديان(21).

موقف كولن من الإسلام السياسي

ينتقد كولن “دور الدين في السياسة”، ويعارض باستمرار المشاركة المباشرة في السياسة الحزبية لأن العالم الحديث موجود في “تجربة تعددية” ويتخذ موقفًا مضادًا ضد هؤلاء الذين ينزلون الدين إلى مستوى الأيديولوجية السياسية(22).

إنه ليس مع أولئك الذين خلقوا صورة سلبية عن الإسلام من خلال تحويل الإسلام إلى أيديولوجية، كما يؤكد دائمًا على التمييز بين الإسلام والإسلاموية؛ فهو ليس من أنصار استخدام الإسلام كأيديولوجية سياسية وفلسفة حزبية، تقوم باستقطاب المجتمع وتقسيمه إلى المؤمنين وغير المؤمنين، بل إنه يدعو أولئك الذين يفكرون بطرق مختلفة إلى احترام بعضهم البعض وإلى التسامح ودعم السلام والمصالحة.

ومن وجهة نظري فإن جهود الأستاذ كولن ستساعدنا في فهم المكانة الحقيقية للدين(23)، فالأستاذ كولن يرى أن القرآن يخاطب المجتمع بأسره ويوكل إلى المجتمع تنظيم الواجبات المتعلقة بالإدارة، وبالتالي ينبغي على الناس أن يتعاونوا من خلال تقاسم هذه الواجبات المجتمعية، وإنشاء الأسس التنظيمية لأدائهم تلك المهمات. والإسلام يوصي بأن تكون الحكومة مؤسسة وفقًا لعقد اجتماعي ينتخب الناس المسؤولين ويقومون بإنشاء مجلس لمناقشة القضايا المشتركة، وأن يشارك المجتمع ككل في مراقبة وتقويم الإدارة(24)، والنظم الديمقراطية الحديثة تقوم بذلك من خلال الحكومة والبرلمان.

إن كولن يسعى إلى الإجابة عن الأسئلة التي يقدمها جميع الأشخاص في المجتمعات الحديثة المعقدة مثل: كيفية تطوير الصفات الإنسانية، والسلوك الجيد، وحب الآخرين، وتحسين الذات، والرغبة في خدمة الآخرين، وإحداث تغيير إيجابي في العالم، والمثابرة في مواجهة النكسات والفشل(25)، وبالتالي فـ”الخدمة” تلعب دور الوسيط المجتمعي؛ حيث تدعو المجتمع إلى تحمل مسؤوليته ضمن الحدود القانونية، وتساعد على إنشاء مساحات عامة مشتركة للتوصل إلى اتفاق حول تقاسم المسؤولية في إطار الفعل المجتمعي، بما يتجاوز مصالح الحزب السياسي أو وظائفه. وهذا بدوره يولد طاقات الأفراد المبتكرة، ويبقي النظام مفتوحًا للجميع، وينتج ابتكارات وحركات جديدة، ويطور النخب الثقافية، ويعمل على المناطق والمجالات التي تم استبعادها وتهميشها، ويركز الضوء على الإشكالات الحقيقية داعيًا للعمل من أجل الوصول إلى مجتمع ديمقراطي مفتوح.

إن الخدمة تلعب دور الوسيط المجتمعي، حيث تدعو المجتمع إلى تحمل مسؤوليته ضمن الحدود القانونية، وتساعد على إنشاء مساحات عامة مشتركة للتوصل إلى اتفاق حول تقاسم المسؤولية في إطار الفعل المجتمعي. 

نحتاج أن نتذكر أن الأستاذ كولن بدأ عمله بفعالية في فترة من التاريخ التركي تميزت بالانقسامات المصطنعة بين الناس، حيث كان التطرف الأيديولوجي وما يكتنفه من صراعات هو المسيطر في المجتمع(26)، الأمر الذي قوض الأمن والاستقرار، وقد أكد كولن أن علاج هذا الوضع الأليم يكمن في التعليم باعتباره مركز التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ووسيلة التقدم والرفاهية. فإذا تلقى الأفراد تعليمًا جيدًا فسيُكوِّنون مجتمعًا يحترم سيادة القانون وحقوق الإنسان والتنوع والاختلاف والثقافات الأخرى، فالأشخاص المستنيرون الذين يتمتعون بالخلق القويم ويمارسون أنشطة إيثارية قادرون على تحقيق العدالة الاجتماعية والسلام في المجتمع وفي العالم، فالتعليم هو العلاج الأنجع للأمراض التي تصيب المجتمع(27).

لقد قدم النموذج التعليمي “للخدمة” -بالفعل- في أثناء تطوره من مدينة أزمير عام 1984 حلولاً للمناطق التي تعاني من مشكلات عرقية – إقليمية، وجعلت الخلافات قابلة للتفاوض، ودعت الطلاب وغيرهم إلى التعايش بسلام في التنوع. ودعت إلى الحوار بين مختلف أطياف المجتمع وبين مختلف التقاليد العرقية والدينية حول العالم، ودائما تدعو إلى السلام والمحبة، الأمر الذي اجتذب كثيرًا من رواد الأعمال الذين أسهموا لخدمة تلك الأهداف، فأنشأوا مدارس ومؤسسات الخدمة في أكثر من 100 دولة حول العالم. وهكذا نستطيع أن نرى أن العمل الإيثاري يدعونا إلى البحث عن التغيير وتحمل المسؤولية، فهو يعطي الأفراد صوتًا في المجتمع ويمكن الفرد والجمهور من استيعاب مساحة الاختلاف، وتعزيز التضامن من أجل السلام والتماسك الاجتماعي(28).

إن كولن يشجع جميع الأفراد المتعاطفين مع آرائه على خدمة مجتمعاتهم والإنسانية جمعاء، بما يتوافق مع هذا الموقف السلمي المستمر دون مواجهات وبعيدًا عن السياسة.

إن طبيعة “الخدمة” هي حالة من نكران الذات من أجل خير المجتمع والإنسانية، فالمتطوعون لا يسعون لتحقيق طموحات شخصية أو مادية أو سياسية، وبالتالي فاهتمام الخدمة اجتماعي، لأن التفاعلات مبنية على العلاقات الاجتماعية وتحددها الروابط المتبادلة التي تربط الناس ببعضهم البعض. وهذا في حد ذاته يعد هدفًا لأن الأفراد والجماعات يعملون بشكل جماعي لبناء ما يعبر عنهم باعتبارهم مجتمعًا مدنيًّا. إن الخدمة -في الأساس- مبادرة مدنية وأيضًا حركة مجتمع مدني، فهي ليست مثيرة للجدل أو معارضة أو متعارضة أو سياسية. لقد بدأت نموذجًا للخدمة الإيمانية، وهي تشبه إلى حد كبير الصوفية ولكنها ليست كذلك فقط، إنها حركة إنسانية غير سياسية ومبادرة إيثارية للمتطوعين تقوم على أساس تغيير الفرد وتعليمه. كما يركز جزء من هذا التعليم أيضًا على زيادة وعي الفرد حول الحقوق القانونية وحقوق الإنسان المحددة دستوريًّا، وتعمل على تقوية التعددية الديمقراطية التشاركية والمساواة في الحقوق بين الجنسين.

لقد تم الاعتراف بالدور الإيجابي الذي تقوم به الخدمة في مجال الحوار بين الثقافات والأديان، لذلك فالعمل الجماعي للحركة هو نتيجة الجمع بين معانيها وقيمها ونواياها وأهدافها وأعمالها ونتائجها، لذلك فـ “الخدمة” تقدم نفسها إلى الجمهور الأوسع (الإنسانية جمعاء) وتتفاعل معه، وتقوم بذلك ضمن الحدود القانونية، وقد أظهرت ديمومة ومثابرة في الحفاظ على مسارها باعتبارها “قوة ناعمة” ضمن هوية متماسكة وسلمية داخل وخارج بلد المنشأ.

المشاركة الجمعية

إذا نظرنا إلى الحركات ذات الإستراتيجيات السياسية العلنية في المقام الأول فسنجد أنها تسعى إلى تغيير الحقائق الخارجية للمجتمع وغالبًا ما يكون لها أهداف مادية محددة، وتميل إلى التركيز على التغيير على مستوى الحكومة أو على المستوى الاقتصادي، أو تنحو لفرض اتجاه سياسي معين. لكن إذا وجهنا نظرنا إلى الحركات ذات البعد الإيماني فسنجدها تميل إلى التحول الداخلي باعتباره وسيلة وهدفًا للتغيير في أنظمة القيم؛ مستهدفة الحفاظ على المجتمع أو تجديده من خلال التركيز على الأفكار والمعتقدات والقيم والمعايير والهويات(29).

إن طبيعة “الخدمة” هي حالة من نكران الذات من أجل خير المجتمع والإنسانية فالمتطوعون لا يسعون لتحقيق طموحات شخصية أو مادية أو سياسية.

وهذا ما يفعله كولن؛ فهو يحاول في كتاباته حشد العناصر الروحية العالمية ضمن التقاليد والرموز والتعابير (الإسلامية/ الصوفية) الموروثة من أجل النهوض بأنظمة رمزية جديدة تقيم مستقبلاً جديدًا وترشد إليه. ومن المثير للاهتمام أن هذا النهج ذو طبيعة شاملة لا يرتبط بثقافة أو تراث أو هوية وطنية واحدة.

لقد نشأت الخدمة في تركيا ولكنها أصبحت عابرة للحدود بشكل متزايد، وهي تمثل مقاربة جديدة للعلاقة بين الإيمان والعقل والتعايش السلمي في الديمقراطيات الليبرالية مع التنوع الديني والتعليم الروحي(30)، وبالتالي فهي ليست قوى معادية لمواقف معارضة. لقد تجنبت الحركة بشكل منهجي العمل السياسي المباشر المثير للجدل، وبدلاً من التوجه العدائي، قامت بجهود على مستوى الفضاء الإعلامي لتنشيط الحياة الديمقراطية، كما قامت بجهود للجمع بين الأفراد والجماعات المتعادية لحثهم على التعاون المشترك من أجل خدمة المجتمع.

ومن الأمثلة البارزة على هذه الجهود إنشاء “مؤسسة الصحفيين والكتاب” في تركيا، التي جمعت بين الأكاديميين والعلماء ورجال الدولة والصحفيين الذين يتبنون وجهات نظر مختلفة وحتى متضاربة في منتدى “أبانت” وفي المؤتمرات المختلفة، حيث تُواصلُ من خلال هذه المنصات إبراز الأمور العاجلة إلى الواجهة للمشاركة في روح بناءة من أجل العمل على علاجها، والبدء في مفاوضات بشأن القضايا التي تسببت في توترات واشتباكات على مدى عقود.

لقد حظي “منتدى أبانت” على وجه الخصوص بتقدير واسع النطاق كمنتدى فعال لحل المعضلات التي يتوق الكثير من الناس في المجتمع التركي إلى مناقشتها وحلها بشكل مفتوح، وهكذا أسهمت الخدمة في تدريب المجتمع على إمكانية العيش المشترك، والإحساس المشترك بالمواطنة دون الحاجة إلى الصدام، وعلى أساس من الاحترام المتبادل والوصول إلى الحل الوسط.

ونظرًا لأن القضايا التي يتم مناقشتها تدخل حيزًا عامًا فهي تصل إلى دوائر صنع القرار، مما يحول المبادرات إلى إمكانيات للتغيير الاجتماعي دون أي مواجهة عدائية أو استفزازية، فهذه المبادرات تسمح بخلق مساحة للحديث وبالتحدث دون جدال وباحترام الغير والاستماع إلى وجهة نظره. ومن ثم فهذه المبادرات تخلق نوعًا آخر من الحوار يختلف عن الحوار التصادمي مع الأنظمة وقوى صنع القرار داخل الدولة، ولكنه لا يثير الحفيظة، لأن الأستاذ كولن يعلم بحكمة الدور المناسب للمؤسسات الاجتماعية، وبالتالي يساعد في تحديد ما يمكن أن تصبح عليه الديمقراطية التشاركية دون الدخول في دوامات الصراع(31).

إن الحراك الجمعي مثل الخدمة يقدم نموذجًا جديدًا، فهو يعيد تعريف الفضاء العام، ويعيد إنتاج قواعد جديدة للإدراك وبالتالي ينتج واقعًا يتجاوز ما هو موصوف في خطاب الهيمنة الحالي. كما تمتلك الخدمة خطابًا واضحًا، دائمًا يقوم على أهمية الحوار سواء الديني أو السياسي بين الفاعلين الاجتماعيين المنفصلين. ومع ذلك، فقد أثارت هذه الفعاليات-كما هو الحال مع الحركات الاجتماعية الأخرى- حفيظة مجموعات القوى القائمة في تركيا وخارجها؛ فأي حراك جمعي لم تبدأه مؤسسة السلطة، يُنظر إليه باستياء من تلك المؤسسة لأنها تميل إلى اعتبار أي عمل جماعي مستقل تهديدًا محتملاً عليها، وإذا أثبت الحراك الجماعي المستقل نجاحه أو فعاليته، تتجمع مؤسسة السلطة ضده، بمنطق أنه تعدى على أرضيات تحتاج مجموعات المصالح الخاصة إلى احتكارها من أجل متابعة مشاريعها وخططها المعينة والاحتفاظ بسلطتها.

ورغم ذلك فإن جوهر الحركة هو التعليم الذي يعالج العلاقات بين الناس، وبين الإنسان ونفسه وينعكس على السلوك الفردي للإنسان. لذلك لا تشجع الخدمة المنطق العدائي للتغيير، سواء في تركيا أو في أي مكان آخر، ويشجع الأستاذ كولن الناس على خدمة الإنسانية من خلال التعليم ومن خلال مؤسسات الحوار بين الثقافات والأديان، مستهدفًا سد الفجوات بين الشعوب وإقامة روابط من أجل الصالح المشترك والسلام العالمي. وقد أوضح كولن أن أكبر ثلاثة أعداء للمجتمع هم الجهل والفقر والانشقاق الداخلي. والمعرفة ورأس المال الفعال والاتفاق هي العلاج الفعال للقضاء على هؤلاء الأعداء الثلاثة المتربصين بالمجتمع، لكن الجهل هو المشكلة الأكثر خطورة بينهم، وهزيمته من خلال التعليم يعد دائمًا أهم وسيلة لخدمة الآخرين، فالتعليم هو الأداة الأكثر فاعلية للتغيير الإيجابي. إن علاج كل مشكلة في حياة البشر تعتمد في النهاية على مبادرة وقدرات البشر أنفسهم، وبالتالي فتخفيف حدة الفقر يتم من خلال العمل وحيازة رأس المال من أجل بذله في خدمة الآخرين. أما الانشقاق الداخلي فالتغلب عليه يتم عبر السعي لنشر قيم الحوار والتسامح، والعيش المشترك(32).

لقد قدمت الخدمة صورة زمنية لرحلة مستمرة لهجرة شارك فيها المسلمون بشكل مستمر منذ أن هاجر النبي في الظروف الخطرة إلى مدينة ليست مسلمة، وما تقوم به الخدمة اليوم هو تلبية لدعوة تلك الهجرة الأصلية. وكذلك قدمت صورة زمنية للجهاد الحقيقي والنضال الروحي الداخلي والخارجي مع القوى الأنانية الجماعية السياسية المنتشرة. إنه سرد للأبعاد والرموز الأخروية، إن الخدمة تمثل المفهوم القرآني لشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان الكامل، وعلى كل شخص يعترف بشرفه وقدره  أن يقتضي به ويكون رحمة للعالمين”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

*ترجمة: صالح القاضي

(1) Bulac, Ali “The Most Recent Reviver in the ‘Ulama Tradition” in Robert A. Hunt & Yüksel A. Aslandogan[eds] Muslim Citizens of the Globalized World: Contributions of the Gülen Movement. Somerset, NJ, USA, The Light, Inc & IID Press, 2007.100-102.

(2)  Zald, M & McCarthy, J “Religious Groups as Crucibles of Social Movements” in Denerath, N.J, Hall, P.D, Schmitt, T, & Williams, R.H Sacred Companies: Organizational Aspects of Religion and Religious Aspects of Organizations, Oxford, Oxford University press, 1998. 329.

(3)     Melucci, A. Challenging Codes: Collective action in the information age. Cambridge, Cambridge University Press. (Reprinted 1999; First edition 1996.) Michel, Thomas, Sufism and Modernity in the Thought of Fethullah Gülen. The Muslim World, Special Issue, Islam in Contemporary Turkey: the Contributions of Gülen, 95(3), 2005, 20-30.

(4)     Melucci 1999; 113

(5)     Edwards, B. & McCarthy, J. D. Resources and Social Movement Mobilistion. In: Snow, D. A., Soule, S.A. & Kriesi, H. eds. The Blackwell Companion to Social Movements. Oxford, Blackwell, 116–52, 2004.120.

(6)     Earl, J. (2004) Cultural Consequences of social Movements. In: Snow, D. A., Soule, S.A. & Kriesi, H. eds. Framing Processes, Ideology, and Discursive Fields, The Blackwell Companion to Social Movements. Oxford, Blackwell 2004.513.

(7)     Koopmans, R. Protest in Time and Space: The Evolution of Waves of Contention. In: Snow, D. A., Soule, S.A. & Kriesi, H. eds. 2004.25.

(8)     White, Jenny B. Islamist Mobilization in Turkey: A Study in Vernacular Politics, Seattle, University of Washington Press, 2002.112.

(9)     Gülen, Fethullah, Criteria or Lights of the Way. London, Truestar, 2000.21.

(10)     Zald, M & McCarthy, J “Religious Groups as Crucibles of Social Movements” in Denerath, N.J, Hall, P.D, Schmitt, T, & Williams, R.H Sacred Companies: Organizational Aspects of Religion and Religious Aspects of Organizations, Oxford, Oxford University press, 1998, 226.

(11)     Hefner, R. W. ed. Democratic Civility: The History and Cross-Cultural Possibility of a Modern Political Ideal. New Brunswick, Transaction Publishers 2004.10.

(12)     Weller, P. G. Religions and Social Capital: Theses on Religion(s), State(s) and Society(ies) with Particular Reference to the United Kingdom and the European Union, in The Journal of International Migration and Integration XI(2), 2005, 272.

(13) Gülen, Fethullah Toward a Global Civilization of Love and Tolerance. Somerset, New Jersey, The Light Inc, 2004.199.

(14)     Ahmad, F ‘The Historical Background of Turkey’s Foreign Policy’ in Martin, L.G & Keridis, D, The Future of Turkish Foreign Policy, Cambridge, Mass, MIT Press, 2004.9.

(15) لاهوت التحرير هو مزيج من اللاهوت المسيحي والتحليلات الاجتماعية-الاقتصادية الماركسية، التي تشدد على الاهتمام الاجتماعي بالفقراء، والتحرر السياسي للشعوب المضطهدة، وهو ما كان يمثل الممارسة السياسية لعلماء الدين في أمريكا اللاتينية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. (المحرر)

(16)     Koopmans, R. Protest in Time and Space: The Evolution of Waves of Contention. In: Snow, D. A., Soule, S.A. & Kriesi, H. eds. 2004.3.

(17)     Gülen, Fethullah Toward a Global Civilization of Love and Tolerance. Somerset, New Jersey, The Light Inc, 2004.210-214.

(18)     Ünal, A. & Williams, A. Fethullah Gülen: Advocate of Dialogue. Fairfax, VA, The Fountain, 2000.22-23.

(19)     Michel, Thomas, ‘Gülen as Educator and Religious Leader.’ In: The Fountain (2006), 110)

(20)     Ünal, A. & Williams, A. Fethullah Gülen: Advocate of Dialogue. Fairfax, VA, The Fountain, 2000.277.

(21)     Yilmaz, I. ‘State, Law, Civil Society and Islam’ in Contemporary Turkey. The Muslim World Special Issue, Islam in Contemporary Turkey: the Contributions of Gülen, 95(3), 2005, 399.

(22)     Yilmaz 2005. 397; Unal & Williams 2000. 36

(23)     Unal & Williams 2000. 158.

(24)     Gülen 2004. 223.

(25)     Michel, Thomas, ‘Gülen as Educator and Religious Leader.’ In: The Fountain (2006), 354.

(26)     Çetin, M. Voluntary Altruistic Action: Its Symbolic Challenge against Sinecures of Vested Interests. Presented at second Annual Conference on Islam in the Contemporary World: The Fethullah Gülen Movement in Thought and Practice, organized by the Department of Religious Studies at the University of Oklahoma, Norman, Oklahoma, the Institute of Interfaith Dialog, Texas, and Petree College of Art and Sciences at Oklahoma City University, November 3–5, 2006, at University of Oklahoma, Norman, Oklahoma, U.S.A, pp.21.

(27)               Gülen 2000. 4.

(28)               Aslandogan & Çetin, 2007:46–59.

(29)     Melucci 1999. 156.

(30)     Aslandogan, Y. A. & Çetin, M. ‘Gülen’s Educational Paradigm in Thought and Practice. In: Hunt, R. A. & Aslandogan, Y. A. Muslim Citizens of the Globalized World: Contributions of the Gülen Movement. Somerset, New Jersey, IID Press & The Light Inc, 2007.vii.

(31) Weller, P. G, ‘Fethullah Gülen, Religions, Globalization and Dialog. In: Hunt, R. A. & Aslandogan, Y. A. (2007) Muslim Citizens of the Globalized World: Contributions of the Gülen Movement, 2007.86.

(32) Ünal, A. & Williams, A. Fethullah Gülen: Advocate of Dialogue. Fairfax, VA, The Fountain, 2000.305-331.